Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من دون طلقة واحدة... كيف حافظ الفاتيكان على لبنان الكيان؟

المؤرخ عماد مراد: البابا يوحنا بولس الثاني أسهم في إسقاط النظام السوفياتي من دون امتلاك جيش أو رئاسة دولة كبرى أو اقتصاد قوي

يحتفظ الفاتيكان بمقاربة فريدة تجمع بين البعدين الروحي والدبلوماسي، مما يجعل دوره مميزاً عن سائر اللاعبين الدوليين المعنيين بالشأن اللبناني (مكتب الرئيس جوزاف عون)

ملخص

الآمال التي عقدها كثيرون على زيارة البابا لاوون الـ14 إلى لبنان لم تحجب تساؤلات جوهرية: ما مدى تأثير الفاتيكان الفعلي مقارنة بالدول الإقليمية والدولية المعنية؟ وهل يملك القدرة على تغيير مسار الأحداث في المنطقة ولبنان؟

لم تكن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان حدثاً روحياً فحسب، بل حملت أبعاداً جيوسياسية ووطنية عميقة، أكد من خلالها الفاتيكان التزامه بحماية "وطن الرسالة" كما وصفه البابا يوحنا بولس الثاني قبل عقدين من الزمن، ناهيك بالأولوية التي تمنحها دبلوماسية الكرسي الرسولي للنموذج اللبناني الفريد في منطقة الشرق الأوسط وأهميته الحضارية.

وتكشف مصادر مطلعة على كواليس الدبلوماسية الفاتيكانية عن أن الزيارة البابوية حملت دلالات عدة، في مقدمها مساعٍ ثابتة إلى تجنيب لبنان حرباً كارثية، والعمل من أجل السلام، مع ضغوط لإنهاء لعبة تدوير الزوايا والمناورات السياسية التي ما زالت تتحكم بالسياق السياسي اللبناني.

غير أن الآمال التي عقدها كثيرون على هذه الزيارة لم تحجب تساؤلات جوهرية: ما مدى تأثير الفاتيكان الفعلي مقارنة بالدول الإقليمية والدولية المعنية؟ وهل يملك القدرة على تغيير مسار الأحداث في المنطقة ولبنان؟ وسط مخاوف من أن تنتهي مفاعيل الزيارة بانتهائها، وأن تقتصر على تجميد الأزمة طوال الأيام الثلاثة التي استغرقتها.

في المقابل، يرى كثيرون أن الدبلوماسية الفاتيكانية الهادئة تمارس تأثيراً معنوياً وسياسياً لا يستهان به على الملف اللبناني. فتوقيت الزيارة المقصود، في خضم التقارير المتدافعة عن احتمال تعرض لبنان لحرب شاملة، والتحليلات التي اعتبرت أن الزيارة البابوية قد تؤجل العمليات العسكرية، كل ذلك يشير إلى اعتراف دولي بالمكانة الخاصة التي يحظى بها الفاتيكان لدى صانعي القرار في العالم.

كما قرأ محللون في جمع تركيا مع لبنان في الزيارة الأولى الخارجية رسالة بابوية، تنبه تركيا إلى النظر إلى بلاد الأرز برؤية مختلفة ومتقدمة من بين الدول الأخرى المنخرطة في ملف لبنان.

لا دبابات ولا عقوبات

كثيراً ما شكل لبنان ساحة للتنافس الدولي والإقليمي منذ عقود، وساحة لحروب الآخرين، وسط تصارع القوى الكبرى على النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي. لكن وسط هذا الزحام، يحتفظ الفاتيكان بمقاربة فريدة تجمع بين البعدين الروحي والدبلوماسي، مما يجعل دوره مميزاً عن سائر اللاعبين الدوليين المعنيين بالشأن اللبناني.

فبينما تسعى دول مثل إيران وفرنسا والولايات المتحدة وأخرى إلى تحقيق مصالح جيوسياسية واقتصادية وأمنية مباشرة، يركز الفاتيكان على الحفاظ على الهوية اللبنانية وتعزيز الحوار بين الأديان والبعد الإنساني للأزمة.

على عكس هذه القوى التي تعتمد على الضغوط العسكرية والسياسية المباشرة، تستند الدبلوماسية الفاتيكانية إلى القوة الناعمة، المرتكزة على الحياد النسبي، والصدقية الأخلاقية، والقدرة على فتح قنوات حوار مع جميع الأطراف من دون استثناء.

