Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أكبر من حكاية: تلك "الساعة" هدية هارون الرشيد لشارلمان

في وقت خرجنا نحن من الدقة إلى القدر والاتكال والكسل دخل الغرب مربع التوقيت والتدقيق والعمل

الساعة في فلسفتها هي صورة للعمل المنتج (مواقع التواصل)

ملخص

هي حكاية، لكنها ليست مجرد حكاية، إنها أكبر من ذلك بكثير!

أن تبدع حضارة هارون الرشيد "ماكينة الساعة" فهذا يعني أن المجتمع في تلك المرحلة كان يتمتع بفن وفكر وعلم متقدم وبمثل هذه الماكينة وغيرها دخل هارون الرشيد ومعه مجتمعه منعطفاً تاريخياً وحضارياً حاسماً.

 أصل الحكاية، من بغداد عاصمة العباسيين، وبالضبط من قصر هارون الرشيد، ذاك الصباح من صباحات يوم من أيام عام 807 ميلادي، بحسب المؤرخين الفرانك، قد يكون التاريخ ليس دقيقاً جداً لكنه قريب جداً من ذلك، تتحرك قافلة على رأسها السفير الخاص للخليفة وممثله الشخصي المسمى عبدالله في اتجاه قصر الإمبراطور شارلمان الكائن في مدينة إيكس لا شابيل بألمانيا، وبالضبط على الحدود البلجيكية- الهولندية، وقبل أن تأخذ القافلة طريقها يستقبل هارون الرشيد ممثله الشخصي عبدالله هذا ليعطيه بعض الإرشادات والتوجيهات، ويسلمه رسالة وهدية خاصة جداً، من الخليفة العباسي إلى شارلمان إمبراطور كارولنجيان.  

في ذلك الزمن البعيد منا بـ12 قرناً، كانت الرحلة من بغداد إلى إيكس لا شابيل تستغرق ما بين أربعة وستة أشهر، على ظهور الجمال تارة والسفن البحرية تارة أخرى، على ظهور الأحصنة والبغال ثالثة وعلى الأقدام أيضاً.   

البعثة الدبلوماسية التي تحركت من بغداد عام 807 ميلادي تحمل في حقائبها وبين أمتعتها هدية استثنائية، هدية تختلف عن جميع الهدايا السابقة التي كثيراً ما كانت تتبادل ما بين ملوك وخلفاء الشرق وأباطرة وملوك الغرب والمتمثلة عادة في قطع الذهب والماس والنساء والعبيد والفيلة والزرافات والطيور وجلود الأفاعي والبارود والحرير والمخطوطات والتوابل والعطور... 

البعثة هذه المرة تحمل هدية غريبة إنها ساعة مائية! ربما هي أول ساعة مائية للاستعمالات اليومية عرفتها الحضارات البشرية!

لكن لماذا أبدع علماء بغداد وحكماؤها وتقنيوها وحرفيوها هذا "الشيء الغريب" الذي سموه "الساعة" المائية؟

أن تبدع حضارة هارون الرشيد "ماكينة الساعة"، فهذا يعني أن المجتمع في تلك المرحلة كان يتمتع بفن وفكر وعلم متقدم وبمثل هذه الماكينة وغيرها دخل هارون الرشيد ومعه مجتمعه منعطفاً تاريخياً وحضارياً حاسماً.

حين يشرع الإنسان في التفكير في فلسفة "الوقت" وإجراءات "التوقيت"، أي حساب الوقت الشخصي والعام بالدقيقة والثانية والساعة، فاعلم بأن هذا الإنسان دخل مرحلة استعمال العقل في مواجهة سؤال الوجود. 

إعلم بأن هذا الإنسان انتقل من مرحلة الحساب الطبيعي الفلاحي إلى مرحلة صياغة السؤال الفلسفي الذي يراقب ويقيس المسافة ما بين الحياة والموت بدقة، والذي يتساءل عن وتيرة الحياة وعن المسافة الجغرافية وعلاقتها بالمسافة الزمنية، وعن العلاقة مع الآخر البعيد والقريب في الوقت نفسه، وعن الكينونة البشرية نفسها.

الساعة هي طريق العقل اليقظ

هكذا كانت بغداد يومها، وهي تحت سلطة هارون الرشيد مركزاً تجارياً وفكرياً عالمياً، حاضرة بيت الحكمة، حيث وصلت أفكار أرسطو وهيبوقراط وإقليديس واحتفل بها وجرى توطين العلوم الهندية والصينية والرياضيات والفلسفة التي ستتأكد وتتكرس أكثر تحت سلطة ابنه المأمون.

لم يكُن إبداع الساعة صدفة تاريخية ولا أمراً هيناً ولا مكتوباً قدرياً، إنها نتاج اجتهاد نظام حكامه آمنوا بالعلم والاختلاف والانفتاح على الآخر.

والعقل الذي يفكر في إبداع "الساعة" هو عقل فلسفي معقد وحضاري بامتياز، هو عقل يحارب القدرية والفوضى، عقل يكرس فكرة تنظيم الزمن اليومي الذي يتدفق من كل جهة مع استحالة توقيفه، والحل الوحيد لمواجهته وترويضه وتأمله هو تنظيمه فلسفياً بجعله يسير تحت عقارب ساعة خطوة خطوة، دقيقة بدقيقة، ساعة بساعة، يتقدم كعسكري منضبط!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأن يهدي الخليفة هارون الرشيد إلى الإمبراطور شارلمان، وهو ما هو، هذه الساعة المائية فهذه رسالة دبلوماسية وسياسية عظيمة واستثنائية، علينا أن نقرأها اليوم في ظل تراجع قيمة العقل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وانحداره نحو ظلمات السلفية والتطرف والانغلاق والكسل والاستهلاك.

اليوم وأمام تقهقر سلطة العقل الذي تعرفه مجتمعاتنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، علينا أن نعيد قراءة تاريخ علاقتنا بفلسفة "الزمن" وإعادة قراءة طبيعة تفكيرنا القاصر في تفكيك فلسفة "التوقيت" وثقافة التنظيم، فإن الشعوب التي لا تحترم الوقت والتوقيت هي شعوب ترهن بلدانها للخمول والكسل والقدر والدجل والتسويف والاتكال.

الساعة في فلسفتها هي صورة للعمل المنتج

وإذا كان عرب المشرق أبدعوا الساعة المائية وأرسلوها هدية إلى الغرب، فأمازيغ الأندلس في زمن طليطلة الزاهي والمتعدد، في تلك المرحلة نفسها، وصل بهم إحساسهم بالوقت وتنظيمه إلى أن وزعوا نوبات الموسيقى الأندلسية على مدارج الوقت، فخلقوا لكل ساعة نوبة بإيقاعها الخاص، مما يؤكد انشغالهم الفلسفي والجمالي بفلسفة "التوقيت" وبكتلة الزمن وحساسيتهم الفردية والاجتماعية والحضارية تجاه ذلك.

ونعود لأصل الحكاية، حكاية هارون الرشيد وشارلمان والساعة، إذ يروي المؤرخون الفرانك في وقائعهم المكتوبة أنه حين وقف عبدالله سفير هارون الرشيد بين يدي الإمبراطور شارلمان وأهداه الساعة المائية، وإذ سمع هذا الأخير طقطقة عقاربها شعر بخوف من هذا الشيء الغريب المعقد، معتقداً بأن الماكينة تحوي بداخلها جناً أو عفريتاً، مما جعله يغلق عليها في دولاب بغرفة وبات يراقبها من خلف الباب لأيام حتى اطمأن قلبه وتأكد أنها لا تحمل قوة شريرة وأن ليس هناك ضرر يأتي من وجودها في القصر.

لكن الذي لم تقُله الحكاية هو ما يلي إن شارلمان وأحفاده أخذوا الساعة المائية التي وصلتهم كهدية على محمل الجد، لا على محمل الفرجة والديكور، وأمامها وهي تتكتك أخذوا يفكرون في الزمن كرأسمال كبير حاسم في صناعة الحضارة، وكانت هذه الهدية مؤشراً إلى بداية صحوة علمية وأسئلة انقلابية في أوروبا ستخرجها من ظلام القرون الوسطى، وسيتغير سلوك المجتمع الغربي حيال فلسفة الوقت والتوقيت، بمعنى من المعاني إعادة قراءة التاريخ قراءة جديدة.

وفي المقابل، شيئاً فشيئاً تنازلت النخب العلمية والسياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من عرب وبربر وأقوام أخرى تعيش في هذه المنطقة عن سلطة العقل الذي صنع فلسفة احترام الوقت، وشيئاً فشيئاً سلموا أنفسهم لسلطة الدجل والاتكال والقدرية وحولوا منطقتهم إلى منطقة "التحليل والتحريم" و"التكفير والتقديس" و"الروحاني والتطيين"، وأخضعوها لثنائية "يجوز ولا يجوز"، هذه الثنائية التي قتلت العقل والاجتهاد وأرجعت الإنسان والنخب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى عصر القرون الوسطى.

وفي وقت خرجنا نحن من الدقة إلى القدر والاتكال والكسل دخل الغرب مربع التوقيت والتدقيق والعمل.

هدية هارون الرشيد لشارلمان هي حكاية، لكنها ليست مجرد حكاية، إنها أكبر من ذلك بكثير!     

اقرأ المزيد

المزيد من آراء