ملخص
يبقى السؤال مفتوحاً حول السيناريو الأنسب لماكرون: هل سيختار حكومة مركزية تستطيع التوافق مع البرلمان، أم سيضطر للتنازل أمام اليسار؟ وما انعكاسات ذلك على الاستقرار السياسي والمجتمعي في فرنسا؟
رفضت الجمعية الوطنية، يوم الإثنين 8 سبتمبر (أيلول)، منح الثقة لرئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، بعد أن ربط هذا الأخير بقاء حكومته بموافقة النواب. وفي المحصلة، صوت 364 نائباً ضد منح الثقة، مقابل 194 نائباً لمصلحتها، بينما امتنع 15 نائباً عن التصويت. ونتيجة لذلك يتعين على الحكومة تقديم استقالتها وفق ما ينص عليه الدستور.
داخل صفوف حزب الجمهوريين، وهم جزء من الائتلاف الحكومي لكنهم يتمتعون بحرية التصويت، تباينت المواقف على النحو التالي: 27 نائباً أيدوا الثقة، من بينهم رئيس الكتلة لوران فوكييه، في حين صوت 13 نائباً ضدها، وامتنع 9 نواب عن التصويت.
أما الغالبية العظمى من نواب كتل "الماكرونيين"، و"مودم"، و"هوريزون" (بقيادة إدوار فيليب)، فقد صوتوا مع الثقة. الاستثناء الوحيد كان من النائبة الماكرونية عن الشمال فيوليت سبيلبوت، التي امتنعت عن التصويت. وفي المقابل، صوت نواب "التجمع الوطني" وحلفاؤهم من الاتحاد الديمقراطي الجمهوري، إضافة إلى نواب "فرنسا غير الخاضعة"، والاشتراكيين، والخضر، ومجموعة الشيوعيين، ونواب أقاليم ما وراء البحار، جميعهم لسحب الثقة. كذلك صوت أغلب المستقلين في مجموعة "ليو" ضد القرار (15 ضد، 4 مع، 4 ممتنعين). أما النواب غير المنتمين إلى أي كتلة، فقد توزّعت أصواتهم بين 3 مؤيدين، 6 معارضين، وامتناع واحد.
ويقدم رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو ظهر اليوم الثلاثاء، استقالته إلى الرئيس إيمانويل ماكرون غداة إطاحة حكومته من قبل البرلمان، في خطوة تغرق فرنسا في أزمة سياسية ومالية جديدة وتُضعف موقع الرئيس.
ويواجه ماكرون الآن تحدياً يتمثل في إيجاد رئيس وزراء جديد "خلال الأيام القليلة المقبلة"، بحسب الرئاسة، في محاولة لحل معضلة سياسية استعصت عليه لأكثر من عام، وفي برلمان منقسم إلى ثلاثة معسكرات هي تحالف اليسار واليمين الوسط واليمين المتطرف، منذ حل الجمعية الوطنية في يونيو (حزيران) 2024.
الصحافة الدولية مصدومة
سيكون خلف فرنسوا بايرو خامس رئيس وزراء منذ بداية الولاية الرئاسية الثانية لإيمانويل ماكرون عام 2022.
وعبرت الصحافة الدولية اليوم الثلاثاء، عن دهشتها واستغرابها من تطورات الوضع السياسي في فرنسا. واعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن فرنسا باتت اليوم "غارقة في حال من عدم الاستقرار السياسي المزمن". أما "فايننشيال تايمز" فتحدثت عن "أزمة سياسية جديدة قد تمتد إلى الشارع والأسواق"، بينما حذّرت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" من أن "فرنسا مهددة بشلل كبير". وأكدت صحيفة "إل باييس" الإسبانية أن "الأزمة السياسية في فرنسا تتطلب حلاً سريعاً لا يتجاهل الحقيقة المرة التي عبّر عنها بايرو في شأن المالية العامة".
وتبدو المهمة صعبة أمام الرئيس الفرنسي في ظل تمسك الأحزاب السياسية بمواقفها. فحزب التجمع الوطني (اليمين المتطرف) يطالب بإجراء انتخابات تشريعية جديدة، وتعهّد رئيسه جوردان بارديلا الثلاثاء، رفض أي رئيس وزراء لا يقطع تماماً مع السياسات التي اتُّبعت خلال السنوات الثماني الماضية.
أما اليسار الراديكالي، فدعا إلى استقالة الرئيس نفسه. في حين يكرر الحزب الاشتراكي أن اليسار الذي تصدّر نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، هو الأحق بقيادة الحكومة.
