ملخص
وفق وزارة الداخلية الفرنسية، شارك ما لا يقل عن 175 ألف شخص في نحو 550 تظاهرة بمختلف أنحاء البلاد، أسفرت عن 540 حالة توقيف، بينها 211 في العاصمة باريس، وطالب المحتجون بإسقاط خطة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، التي فجّرت غضباً واسعاً بعد طرحها لإلغاء يومي عطلة سنويين وتقليص كلفة الرعاية الطبية للعاملين، في إطار مسعى حكومي إلى خفض الإنفاق وزيادة الإنتاج.
اجتاحت موجة عارمة من الاحتجاجات شوارع فرنسا صباح الـ10 من سبتمبر (أيلول) الجاري، حيث خرج عشرات آلاف من المتظاهرين في مختلف المدن رافعين شعار "لنغلق كل شيء" تعبيراً عن رفضهم سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون وحكوماته المتعاقبة، وجاءت هذه التحركات تزامناً مع تسلّم وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو مهماته الجديدة بعد تكليفه بتشكيل حكومة، لكن الشارع الفرنسي بدا منشغلاً بمطالب أكثر إلحاحاً.
ووفق وزارة الداخلية، شارك ما لا يقل عن 175 ألف شخص في نحو 550 تظاهرة بمختلف أنحاء البلاد، أسفرت عن 540 حالة توقيف، بينها 211 في العاصمة باريس، وطالب المحتجون بإسقاط خطة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، التي فجّرت غضباً واسعاً بعد طرحها لإلغاء يومي عطلة سنويين وتقليص كلفة الرعاية الطبية للعاملين، في إطار مسعى حكومي إلى خفض الإنفاق وزيادة الإنتاج.
ملامح سياسية
وكشف مدير مرصد الرأي العام التابع لمؤسسة جان جوريس، الذي أجرى تحقيقاً حول تداعيات احتجاجات الـ10 من سبتمبر على وسائل التواصل الاجتماعي، عن ملامح المشهد السياسي والاجتماعي الذي رافق هذه الحركة.
فبحسب نتائج الدراسة، يرى 78 في المئة من الفرنسيين، من بينهم مؤيدو الحركة، أن النظام السياسي القائم لا يعكس أفكارهم ولا يمثلهم، كما وصف الباحث حركة "امنع كل شيء" بأنها متجانسة نسبياً، إذ يشكّل ناخبو اليسار الراديكالي 86 في المئة من مؤيديها.
ومع ذلك، يوضح التقرير أن الشعور بضعف تمثيل الطبقة السياسية يتجاوز حدود هذه الحركة ليشمل المجتمع الفرنسي بأكمله، خصوصاً مع تصاعد القلق في شأن مستقبل الديمقراطية بعد حل الجمعية الوطنية والأزمة السياسية التي أعقبته.
وعلى منصات التواصل، برزت مطالب حركة الـ10 من سبتمبر مركّزة بالأساس على العدالة الاجتماعية ومكافحة عدم المساواة، إلى جانب مواقف مؤيدة للهجرة ورؤية ليبرالية جداً في القضايا الثقافية.
وتباينت المواقف السياسية في فرنسا عقب الاحتجاجات، بين من اعتبرها تعبيراً مشروعاً عن غضب الشارع ومن وصفها بالتمرد والفوضى.
وعلى منصة "إكس"، شددت زعيمة كتلة "التجمع الوطني" مارين لوبان، على أن "الخروج من الأزمة لن يتحقق عبر إستراتيجية التمرد الدائم"، منتقدة ما وصفته بـ"مشاهد التدهور والعنف ضد قوات الأمن" نتيجة "مصادرة حزب العمال الفرنسي حركة الاحتجاج ضد سياسات ماكرون"، وأكدت لوبان أن الحل يكمن في "صناديق الاقتراع، لا في شرعنة الفوضى التي يرفعها اليسار المتطرف شعاراً".
من جانبه، أقر أوليفييه، السكرتير الأول للحزب الاشتراكي، بوجود أعداد كبيرة من الشباب خلال التظاهرات، وكتب على منصة "إكس" قائلاً "عبّر 200 ألف متظاهر عن استيائهم وغضبهم اليوم، في المدن والقرى، كان عدد كبير من الشباب حاضراً، وحشدت الأغلبية الساحقة من دون عنف، على الحكومة أن تستمع إليهم".
وأضاف أوليفييه "إذا رفض رئيس الوزراء الجديد الاستماع إلى المتظاهرين، كما رفض أسلافه رسالة صناديق الاقتراع، فسيُلام".
في المقابل، أشاد جان لوك ميلينشون وهو زعيم حزب "فرنسا الأبية"، بحراك "اقطعوا كل شيء" واصفاً إياه بـ"الناجح"، وأثنى بشدة على أسلوب "التنظيم الذاتي" الذي ميّز الحركة، ويوضح مؤسس "فرنسا الأبية"، الذي يُقارن هذه الحركة بـ"ثورة المواطن" العزيزة على قلوب أنصاره، قائلاً "أيام كهذه تُمثل لحظات رائعة للتعلم والإبداع، وتشهد على ذلك المبادرات المحلية الكثيرة، وتتغذى ثقافة العمل المحلية منها، ومن ثم تُشكل تقليداً".
ويأمل المرشح الرئاسي، الذي كان حاضراً في تجمع حاشد بساحة شاتليه في باريس، أن "كل ما تم تعلمه في هذه المرحلة سينعكس في اللحظات الحاسمة".
في هذا السياق، يرى المحامي بهيئة باريس فريد حسني أن الاحتجاجات جاءت تعبيراً عن غضب الشارع الفرنسي من السياسات التي انتهجها إيمانويل ماكرون منذ بداية ولايته الثانية، التي أسهمت في إفقار المجتمع الفرنسي وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، مؤكداً أن كل هذه العوامل دفعت الفرنسيين إلى التعبير عن رفضهم خيارات ماكرون، بخاصة أنه لم يُصغِ لمطالب الشارع منذ حركة "السترات الصفراء"، وهو ما أدى تدرجاً إلى تراجع شعبيته وتصاعد الدعوات المطالبة باستقالته وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
ويضيف حسني أن كل هذه التحركات والاحتجاجات تمثل أداة ضغط على الحكومة، ومن المتوقع أن يُضطر رئيس الوزراء الجديد، سيباستيان، إلى تقديم بعض التنازلات لضمان استمرارية حكومته، إذ لا يملك بدائل أخرى.
حراك سلمي
أما بخصوص ما إذا كانت هذه الاحتجاجات تعكس انسداد قنوات الحوار السياسي، فيؤكد حسني أنها لا تعني ذلك، وإنما هي حراك سلمي يطالب بمطالب محددة ويرفض سياسة ماكرون، ويرى أن هذه الموجة الاحتجاجية قد تمنح دفعة قوية للمعارضة التي تصر على استقالة الرئيس، بخاصة بعد تعيينه رئيس وزراء مقرباً منه، في إشارة واضحة، برأي حسني، إلى عدم نيته في تغيير سياسته أو تعديل برامجه المستقبلية.
في المقابل يقول المحلل السياسي في الشأن الفرنسي نبيل شوفان "لاحظنا أن حزب ’فرنسا الأبية‘في أقصى اليسار عبر عن موقف متشدد بعد تعيين سيباستيان لوكورنو رئيساً للوزراء، إذ تبنى الاحتجاجات وشجع عليها بقوة، وقال إنه سيقدم اقتراحاً بحجب الثقة عن رئيس الوزراء الجديد وطالب في موقف متشدد برحيل ماكرون، وصحيح أننا أمام مشهد يزداد فيه عدم رضا الفرنسيين على أداء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أعين شريحة متزايدة من السكان، إذ تظهر استطلاعات الرأي أن ثلثي الفرنسيين يؤيدون رحيله، بينما يقول فقط 21 في المئة إنهم راضون عن أداء الرئيس"، موضحاً أن "عدم الرضا عن النتائج" لا يعني بأية حال "الطعن في شرعية"، لأن الرئيس المنتخب لا يزال يحتفظ بوسائل حكم مؤسسية قوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد شوفان أن هناك من يرى أن ماكرون يضرّ بديمقراطية الانتخابات التشريعية الأخيرة لأنه لم يختر أية شخصية من اليسار للمشاركة في الحكم لذا عليه ترميم صورته أمام الفرنسيين، ولكن يجب أن نذكّر أنه إذا كان استطلاع أجرته مؤسسة "إيبسوس" يظهر أن 74 في المئة من الفرنسيين لا يثقون في الرئاسة، فإن 86 في المئة لا يثقون في الأحزاب السياسية برمتها ويعتبرونها مسؤولة عن عدم الاستقرار البرلماني، وسط انقسام الجمعية الوطنية بين كتل ثلاث هي اليسار واليمين المتطرف والوسط، وهو ما عقد ويعقد أية غالبية لتمرير الموازنة أو قوانين الإصلاحات الأساسية.
ويضيف المحلل السياسي قائلاً "لا بد بهذا الإطار من التفريق بين الشخص والمنصب، فاستقالة ماكرون ستتسبب بكارثة مؤسسية، إذ حذر الكاتب والمستشار السابق لنيكولا ساركوزي، هنري غوينو، وهو إذ يذكر بمعارضته للرئيس الحالي، فإنه يرى في الوقت نفسه أن ماكرون إذا استقال، فلا بد من إجراء انتخابات في غضون شهر، وبمن ثم يستشرف هذا السيناريو الذي يعتبره كارثياً، لأن الشخص الذي سيُنتخب سيرث منصباً ضعيفاً وسيكون له هو نفسه شرعية ضعيفة لأنه لن يكون لديه ولاية حقيقية بعد حملة انتخابية قصيرة للغاية، ومن ثم فإن الشرعية ستكون مأزقاً فعلياً".