وصحيح أن الفاتيكان يفتقر إلى أدوات الضغط المادية التي تمتلكها الدول المعنية بالملف اللبناني، من عقوبات وتسليح ونفوذ عسكري، إلا أن تأثيره يكمن في قدرته على بناء الجسور حيث تفشل السياسة التقليدية، وعلى تقديم نفسه كطرف محايد موثوق في منطقة تعاني انعدام الثقة المزمن بين أطرافها.

يؤكد المطلعون على سياسة الفاتيكان أن الاستهانة بالدبلوماسية الفاتيكانية ينم عن جهل بطبيعة تأثيرها، فثمة في لبنان من يواكب فاعليتها منذ عام 2019 حتى اليوم، لكن العمل الدبلوماسي الفاتيكاني يتسم بالسرية والهدوء، وأن الإفصاح عن كل الخطوات ليس من عادات الفاتيكان، ولا المتعاونات أو المتعاونين معها.

تأثير في الأجندات الدولية

يرى الباحث والكاتب السياسي محمد قواص أن علاقة الفاتيكان بلبنان تتميز بعمقها الديني، وتختلف جوهرياً عن علاقة الأطراف الأخرى المعنية بالملف اللبناني التي تقوم على حسابات المصالح، ويوضح أن هذه العلاقة اتخذت دائماً طابعاً معنوياً ورمزياً وتاريخياً ودينياً، إذ تتقاطع هذه الجوانب مجتمعة لتصوغ الموقف السياسي للفاتيكان.

ويشير إلى اهتمام الفاتيكان بالنموذج اللبناني التعددي الذي جعل من البلد "رسالة" وفق التوصيف المحبب لدى الجميع، كما أن اختيار لبنان ليكون وجهة أولى جولة للبابا لاوون الـ14 إلى الخارج يكشف عن المكانة المتقدمة التي يحتلها هذا البلد الصغير في أولويات السياسة الخارجية للفاتيكان.

ويضيف أن هذه الزيارة تهدف إلى تسليط أضواء الإعلام الدولي على مكانة لبنان لدى المسيحيين في العالم، وهو أمر من شأنه التأثير في الأجندات التي تعمل وفقها العواصم الدولية المعنية بالشأن اللبناني. فالرسائل التي وجهها البابا من بيروت إلى العالم قد تدفع الفرقاء الدوليين إلى إعادة الانتباه للموقع الخاص الذي يحتله في خريطة الفاتيكان العالمية، وإلى ضرورة أخذ خصوصيته الحساسة والمعقدة في الاعتبار عند رسم سياساتهم تجاهه.

ويلفت الباحث السياسي المقيم في لندن إلى استحالة مقارنة غايات الفاتيكان القائمة على قيم الأخلاق والإيمان والدين مع منطق المصالح الذي يحكم تنافس القوى الخارجية في الشأن اللبناني، وعلى رغم أن الفاتيكان يمتلك نفوذاً على الكنيسة اللبنانية ومكانة لدى قادة لبنان، إلا أن هذا النفوذ في الوقت عينه لا يضاهي نفوذ الدول القائم على القوة والمال والاقتصاد والأيديولوجيا.

مع ذلك، يعتبر قواص أن قوة الفاتيكان تكمن في قدرته على التأثير في الكتل الناخبة لدى الدول الكبرى، وإن بجرعات محدودة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دور محوري في المبادرات الإيجابية

تكشف مصادر خبيرة مطلعة على كواليس الدبلوماسية الفاتيكانية عن أن محركاتها تتحرك منذ أكثر من ست سنوات باتجاه عواصم القرار، بخاصة تلك المنضوية تحت الخماسية الدولية (أميركا، فرنسا، السعودية، قطر، ومصر) والدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، حاملة في جعبتها دعوة واضحة إلى تجنيب الدولة اللبنانية أية تسوية على حسابها.

تشمل هذه الدعوة دعم خيار الشعب اللبناني في بناء دولة المواطنة السيدة الحرة العادلة والمستقلة بناء على اتفاق الطائف بكامل مندرجاته، وإنهاء ظاهرتي السلاح غير الشرعي وتعميم الفساد، وصولاً إلى تأمين انتقال قيادة جديدة ورؤية جديدة بديناميكية داخلية تخوضها النخبة اللبنانية من مقيمين ومغتربين، إذ ليس من الممكن إنجاز تغيير جذري من دون تقاطع الديناميكية الوطنية مع نظيرتيها الاغترابية والدبلوماسية العامة.