ويجد ماكرون نفسه محاصراً بين يمين متطرف يتصاعد نفوذه على مر السنوات والانتخابات، ويسار راديكالي (ممثلاً بحزب فرنسا الأبية) يزداد تشدداً ومناهضة له، ما يحتم عليه السعي لتوسيع كتلته الوسطية والبحث عن شخصية يمينية أو من الوسط يقبل بها الاشتراكيون.
وقال أحد المقربين من الرئيس "ثمة حاجة إلى الاستقرار. والأكثر استقراراً هو القاعدة المشتركة التي تتحاور مع الاشتراكيين".
ويتم تداول أسماء من بينها وزير الجيوش سيباستيان لوكورنو، ووزير العدل جيرالد دارمانان، ووزير الاقتصاد إريك لومبار.
ديون متراكمة وتحركات اجتماعية
وفقاً لأحد المحيطين بالرئيس إيمانويل ماكرون، من المتوقع تعيين رئيس وزراء جديد بحلول نهاية هذا الأسبوع، وذلك قبل مغادرة الرئيس إلى نيويورك، حيث يُفترض أن يعلن يومي 22 و23 سبتمبر (أيلول) اعتراف فرنسا بدولة فلسطين في الأمم المتحدة.
وفي صلب التصويت الكاسح ضد حكومة بايرو، مشروع الموازنة غير الشعبي الذي يتضمن توفير 44 مليار يورو (51.77 مليار دولار) عام 2026، في محاولة لخفض ديون البلاد التي وصلت إلى 114 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي سوق السندات، أصبحت فرنسا تقترض الآن بكلفة مماثلة لتلك التي تدفعها إيطاليا على مدى عشر سنوات، حيث بلغت الفائدة نحو 3.47 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتأتي هذه الأزمة السياسية قبل أيام فقط من إعلان وكالة "فيتش" الجمعة، تقييمها للديون الفرنسية، وسط مخاوف من احتمال خفض التصنيف في ظل حال عدم اليقين الراهنة، وهو ما يثير القلق من اضطرابات في الأسواق المالية.
وظهر هذا الصيف على مواقع التواصل الاجتماعي حراك جديد تحت شعار "لنشلّ كل شيء"، بدعم من بعض النقابات واليسار الراديكالي، يدعو إلى شل البلاد اعتباراً من الأربعاء، وسط أجواء من انعدام الثقة الواسع النطاق تجاه ماكرون، الذي وصلت شعبيته إلى أدنى مستوياتها منذ توليه الحكم عام 2017 (حيث أظهر استطلاع حديث أن نحو 77 في المئة من الفرنسيين غير راضين عنه).
وأعلنت وزارة الداخلية أن نحو 80 ألف من عناصر الشرطة والأمن سينشرون الأربعاء، في أنحاء البلاد حيث ستنظم مئات الفعاليات والاحتجاجات.
أما المديرية العامة للطيران المدني، فتوقعت حصول اضطرابات وتأخيرات في "كل المطارات الفرنسية".
ومع أن هذه التعبئة تذكّر البعض بحراك "السترات الصفراء" الذي هز فرنسا بين عامي 2018 و2019، ما زال من غير المعروف مدى تأثيرها.
وفي السياق نفسه، دعت جميع النقابات العمالية إلى إضراب وتظاهرات في 18 سبتمبر.
ردود الفعل
قال فرانسوا بايرو، إن "سقوط حكومتي كان محتوماً منذ اللحظة الأولى. اخترت أن أخاطبكم وكأن المصير لم يكن مكتوباً، وكأن رفض الجمعية الوطنية لتحمل الحكومة مسؤوليتها لم يكن قد أُعلن".
كما انتقد بايرو بشدة المواقف المسبقة التي تبنّتها الأحزاب السياسية، معتبراً أن الشعارات لا مكان لها هنا، بل الواجب أن يحتكم كل نائب إلى ضميره الشخصي كنائب عن الأمة". وأضاف "جميع الأحزاب غير المشاركة في الحكومة أعلنت عزمها على إسقاطها، وهو أمر لا يُعد إنجازاً كبيراً، لأن هذه الحكومة لم تكن تمتلك غالبية، لا مطلقة ولا نسبية. وسقوطها الحتمي كان متوقعاً منذ الدقيقة الأولى لولادتها".
من جانبه دعا رئيس الوزراء السابق غابرييل أتال، إلى تعيين "مفاوض مكلف بجمع القوى السياسية الممثلة في البرلمان من أجل صياغة اتفاق يخدم المصلحة العامة، على أن يصبح هذا الاتفاق أساساً لاختيار رئيس الوزراء". واقترح أن يعين الرئيس هذا المفاوض مع ضمان عدم تحوله لاحقاً إلى رئيس للوزراء.
عقب صدور نتيجة التصويت، وجه زعيم حزب فرنسا غير الخاضعة جان لوك ميلانشون، دعوة صريحة للرئيس إيمانويل ماكرون إلى الاستقالة. وكتب على منصة "إكس"، "سقوط بايرو يمثل انتصاراً وارتياحاً شعبياً. ماكرون بات الآن في مواجهة مباشرة مع الشعب، وعليه هو أيضاً أن يرحل".
في السياق ذاته، يستعد نواب فرنسا غير الخاضعة لتقديم مذكرة في الجمعية الوطنية اليوم الثلاثاء، تطالب بعزل الرئيس.
وقالت الأمينة الوطنية لحزب الخضر مارين تونديليه، إن "الخطوة التالية لا يمكن أن تكون سوى تعيين رئيس وزراء من صفوف الجبهة الشعبية الجديد. وطالبت بأن يستقبل الرئيس إيمانويل ماكرون قادة أحزاب اليسار قبل اتخاذ قراره بتعيين رئيس وزراء جديد.
من جانبه، صرّح النائب الاشتراكي ورئيس الكتلة الاشتراكية في الجمعية الوطنية بوريس فالود، "نحن مستعدون لتحمل المسؤوليات". أما السكرتير الأول للحزب الاشتراكي أوليفييه فور، فقد جدّد مطالبته بتعيين رئيس وزراء من اليسار، قائلاً "أعتقد أن الوقت قد حان لليسار كي يحكم هذا البلد مجدداً، ويضع حداً للسياسة التي استمرت على مدى ثمانية أعوام". وأضاف أن المطلوب هو "إعادة الأمل"، معتبراً أن الفرنسيين "منهكون" ويعيشون ما يشبه "يوماً بلا نهاية". وأكد الحزب الاشتراكي التزامه بعدم اللجوء إلى المادة 49.3 إذا تولى الحكم، واستعداده لتقديم تنازلات من أجل بناء غالبية في البرلمان.
السيناريوهات المتوقعة
في ما يتعلق بالسيناريوهات المحتملة، أوضح المحلل السياسي جون غليان كريستوف لـ"اندبندنت عربية"، أنها تنحصر في أربعة احتمالات: الأول يتمثل في تعيين رئيس وزراء جديد من قبل رئيس الجمهورية، الذي سيقوم بنفسه بتشكيل الحكومة. كما سيكون من الضروري الحصول على ثقة البرلمان، وذلك مع احتمال استمرارية السياسة الماكرونية، مع فرضيات تميل إلى تحقيق توازن يتراوح بين الوسط- اليسار واليسار. على سبيل المثال، ربما يتم ترشيح رئيس وزراء اشتراكي.
ويضيف غليان "عملياً، يواجه الاشتراكيون أنفسهم صعوبات على جناحهم الأيسر، لأن حزب فرنسا المتمردة رفض العودة كشريك، والخضر الذين لا يشاركون في الحكومة قد يشكلون مشكلة، لأن ذلك يعني استمرار الماكرونية".
الفرضية الثانية، وفق غليان، تكمن في الاستمرار ضمن الكتلة الوسطية، مع شخص يمثل جزء الحزب الماكروني النشط، والذي يستطيع تشكيل أقلية حكومية في ظروف مشابهة للوضع الحالي.
أما الاحتمال الثالث فربما يكون بالتوجه نحو اليمين، مع شخصيات مثل السيد كورنو، السيد دارمانان، أو السيد فيرت ترونت، وهم ليسوا في الحكومة لكن يمكن أن يشكل ذلك حلاً". ومع ذلك، فإن هذا يطرح سؤالاً حول موقف رئيس الجمهورية، لأن هؤلاء الثلاثة ليسوا دائماً من صفوف الجمهوريين.
وبخصوص الاحتمال الرابع، أكد المحلل السياسي أنه قد يتم تعيين رئيس وزراء من حزب التجمع الوطني.
وتعليقاً على هذه الخطوة، يقول المحلل السياسي تميم هيكل، إنها متسرعة وغير مدروسة، بل وغير مفهومة، وقد تدفع البلاد إلى مرحلة صعبة على المستوى الاقتصادي.
يعتقد هيكل أن المنظور لا يزال غير واضح، إذ لم تتضح الصورة بعد، لكن من المفترض أن يلجأ ماكرون إلى اختيار مرشح من اليسار أو من اليمين، وسيكون ذلك صعباً في الخيارين، وربما يختار ماكرون اليسار لأن هذا الجناح يتمتع بأكبر كتلة نجحت في الانتخابات الأخيرة، وقد يتوجه الاختيار إلى مرشح من اليمين، وهو اختيار يتطلب ذكاء سياسياً، خصوصاً إذا اختار ماكرون بارديلا، وسيكون هدف ماكرون إدخال اليمين في أزمات حيث قد يعمل اليمين على استغلال الوضع لإسقاط ماكرون.
ويؤكد هيكل أن جميع السيناريوهات التي ذكرها تبقى في إطار التحليلات، ومن الصعب التنبؤ بما قد يحدث خلال الأشهر المقبلة.
رغبات الطامحين
في المقابل علق المحلل السياسي طارق وهبي قائلاً لـ"اندبندنت عربية"، إن "الذي كان متوقعاً حصل، سقطت حكومة بايرو بيده، فهو من سعى إلى طلب الثقة عبر خطابه في البرلمان وفق المادة 49/1، وللمرة الأولى تسقط حكومة كهذه في الجمهورية الخامسة، لكنه أكد أن ذلك كان بالتوافق مع الرئيس ماكرون، وهو الآن يعد للإتيان بشخصية منفتحة، بالتحديد على اليسار الوسط، أي الاشتراكيين، من دون إثارة أية حساسية سياسية مع أصدقائه في التجمع (معاً)، كما أنه يطمح لأن لا يخسر الجمهوريين في هذا التحالف العريض الذي قد يعطي لرئيس الحكومة المقبل أقل غالبية نسبية".
وأكد وهبي أن كل السيناريوهات التي سيضعها ماكرون ستكون عرضة للقطبين الأساسيين: اليمين المتطرف المتمثل بحزب التجمع الوطني والذي يرأسه السيد بارديلا مع السيدة مارين لوبن، واليسار الراديكالي المرتبط بمؤسسه السيد ميلانشون، وهذان الطرفان يطمحان إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة والذهاب إلى إطاحة الرئيس ماكرون وانتخاب رئيس جديد للبلاد. لكن الأمور لا تجري وفق رغبات الطامحين، فالأجندة السياسية معقدة مع الانتخابات البلدية المقبلة في مارس (آذار) 2026، والتي قد يجمع معها الانتخابات النيابية إذا ارتقى الرئيس ماكرون. إن ذلك أفضل الاحتمالات لحلحلة الأزمة البرلمانية التي تعيق سير العمل الحكومي مع طرح الثقة في كل مرة".
وأوضح أن التأثير على الحركة الاقتصادية كان غير ملحوظ، فالبورصة الفرنسية كانت مستقرة هذا الصباح، لكن التصنيف الفرنسي من قبل البنوك أضحى مهدداً بترك المركز الأول، وهذا يضعف من قدرة الدولة، أي الحكومة، على تسديد الديون وحتى على الاقتراض لاحقاً.
على جانب آخر، أشار وهبي إلى أن المعادلة ليست سهلة على الرئيس الفرنسي، لأن الاستحقاقات تتطلب الانخراط السياسي الصلب، فكل فريق يحاول أن يحمي نفسه بعدم الانجرار إلى الائتلاف الذي يطمح إليه الرئيس الفرنسي.
في اعتقاد وهبي، أن المرشحين لمنصب رئيس الحكومة ليسوا بالكثر، والعملية شاقة لأن من الممكن بعد تشكيل الحكومة أن تطرح الأطراف السياسية الثقة بالحكومة وتسقطها من جديد، أما حل البرلمان فهو ممكن وفق الدستور، ولكن ما حصل عام 2024 في الانتخابات النيابية مع تشكيل الجبهة الجمهورية لعدم السماح لمرشحي اليمين المتطرف بالوصول إلى الحكم عبر الانسحابات من الوسط مقابل اليسار وبالعكس، لن يكون سهلاً هذه المرة، لأن الانقسامات يميناً ويساراً تعمقت بل وأصبحت غير ممكنة. لذلك فإن حل البرلمان قد يعطي فرصة لليمين المتطرف للوصول إلى سدة رئاسة الحكومة والذهاب إلى تعايش مع الرئيس ماكرون، وذلك قد يطيح باليمين المتطرف إذا لم يستطيعوا أن يلبوا نداء الشعب الفرنسي المتطلب لتغيير حاله.
أمام ما سبق يشدد وهبي على أن التيارات اليمينية على جميع المستويات تضع المهاجرين، وخصوصاً العرب والمسلمين، وراء كل الأزمات. مؤكداً أن على الرئيس ماكرون هذه المرة ان يحدد جيداً ما أهدافه، لأن عهده سينتهي في أبريل (نيسان) 2027، وكل الاستحقاقات الدولية تضعف فرنسا، وأولها حل الحرب الأوكرانية، وأعمقها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
أمام خيار صعب
وعن السيناريوهات تحدث المحلل السياسي نبيل شوفان، قائلاً "بعد أول هزيمة لحكومة فرنسية في تصويت على الثقة في ظل الجمهورية الخامسة، فإن استقالة بايرو تضع الرئيس إيمانويل ماكرون أمام خيار صعب، مع اقتراب موعد اعتماد موازنة 2026 بحلول نهاية العام، بالتالي أمام الرئيس خيارات ليست واسعة ولكن أبرزها تعيين سريع لرئيس وزراء من شخصيات الوسط قادر على بناء غالبية موقتة".
وأشار قصر الإليزيه إلى أن خليفة بايرو سيتم تعيينه في الأيام القليلة المقبلة، ويجري تداول أسماء قادرة على التحدث إلى جزء من اليسار الإصلاحي أو اليمين المعتدل، وأعربت رئيسة الجمعية الوطنية يائيل براون-بيفيت، عن استعدادها للعمل لمصلحة البلاد، والتوصل إلى اتفاق برنامجي أدنى- إعطاء الأولوية للموازنة وبعض النصوص التي تحظى بتوافق الآراء- وأيضاً هناك رئيس البنك المركزي، ورئيسة البنك الأوروبي، وهناك إريك بومبارد وزير الاقتصاد في حكومة بايرو، وهو قادم من الحزب الاشتراكي ومقرب من شخصيات اليسار ويعرف جيداً الأزمة الاقتصادية والسياسية، بالتالي يبقى السؤال في ما إذا كان أي رئيس وزراء من الوسط يستطيع الحكم بأقلية من خلال التفاوض على كل نص على حدة للتوصل إلى تسويات معينة مع مجموعات المعارضة، خصوصاً على الموازنة التي يجب إقرارها قبل نهاية العام.
هناك سيناريو ثان تحدث عنه شوفان، وهو تعيين رئيس وزراء من الحزب الاشتراكي الذي أجرت شخصياته مشاورات داخل تحالفات اليسار، مع رفض اليسار الراديكالي متمثلاً بحزب فرنسا الأبية وزعيمه جان لوك ميلانشون المشاركة، لكن الاشتراكيين والخضر أجروا استشارات للتعاون المحتمل بعد سقوط حكومة بايرو، وحاول رئيس الحزب أولفييه فور، وهو قد رشح نفسه لتولي المنصب، أن يظهر حزبه كأقوى حزب تحضيراً للحكم، وأعلن عن خطة مالية بديلة عن خطة بايرو، ويبقى أمام الاشتراكيين تحدٍ أن يقبل ماكرون بخطتهم البطيئة لتقليل الديون، وأيضاً قدرة السيد فور على تحقيق غالبية تمنحه الثقة وتصوت لمصلحة خطته في البرلمان المنقسم بشدة.
في سناريو ثالث يراه شوفان ممكناً، قد يلجأ ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء تكنوقراط مستقل أو من الوسط، بمهمة أساسية تتعلق بالمسار المالي للبلاد وبالطوارئ الاجتماعية، أي التعليم، الصحة، والأمن، ويسمح الدستور لمثل هذه الحكومة باللجوء إلى المادة 49.3 في شأن قوانين المالية في حال عدم وجود دعم برلماني، ولكن هذا الإجراء سيظل مكلفاً سياسياً بعد إجراء تصويت على الثقة، وفي ظل تحركات اجتماعية غاضبة مرتقبة، فروح الدستور تقول إنه في حال عدم وجود غالبية مستقرة، لا يمكن للسلطة التنفيذية أن تعتمد بشكل دائم على المادة 49.3 في حال كان ذلك يثير نزاعات دائمة.
