Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شتاء غزة يمحو ما بقي من ذكريات طفولتي الدافئة

كان الشتاء في غزة موسماً للراحة والفرح أما اليوم فمياهه الجارفة ورياحه تختبر قدرة كل من يعيش هناك على الصمود

فيضانات عنيفة ضربت منطقة دير البلح هذا الأسبوع (أ ب)

ملخص

من دفء طفولة امتلأت بالمطر والحكايات، تحوّل الشتاء في غزة إلى فصل من الخوف والنزوح والمعاناة، حيث تكافح عائلات بأكملها للبقاء تحت الخيام وسط البرد والجوع والرياح القاسية. ومع كل قصة فقدٍ وصمود، يبقى الأمل بأن يعود الشتاء يوماً كما كان، وأن يركض أطفال غزة تحت المطر بلا خوف.

في طفولتي، أحببتُ الشتاء. فما إن تحجب الغيوم السوداء السماء، وتلامس قطرات المطر الأرض، حتى تجتمع العائلة في بيت جدي وجدتي. أجلس إلى جوار جدي وهو يشعل النار، بينما تضع جدتي إبريق الشاي ليسخن. كان الشتاء لنا موسماً للراحة، ولم يعرف البرد إلينا طريقاً.

نهاراً، كنتُ وأبناء عمومتي نركض حفاة عبر البرك المتناثرة في الشوارع، نلعب "الغميضة" (أو الغميمة) وننزلق خلف الجدران والأشجار والمطر يغمرنا من رؤوسنا حتى أقدامنا. أسمع أمي تنادينا لنعود قبل أن نمرض. وليلاً، كان جدي يقص علينا حكايات أسفاره في ستينيات القرن الماضي.

ومع تقدم العمر، بدأت أقضي شتاءاتي أكثر مع الأصدقاء، نتحدث عن أحلامنا المقبلة والأهداف التي نرجو بلوغها بعد التخرج. أحياناً كنت ألتقي خالد ومحمود في بيت محمد حمو – وقد رحل الآن، رحمه الله – فنشعل النار، ونعد مشروبنا المفضل، الشاي، على الحطب، ونلعب الورق، أو نشاهد الأفلام والمسلسلات.

وفي البيت، إذا امتلأ الجو بصوت المطر، أو أثقلتني الدراسة، كنت أخرج إلى شرفة غرفتي أراقب المطر وأستمتع بالرياح الباردة. وكان من عادتي أن أتابع الغروب من تلك الشرفة. وما كان يزيد المشهد روعة في الشتاء هو أسراب الطيور المهاجرة العائدة على طول الساحل، ترسم أنماطاً جميلة وخاطفة في السماء.

دمر الغزو الإسرائيلي لـ غزة كل المشاعر الطيبة التي كنت أحملها للشتاء. فقد أجليت عائلتي في الـ 13 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 من دون فراش أو ملابس شتوية. وتمكنا بعد ذلك من شراء بضع بطانيات، بلغ ثمن الواحدة منها نحو 35 دولاراً. ولم يكُن لأخي الأصغر ولي سوى بطانية واحدة نتقاسمها. وبعد أسابيع، كنا ننام في فناء مدرسة، والرياح الشتوية تعصف بنا بقسوة. استيقظت في أحد الأيام مرتجفاً من البرد لأجد البطانية مبللة بالكامل من أمطار خفيفة. ومنذ ذلك اليوم، كرهت الشتاء.

آلاف العائلات مرت بتجارب تشبه تجربتنا. إسماعيل عابد، البالغ 19 سنة الذي كان يعيش مع أسرته المؤلفة من 14 فرداً في خيمة صغيرة موقتة محاكة من بطانيات موصولة ببعضها، استيقظ مراراً وهو غارق في الماء. وكانت الأسرة تلجأ إلى خيمة الجيران طلباً لقليل من الراحة من قسوة الطقس.

يقول لي إسماعيل: "كنا نغرق كلما أمطرت قبل أن نحصل على خيمة من ’أونروا‘". وكانوا يتشاركونها مع عائلة أخرى بلا مأوى. "هذه الخيمة الجديدة حمتنا من المطر، لكن البرد القارس الذي حملته الرياح، مع عدم امتلاكنا ما يكفي من البطانيات لنغطي أنفسنا، كان حقاً لا يحتمل".

وفي خيمتنا نحن، كان عددنا كبيراً إلى حد لم يُبقِ لنا مساحة نوقد فيها ناراً نتدفأ بها. وحتى طهي الطعام أصبح أشد صعوبة في الشتاء. ولم نملك غازاً للطبخ، بعدما منع الاحتلال الإسرائيلي دخوله إلى القطاع. أما المكان الذي كنا نشعل النار فيه للطهي فلم يكُن مغطى، فكانت النار تنطفئ كلما بدأ المطر بالهطول.

والعيش في خيمة كان يعني أننا نضطر إلى شراء ما نحتاج له من طعام كل يوم، إذ لم تكُن لدينا ثلاجة ولا مكان آمن نحفظ فيه الطعام بعيداً من الجرذان والصراصير. وكثيراً ما كنا نسير قرابة ساعتين تحت المطر لنعود بما يلزم من الدقيق أو الرز من السوق.

محمد أبو المهزع، وهو صديق من شمال غزة، نزح أكثر من مرة خلال الشتاء. ففي ديسمبر (كانون الأول) عام 2023 اضطرت عائلته إلى الإخلاء من مخيم الشاطئ غرب غزة إلى حي الشيخ رضوان، سيراً على الأقدام تحت المطر.

قال لي: "أصبنا جميعاً بالمرض في اليوم التالي، وبقينا كذلك لأكثر من 10 أيام بسبب قلة الدواء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما أسامة عدس، البالغ 23 سنة، فنزح مع أسرته من الشمال إلى جنوب غزة في سبتمبر (أيلول) الماضي. لم يكونوا يعرفون أحداً هناك، فنصبوا خيمتهم على بعد نحو 20 متراً من البحر. وكانت الرياح الساحلية ليلاً شديدة القسوة، فظلت العائلة في انتظار اليوم الذي تستطيع فيه العودة للشمال.

عندما أعلن وقف إطلاق النار، عاد أسامة لبيته ليجد المبنى بأكمله، بطوابقه الأربعة، تحول إلى ركام. وبدلاً من البدء بالإعداد لعودة أسرته، اضطر إلى التوجه جنوباً على الفور، طالباً من والده أن يبحث عن مكان أفضل لنصب الخيمة. ولا تزال العائلة نازحة بلا مأوى آمن. خيمتهم الجديدة في منطقة المشاعلة شرق دير البلح تقيهم المطر على نحو أفضل، لكن الريح تتسلل منها عبر الفجوات. وقال لي أسامة: "لا أعرف كيف سأجتاز هذا الشتاء. الأمطار الغزيرة لم تبدأ بعد، ومع ذلك فالمطر يتسرب إلى داخل الخيمة".

مع سقوط أول قطرة مطر، وأنا أصلي أن ينتهي هذا الفصل. كان الشتاء في الماضي موسماً للدفء والضحكات وجمال اللحظات العابرة، لكنه في غزة بات زمناً للخوف والمشقة والمعاناة. صار الشتاء يحكي الآن قصة صمود: عن حياة تقتلع من جذورها، وعن بقاء ينتزع نفسه وسط المستحيل، وعن أمل في أن يعود هذا الفصل يوماً لسابق عهده المريح… وأن يركض أطفال غزة حفاة تحت المطر من جديد، بلا خوف.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء