ملخص
إستراتيجية ترمب تعتمد على دعم اليمين الأوروبي المتطرف لتعزيز نفوذ "ماغا" عالمياً، مستبدلاً التحالفات الديمقراطية التقليدية بروابط أيديولوجية، لكن هذه الخطوة تحمل مفارقة خطرة، فهؤلاء الحلفاء "السياديون"، مثل فيكتور أوربان، يراهنون أيضاً على صعود قوة الصين، ونتيجة لذلك فإن رهان واشنطن عليهم قد يؤدي لتآكل هيمنتها، إذ يسعى هؤلاء القادة إلى مصالحهم الوطنية أولاً.
على مدى الأشهر الـ10 منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لمنصبه، أحدث تغييراً جذرياً في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الحلفاء والخصوم على السواء، فهو لا يُعيد تشكيل هندسة البيت الأبيض وديكوراته وحسب، بل يُعيد أيضاً رسم الطريقة التي تفكر بها الإدارة الأميركية في السياسة والقرارات العالمية.
في البداية أوحى تركيز الإدارة على التعرفات الجمركية بأن ترمب غير مهتم بسياسات الدول الأخرى ولا يكترث إلا للتوازنات التجارية، لكن التحركات الأخيرة دحضت هذا الوهم، فالأيديولوجيا لا الاقتصاد هي التي تفسّر عداء ترمب للبرازيل (فهو يكره رئيسها اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بشدة) وكرمه المالي غير المحدود تجاه الأرجنتين (التي وصف رئيسها الشعبوي اليميني خافيير ميلي بأنه "الرئيس المفضل بالنسبة إليه")، لكن ما يحدد سياسات ترمب هو الانقسام بين اليسار واليمين وليس الانقسام التقليدي بين الديمقراطية والاستبداد، فخلافاً لأسلافه مثل جورج بوش الابن وباراك أوباما وجو بايدن، فترمب ليس مهتماً بتصدير الديمقراطية وما يحرص على تصديره هو أجندته السياسية الداخلية المناهضة للهجرة، ولثقافة "اليقظة" والسياسات الخضراء.
وربما يظهر تفوّق الأيديولوجيا بأوضح أشكاله في طريقة تعامل ترمب مع أوروبا أكثر من أي مجال آخر، فبينما يعبّر عن ازدرائه للاتحاد الأوروبي ويتجاهل القيم الليبرالية التقليدية التي قام عليها التحالف عبر الأطلسي، تتجه إدارته نحو اليمين المتطرف في أوروبا، وإضافة إلى علاقاته مع رئيسة الوزراء الشعبوية اليمينية الإيطالية، جورجيا ميلوني، دعم ترمب حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحزب "فوكس" الإسباني وحزب "ريفورم" في المملكة المتحدة بزعامة نايجل فاراج، وغيرها من الأحزاب اليمينية المتطرفة، وهناك شعور بأن البيت الأبيض ينظر إلى عدد من الدول الأوروبية على أنها متأخرة عن الولايات المتحدة بدورة انتخابية واحدة، ويتوقع تحولاً حاداً نحو اليمين في القارة خلال الأعوام المقبلة.
ويبدو أن "اليمين الأوروبي" يشاركه هذا الاعتقاد، فقد اتخذ بالفعل خطوات لتأسيس نوع من الجبهة العابرة للحدود، وقد برزت مجموعة جديدة من الأحزاب اليمينية، وهي "وطنيو أوروبا" (Patriots of Europe)، التي تعهدت بـ "جعل أوروبا عظيمة مرة أخرى" وتبنّت ثورة "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" (ماغا) نموذجاً لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وقت يشكك ترمب في الترتيبات الأمنية الأميركية مع أوروبا ويهدد بتقليص الوجود العسكري الأميركي هناك، ويطالب أوروبا بدفع كُلف دفاعها بنفسها، يبدو دعمه لليمين الأوروبي المتطرف في البداية بمثابة خطوة إستراتيجية بارعة، فهو يسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على أجزاء كبيرة من أوروبا ضمن نطاق نفوذها مع تقليل التزاماتها تجاه المنطقة في الوقت نفسه، في وسيلة منخفضة الكلفة لتعزيز نفوذ حركة "ماغا" ومنع صعود أوروبا سيادية أقل ارتباطاً بواشنطن.
في هذه اللعبة تؤدي أوروبا الوسطى، حيث اكتسبت مجموعة من السياسيين غير الليبراليين بالفعل قاعدة قوية، دوراً حاسماً، فقبل انتخابات عام 2024 بوقت طويل أعرب ترمب لفترة طويلة عن إعجابه برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي غالباً ما يُقدّم كنموذج للقيادة مستوحى من روح حركة "ماغا"، ومنذ عودته لمنصبه أكد ترمب هذه العلاقة بإعفاء المجر من العقوبات المتعلقة بوارداتها من النفط الروسي، وفي بولندا فاز المرشح اليميني المتطرف كارول نافروتسكي، الذي يحظى بدعم حركة "ماغا"، بالانتخابات الرئاسية في يونيو (حزيران) الماضي، وأعلن رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيتسو اصطفافه مع الرئيس الأميركي، وفي جمهورية التشيك فاز أندريه بابيش، وهو شعبوي يميني آخر يفضله ترمب، بالانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ويسعى الآن إلى تشكيل حكومة جديدة.
وعلى رغم أن مغازلة الإدارة الأميركية لليمين الأوروبي المتطرف قد حققت مكاسب كبيرة لكنها أيضاً رهان محفوف بالأخطار، فمن جهة قد يؤدي تأجيج الاستقطاب السياسي إلى أوروبا مجزأة بدلاً من أوروبا متحالفة مع ترمب، وليس واضحاً على الإطلاق ما إذا كان حتى القادة غير الليبراليين، بدءاً بأوربان نفسه، سيتحالفون جيوسياسياً مع ترمب، سواء في شأن روسيا أو الصين أو القضايا الاقتصادية، وفي الوقت نفسه، ومن خلال إغداق الدعم حصرياً على الأحزاب والقادة المتوافقين أيديولوجياً فقد تخسر الإدارة الأميركية قاعدة المؤيدين الراسخة لأميركا والتي كثيراً ما عززت الدعم لواشنطن في أجزاء حيوية من أوروبا.
مناصرو العولمة المناهضون لليبرالية
إذا كان العقدان الأولان بعد الحرب الباردة قد اتسما بـ "تغريب" أوروبا الشرقية مع ازدهار الديمقراطية الليبرالية في دول الكتلة الشيوعية السابقة، فإن الوضع في الوقت الراهن معاكس تماماً، فالآن هناك "تشريق" تدريجي لأوروبا الغربية من خلال انتشار النزعة مناهضة لليبرالية على طريقة أوربان في معاقل كانت سابقاً ليبرالية، ويُعد الصعود المفاجئ لحزب "البديل من أجل ألمانيا" في غرب ألمانيا دليلاً واضحاً على هذا التحول، وقبل وقت ليس ببعيد افترض كثير من المحللين أن الحزب الذي صنفته الاستخبارات الألمانية تهديداً "يمينياً متطرفاً" للنظام الديمقراطي في البلاد، لا يستطيع التوسع خارج نطاق قاعدته في مناطق ألمانيا الشرقية السابقة، لكن هذا الافتراض لم يعد قائماً كما يتضح من أداء حزب "البديل من أجل ألمانيا" في استطلاعات الرأي الأخيرة والانتخابات الإقليمية في شمال الراين وستفاليا.
اليوم، الغرب هو الذي يُقلّد الشرق، فقد بدأت المواقف العامة في أوروبا الغربية تُشبه المشاعر السائدة في أوروبا الشرقية خلال أزمة الهجرة عام 2015، إذ إن صعود الشرق في السياسة الأوروبية يقرّب الاتحاد الأوروبي أيديولوجياً من واشنطن في عهد ترمب، لكن تحالف ترمب مع أوربان وغيره من قادة اليمين في أوروبا الوسطى والشرقية يتجاوز البعد الأيديولوجي، فعلى رغم تنوع القوى غير الليبرالية في هذه البلدان واختلافها في كثير من الأحيان حول قضايا مثل السياسة تجاه روسيا أو الحوكمة الاقتصادية، لكن المنطقة تُشبه الولايات الحمراء الأميركية من حيث طابعها السياسي، فهي محافظة ثقافياً وغالبيتها من البيض ومتمسكة بالتجانس الثقافي، ومثل مؤيدي حركة "ماغا" يميل سكانها إلى معاداة الهجرة وما يُسمى بتيار "اليقظة" والتشكك في تغير المناخ، وليس من المستغرب أن تميل الجاليات القادمة من أوروبا الشرقية في الولايات المتحدة إلى تفضيل ترمب في الانتخابات الأخيرة.
آراء الأوروبيين في شأن الولايات المتحدة باتت تُحدد الآن من خلال آرائهم حول ترمب
وقد أصبح الشعور بوجود إعادة اصطفاف أوسع نطاقاً واضحاً بعد فوز ترمب عام 2024، فبقيادة أحزاب اليمين الشعبوي في أوروبا الوسطى والشرقية تحولت القوى غير الليبرالية في القارة بسرعة من الدفاع عن السيادة الوطنية ضد الاتحاد الأوروبي إلى دعم حركة عابرة للحدود ذات أجندة محافظة عالمية، وفي غضون ذلك فغالباً ما وجد الوسطيون في أوروبا أنفسهم يسلكون مساراً معاكساً، إذ إن كثيراً من المؤيدين السابقين للعولمة والتحالف عبر الأطلسي أعادوا تشكيل هويتهم السياسية فتحولوا إلى مدافعين عن السيادة الوطنية في وجه ما يرونه تجاوزاً أيديولوجياً من واشنطن.
لقد أحدثت الثورة الترمبية انقساماً في أوروبا، وخلافاً للحظات التوتر السابقة مثل غزو الولايات المتحدة العراق عام 2003، لم يعد المشهد الآن ينقسم بين دول مؤيدة لأميركا وأخرى معارضة لها، بل أصبح هذه المرة بين معسكر سياسي مؤيد لترمب وآخر مناهض له، وأبرز تحول يتمثل في أن النظرة الأوروبية للنظام السياسي الأميركي باتت تشهد استقطاباً حاداً، فخلال استطلاع رأي أجراه "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" في يونيو الماضي، أبدى مؤيدو أحزاب اليمين المتطرف مثل حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحزب "إخوة إيطاليا"، وحزب "الاتحاد المدني المجري" [أو "فيدس"] وحزب "القانون والعدالة" البولندي وحزب "فوكس" الإسباني، نظرة إيجابية في الغالب نحو السياسة الأميركية، في حين أبدت القاعدة الانتخابية التقليدية في تلك البلدان نظرة سلبية في الغالب، ولم يسبق أن أظهرت استطلاعات المجلس سابقاً استقطاباً مماثلاً.
خلاصة القول هي أن آراء الأوروبيين في شأن الولايات المتحدة باتت تحدد الآن من خلال آرائهم حول ترمب، ويتزايد قلق بعض أنصار التحالف عبر الأطلسي التقليديين في شأن المستقبل، فبالنظر إلى أن المعجبين الأوروبيين بترمب قد يتوقفون عن دعم الولايات المتحدة عندما لا يكون هو في السلطة أو إذا فشلت سياساته، ومن خلال استقطاب الطليعة غير الليبرالية في شرق أوروبا، عمقت إدارة ترمب الانقسام القديم بين شرق القارة وغربها وزادت بصورة كبيرة من خطر تفكك الاتحاد الأوروبي، وحتى لو هيمنت الأحزاب اليمينية في جميع أنحاء المنطقة فمن غير الواضح على الإطلاق ما إذا كانت أوروبا غير الليبرالية ستكون مؤيدة لأميركا، أو ما إذا كان حلم ظهور أوروبا أكثر سيادة وأقل اعتماداً على الولايات المتحدة هو حلم لا تتمسك به إلا الأحزاب التقليدية الوسطية واليسارية، وتشير رؤية أوربان الجيوسياسية المتطورة إلى واقع أكثر تعقيداً.
طريق الحرير المجري
إذا كان هناك شعبوي أوروبي واحد معروف في أوساط عالم "ماغا" فهو أوربان، فبعد أن استثمر بكثافة في بناء شبكة محافظة عابرة للأطلسي منذ عام 2010، أصبح الزعيم المجري بالنسبة إلى اليمين ما كان عليه الزعيم الكوبي فيدل كاسترو ذات يوم بالنسبة إلى اليسار، بطلاً وقدوة، حيث إن نفوذ أوربان في أوروبا الوسطى والشرقية كبير، وإذا فاز بولاية جديدة في أبريل (نيسان) 2026 فسيكون له أساس متين للادعاء بأنه المهندس الرئيس للإستراتيجية الجيوسياسية لأوروبا خلال مرحلة ما بعد الليبرالية.
ومع ذلك فإن تجديد التفويض الانتخابي لأوربان من غير المرجح أن يؤدي إلى هيمنة "ماغا" على القارة بأكملها، فالرجل القوي المجري قد يدعم ترمب لكنه يرى أيضاً أن الغرب دخل مرحلة تراجع لا عودة عنها، وفي مكتب أوربان في بودابست توجد ثلاث خرائط تظهر العالم من وجهات نظر مختلفة، واحدة تتمحور حول الولايات المتحدة، وأخرى حول أوروبا، وثالثة حول الصين، وما يراه أوربان عند درسه هذه الخرائط هو ما يسميه "تغييراً في النظام العالمي"، أي تحولاً في مركز القوة نحو آسيا، وفي رأيه أن آسيا تمتلك زخماً ديموغرافياً وتفوقاً تكنولوجياً وقوة رأسمالية هائلة، وهي تُطور بسرعة القدرة العسكرية اللازمة لتضاهي الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين، ويعتقد أوربان أن النظام العالمي القادم سيكون مركزه آسيا.
وبالنسبة إلى أوربان فإن أوروبا تواجه خياراً حاسماً وصعباً، فإما أن تربط نفسها بالولايات المتحدة وتصبح ما سماه "متحفاً في الهواء الطلق"، يحظى بالإعجاب ولكنه راكد، وإما أن تسعى إلى "استقلال إستراتيجي" فتعود للمنافسة العالمية كقوة مستقلة، ولدهشة كثيرين صرّح أوربان، تماماً مثلما فعل الرئيس الفرنسي الليبرالي إيمانويل ماكرون، بأنه يُفضل "أوروبا ذات سيادة"، ومن وجهة نظر أوربان المحافظة فإن ذلك يعني الحفاظ على السوق الأوروبية الموحدة، لكن مع التراجع عن مسار التكامل السياسي الأوروبي الأعمق، والحفاظ على مسافة متساوية من الصين والولايات المتحدة.
واستطراداً يوضح أوربان أن الترابط سيكون جوهر الإستراتيجية الكبرى للمجر، فلن تنضم المجر إلى حرب باردة مع الصين ولن تصطف في كتلة تكنولوجية أو تجارية تهدف إلى عزل بكين، ويُظهر هذا الموقف حقائق اقتصادية متطورة ومهمة في بودابست، فالصين تستثمر الآن في المجر أكثر مما تستثمره في فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة، وبعبارة أخرى فإن أوروبا التي يتصورها أوربان، خلافاً لأوروبا رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لا تتماشى مع ترمب أو مع المؤسسة السياسية الأميركية الأوسع في ما يتعلق بسياساتها تجاه الصين، وهذا النوع من التباعد ليس مقتصراً على السياسيين غير الليبراليين في المجر، فحزب "البديل من أجل ألمانيا" مثلاً يبدو في نواحٍ عدة أقرب إلى موسكو منه إلى واشنطن، وبالطبع فإن اليمين الشعبوي في أوروبا أكبر من أوربان ذاته، وقد يخسر انتخابات أبريل المقبل في المجر، إذ يواجه للمرة الأولى منذ أعوام منافساً قوياً، وفي واحدة من مفارقات التاريخ العديدة قد يسقط حزب "فيدس" الذي يقوده أوربان في اللحظة نفسها التي يعلن فيها المراقبون "اللحظة الذهبية لأوربان" (ذروة نفوذه وتأثيره السياسي)، ومع ذلك فإن رؤيته الجيوسياسية التي تركز على آسيا تكشف حدود تأثير ترمب في أوروبا.
من "ماغا" أميركية إلى أخرى أوروبية
لم تُخف إدارة ترمب رغبتها في تفكيك البنية الليبرالية الحالية في الاتحاد الأوروبي، ولكن حتى لو نجحت "ماغا" في تقويض المؤسسات الوسطية التي بنتها فرنسا وألمانيا وغيرهما من الديمقراطيات الأوروبية الأساس الأخرى، فإن الأحزاب اليمينية الشعبوية التي تسهم واشنطن في صعودها قد لا تدعم في نهاية المطاف نوعاً جديداً من النفوذ الأميركي على أوروبا، ويذكر أن افتراض الإدارة بأن الأوروبيين يتجهون نحو اليمين ليس خاطئاً، لكنها تخطئ في توقعها بأن صعود القادة الموالين لترمب سيكون كافياً للحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة، وبدلاً من ذلك فمن المرجح أن يؤدي صعود اليمين غير الليبرالي إلى أزمة اقتصادية وسياسية متفاقمة ستثير ما يعرّفه عالم السياسة في "جامعة أكسفورد" ديميتار بيتشيف بـ "التنافس على أوروبا"، وهي حال تتنافس فيها القوى الكبرى مثل الصين وروسيا، والقوى المتوسطة مثل تركيا ودول الخليج، على النفوذ بصورة متزايدة.