على جانب آخر يؤكد شوفان أنه على رغم استبعاد ماكرون لحل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، فإن هذه الخطوة تبقى مطروحة، ولا يوجد من الناحية القانونية ما يمنع ذلك مع مرور عام على حل الجمعية الوطنية عام 2024، لكن سياسياً يبقى حل البرلمان رهاناً محفوفاً بالأخطار، نظراً إلى ميزان القوى الناتج من الانتخابات الأوروبية والانتخابات الجزئية وحتى استطلاعات الرأي، وسط خطر تضخيم وزن حزب اليمين واليسار المتطرفين.
وعلى رغم أن هناك من يتحدث عن سيناريو استقالة الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة كما تطالب بعض أحزاب المعارضة المتشددة، ومن الناحية المؤسساتية يبقى هذا الخيار ممكناً لكنه متطرف، بمعنى أنه يفتح الباب على سلسلة استحقاقات انتخابية ستكون مرهقة، ولن تؤدي بالضرورة إلى تشكيل غالبية برلمانية واضحة في المدى القريب، وستحتاج كثيراً من الوقت وسط أزمة تحتاج حلاً سريعاً، ولا بد أن ماكرون لديه حق محاولة تشكيل حكومة توافقية أو حكومة تنال غالبية معينة قبل اللجوء إلى مثل هذا الحل.
وفي ما يتعلق بتأثير الأزمة السياسية والاقتصادية على المهاجرين العرب والمسلمين، يقول شوفان إن هذه الأزمة السياسية المالية المزدوجة تؤثر بشكل مباشر على الأقليات المهاجرة وتعرضها لوضع غير مستقر بشكل متسارع، مما يقلل من حصولهم على الرعاية الصحية والتعليم والسكن والحماية الاجتماعية، وبالدرجة الأولى تغذي الأزمة ارتفاع معدلات البطالة وتسبب الضغط المالي على الإنفاق الاجتماعي.
في مجال الهجرة
من المعلوم أن فرنسا تحت الضغط السياسي وضغط التحالفات في البرلمان لتمرير القوانين، اعتمدت تشريعات أكثر تقييداً في مجال الهجرة، عارضها حتى بعض نواب الحزب الحاكم، كذلك شددت الحكومة بشكل كبير شروط الحصول على الحقوق الاجتماعية للمهاجرين، ونذكر كيف حد قانون عام 2024 من الحصول على الإعانات العائلية، حيث يشترط الإقامة لمدة خمس سنوات في الأقل، أو ممارسة نشاط مهني للحصول على ميزاتها. ووفقاً لجمعيات حقوقية مثل "هيومان رايتس ووتش" سيؤدي ذلك في نهاية المطاف لحرمان 110 آلاف شخص، بينهم 30 ألف طفل، من حقوقهم الأساسية في التعليم أو السكن، كما تم سن قوانين أكثر صرامة على لم شمل الأسرة، والحصول على الرعاية الصحية، مثل إلغاء المساعدة الطبية الحكومية للرعاية غير الطارئة.
أيضاً يوضح شوفان "سنكون أمام مرحلة يتصاعد فيها الخطاب المثير للقلق والوصم، بالتالي فإن هؤلاء أمام خطر مزيد من التمييز والتهميش، بدءاً من إجراءات ومدد إدارية مطولة للبت في أوضاعهم القانونية، ومساعدات معلقة، وديناميات تضامن اجتماعي هشة، كما أن النظر إلى المهاجرين على أنهم عبء مالي قد يصبح أكثر شيوعاً، مما يغذي الخطاب الشعبوي ويشجع على سن قوانين أكثر تمييزاً بين فئات المجتمع".
ختاماً، سحب الثقة من حكومة بايرو ليس مجرد حدث سياسي، بل اختبار لقدرة النظام الفرنسي على التعامل مع أزمات متعددة: سياسية، اقتصادية، واجتماعية. وبالنسبة إلى المهاجرين العرب والمسلمين، فإن المرحلة المقبلة تتطلب متابعة دقيقة، إذ يمكن أن تؤثر تغييرات الحكومة على فرص الإدماج والأمان الاقتصادي والاجتماعي.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً حول السيناريو الأنسب لماكرون: هل سيختار حكومة مركزية تستطيع التوافق مع البرلمان، أم سيضطر للتنازل أمام اليسار؟ وما انعكاسات ذلك على الاستقرار السياسي والمجتمعي في فرنسا؟