التزامات النظام
ويعتقد شوفان أن الوضع السياسي المتوتر يجب أن يستغل بحيث يعيد الأحزاب إلى مركز اللعبة السياسية الديمقراطية في البلاد، لأن حركة "منع كل شيء" تكشف عن إخفاقات التظاهرات غير المنظمة التي تهرع أحزاب بعينها لتبنيها كل مرة لتزيد حدة الانتقادات الموجهة لماكرون ولو بدا بعضها "انتهازية" من أقصى اليمين واليسار على حد سواء، إذ يرون في التظاهرات فرصة لانتقاد السلطة التنفيذية بأنها تحكم على رغم معارضة الشعب ما يغذي أجواء عدم الثقة ويؤدي إلى جعل التوصل إلى تسوية صعباً للغاية، مع بقاء خطر أن يفقد ماكرون حلفاءه المعتدلين، مما يعزز المعارضة المؤسسية وكذلك الشعبية، إذا لم يسرع رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو المحسوب على ماكرون و"سيتهم بمواصلة سياسات الرئيس" للقيام بخطوات فعلية لإقرار موازنة وتحقيق تقدم بما يخص العدالة الاجتماعية والبيئية، وفي هذا الإطار تعهد رئيس الوزراء الجديد سيباستيان لوكورنو بإيجاد طرق مبتكرة للتعاون مع معارضي الحكومة من أجل تمرير موازنة تهدف إلى خفض الديون، متعهداً بتوجهات جديدة.
أوروبياً، يؤكد شوفان أن الاحتجاجات والصعوبات الداخلية ستخلق صعوبة أمام باريس للتحدث بصوت قوي حول القضايا الأوروبية سواء كانت تتعلق بالالتزامات المالية أو التجارة الدولية أو الدفاع أو حتى تغير المناخ، وقد يضعف ذلك موقفها في المفاوضات الخارجية، بما في ذلك داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي الذي يضغط على فرنسا للامتثال للقواعد المالية الأوروبية لا سيما ميثاق الاستقرار، لكن مع العلم أن التظاهرات جاءت رداً على تدابير تقشف ضمن إصلاحات تعتبرها المفوضية الأوروبية مؤلمة ولكنها ضرورية، خصوصاً أن بعض أحزاب المعارضة من اليمين المتطرف واليسار المتطرف تعارض أوروبا بشدة.
و في ما يتعلق بمحاولات الإغلاق وقيام المتظاهرين بإغلاق الطرق والتقاطعات والدوارات، واستخدام حواجز وإحراق صناديق القمامة، ومهاجمة عناصر الأمن بعنف مفرط، وما إلى ذلك، فإن هذا كله في رؤية المحلل السياسي نبيل شوفان يؤكد وصول الحوار بين السلطة واليسار المتشدد إلى طريق مسدود، لأنه من المعلوم أن حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتشدد هو من شجع الشباب والطلاب الذين لا يمتلكون قيادة قوية أو مؤسسية مرئية على الاحتجاج بهذا الشكل العنيف "الراديكالي"، وإذا كانت مارين لوبين زعيمة اليمين المتطرف اتهمت اليسار المتطرف باختطاف الاحتجاجات، فإن رئيس الوزراء الجديد سيباستيان لوكورنو تحدث تزامناً مع احتجاجات حركة "لنغلق كل شيء" بأن الحكومة ستحتاج إلى "أن تكون أكثر إبداعاً، وأحياناً أكثر تقنية، وأكثر جدية" في طريقة تعاملها مع خصومها في إشارة على ما يبدو إلى اليسار المتشدد، وأضاف "القطيعة ستكون ضرورية ليس فقط على مستوى الشكل أو المنهج، بل أيضاً على مستوى المضمون".
مشاورات ونقاشات
ومع ذلك يرى مراقبون أنه لا بد من الإبقاء على قنوات الحوار التقليدية بما فيها المشاورات والنقاشات البرلمانية والتبادلات مع الناخبين والمسؤولين المنتخبين بالدرجة الأولى، لأن غياب اتفاق حكومي مع هذه الأحزاب سيجعل استمرارية حكومة لوكورنو مهددة كما سابقاتها الأربع، وسيؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات والسلطة التنفيذية بصورة كبرى، ومن ثم على رأس أولويات الحكومة الجديدة سيكون إصلاح الانطباع السائد بأن السياسة بعيدة من اهتمامات الشعب وهو ما تحدث عنه لوكورنو بعد مراسم التنصيب.
و يختم شوفان بالقول "يبقى أن هناك من يرى بأن هذه الاحتجاجات طارئة وليست دائمة أو إستراتيجية في ظل عدم وجود تنظيم أو قيادات مؤثرة سياسياً، أو حتى مطالب واضحة، بل احتجاجات غاضبة يمكن التعامل معها عبر الحوار، وقد نجحت الحكومة بأكثر من مناسبة بإنهاء احتجاجات بواسطة الحوار كما فعل غابرييل أتال مع احتجاجات المزارعين عام 2024، وهذا يدل على أن هناك مجالاً للحوار وأن الحكومة الفرنسية لا تزال تمتلك زمام المبادرة وآليات استجابة باعتبار أنها مؤسسة تمثل كل الفرنسيين وتستمع لمطالبهم، لذا يمكن أن نستبعد أن أبواب النقاش والحوار مغلقة أو وصلت إلى طريق مسدود".