وتكمن المشكلة الأكبر التي تواجه الولايات المتحدة في أن سياسات ترمب قد أبعدت المؤسسة [الطبقات] الليبرالية التي جعلت دول أوروبا الوسطى والشرقية أقرب حلفاء واشنطن عبر الأطلسي وأكثرهم موثوقية، إذا فقد القادة الشعبويون التأييد في المجر وجمهورية التشيك ودول أخرى في المنطقة، ومن المرجح أن خلفاءهم سيبدون مستوى التشكك والحذر نفسه تجاه واشنطن الترمبية الذي يبديه الليبراليون في أوروبا الغربية الآن، ومن المفارقات أن واشنطن، ومن خلال تعزيز علاقاتها مع اليمين الأوروبي، قد تضعف نفوذها في أوروبا ككل.
سياسة أوربان تجاه الصين ليست متوافقة مع واشنطن
وتنبع نقاط الخلاف الأخرى بين ترمب واليمين الأوروبي الجديد من القومية الحضارية التي تُفضلها الآن الأوساط المحافظة في الولايات المتحدة، فوجهة نظر "ماغا" التي ترى أن الغرب يجب أن يُعرّف بأنه أبيض ومسيحي، تلقى صدى لدى كثير من الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة، لكن مؤيدي هذه الأحزاب منقسمون بشدة حول مسألة ما إذا كانت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين جزءاً من هذه الإمبراطورية غير الليبرالية الجديدة، فمثلاً يشعر البولنديون بالاستياء والصدمة عندما يدركون أن محافظين أميركيين مثل تاكر كارلسون يعتبرون روسيا جزءاً من الغرب الأبيض المسيحي.
وربما تكون أوضح نتيجة لموقف ترمب تجاه أوروبا هي عودة "المسألة الألمانية"، المعضلة التاريخية المتمثلة في احتواء ألمانيا القوية ضمن أوروبا المسالمة، فبينما تتراجع واشنطن عن التزاماتها الأوروبية وتصر على أن تتحمل أوروبا كُلف أمنها بنفسها، ومع تزايد تشكيك الأوروبيين في صدقية الولايات المتحدة، أصبحت إعادة التسلح الألماني جزءاً لا يتجزأ من الدفاع الذاتي الأوروبي، ومع ذلك فإن تشجيع ترمب المتزامن لحزب "البديل من أجل ألمانيا"، الذي أصبح الآن ثاني أكبر حزب في البوندستاغ، أثار احتمال أن يصل اليمين القومي الألماني في المستقبل إلى حكم أقوى دولة في أوروبا [ألمانيا]، وأن تكون واشنطن متعاطفة مع مثل هذه النتيجة، وقد أعاد ذلك إحياء مخاوف قديمة لدى جيران ألمانيا، بما في ذلك فئات اليمين الأوروبي في دول تبدي إعجابها بترمب في سياقات أخرى.
إذا كانت إستراتيجية ترمب الأوروبية تهدف إلى فرض تقارب أيديولوجي أكبر مع تقليل الدعم الاقتصادي والعسكري الأميركي فإنها ستفشل، فالأحزاب اليمينية، مثل نظيراتها الوسطية والليبرالية، تدرك أنه في ظل المشهد الجيوسياسي المتقلب على نحو متزايد قد تضطر بلدانها إلى الاعتماد على نفسها في مواجهة عالم مُعاد، وقد يُعيد اليمين الأوروبي اكتشاف جدوى فك ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة غير الموثوقة، ربما على مضض، وفي نهاية المطاف يُشبه تأثير ترمب في أوروبا، من نواحٍ عدة، تأثير ميخائيل غورباتشوف في الكتلة الشرقية خلال ثمانينيات القرن الـ 20، فقد أعادت "غوربي- مانيا" [هوس غورباتشوف] تغيير شكل الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية جذرياً، وبذلك ساعد في فقدان موسكو مجال نفوذها.
إيفان كراستيف هو رئيس مركز الإستراتيجيات الليبرالية في صوفيا وزميل دائم في "زمالة ألبرت هيرشمان" في "معهد العلوم الإنسانية في فيينا".
مترجم عن "فورين أفيرز"، 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025