وتضيف المصادر أن محركات الدبلوماسية الفاتيكانية كانت في خلفية تشكيل الخماسية الدولية، كما في كل المبادرات الإيجابية من إنهاء الفراغ الرئاسي إلى إنجاز وقف الأعمال العدائية باتجاه تسلم الدولة زمام المبادرة السيادية، وقد كان لأمانة سر دولة الفاتيكان ولأمانة سر الدولة للعلاقات بين الدول الدور الاستثنائي في تشييد عمارة الزخم العربي والدولي القائم لإنقاذ لبنان.

 رسالة مزدوجة: للداخل والخارج

تعتبر المصادر أنه ليس صدفة ولا بروتوكولاً أن يزور البابا لاوون الـ14 في وجهته الأولى بعد تركيا لبنان، بل لسبب جيوسياسي عميق الرمزية. وأن الأهم في هذه الزيارة هو الرسالة الموجهة إلى الداخل، وتحديداً إلى منظومة الحكم فيه، بضرورة عدم تضييع البوصلة الدستورية وهدر الفرصة التاريخية، واستعادة الأخلاق إلى الشأن العام.

لكن هناك أيضاً رسالة موازية إلى العالم العربي والمجتمع الدولي بضرورة تكثيف الضغط على منظومة الحكم اللبنانية للسير الفعلي في بناء دولة المواطنة الحاضنة للتنوع وصون صيغة العيش المشترك، كما تتضمن الرسالة دعوة إلى تفكيك الحلف الموضوعي بين إسرائيل وإيران الذي حول لبنان، النموذج الحضاري، إلى وقود في صراع حول قيادة محور الأقليات. والكرسي الرسولي يواجه ذلك، انطلاقاً من موقفه الثابت الرافض للعنف والتطرف والحروب

تحول دور الكنيسة عبر التاريخ

يستعرض المؤرخ اللبناني عماد مراد تاريخ العلاقة بين الفاتيكان ولبنان، موضحاً التحول الكبير في دور الكنيسة من القوة العسكرية إلى التأثير السياسي والمعنوي الفاعل، سواء في أوروبا أم لبنان. ويكشف عن أن آخر دور عسكري مباشر للبابوية في أوروبا كان خلال القرن الـ17، إذ تدخل الكرسي الرسولي سياسياً وعسكرياً في الحروب الأوروبية ولعب دوراً محورياً في الدفاع عن أوروبا المسيحية ضد السلطنة العثمانية، خصوصاً أثناء حصار فيينا. لكن بعد الثورة الفرنسية ومصادرة أملاك الكنيسة في أوروبا وخصوصاً في فرنسا، تراجع الدور السياسي للكنيسة بصورة كبيرة وتوقف دورها العسكري تماماً.

في العصر الحالي، أصبح للحبر الأعظم دور سياسي كبير يحظى بالتقدير والاحترام من جميع الدول، سواء كانت كاثوليكية أم لا، مسيحية أم غير مسيحية. ومن أبرز الأمثلة على هذا التأثير البابا يوحنا بولس الثاني، الذي أسهم بصورة كبيرة في إسقاط الاتحاد السوفياتي وإضعاف النظام الشيوعي عالمياً من خلال زيارته لبلده الأم بولندا الشيوعية عام 1979، وحينها لعب دوراً محورياً في إلهام الحركة الوطنية البولندية، وأسهم في تعزيز الروح المعنوية للمعارضة البولندية، ولاحقاً في تشكيل حركة "التضامن" التي أدت إلى إنهيار النظام الشيوعي في هذا البلد، وفي النهاية في أوروبا الشرقية بأسرها.

وقد استطاع تحقيق ذلك من دون امتلاك جيش أو رئاسة دولة كبرى أو اقتصاد قوي، لكنه نجح في إسقاط ثاني أكبر قوة عالمية آنذاك، وفق المؤرخ مراد.

 حماية لبنان من السقوط

خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، يتابع مراد، تمكن البابا يوحنا بولس الثاني وسلفه بولس السادس من منع سقوط لبنان وانهياره من خلال علاقات الفاتيكان مع الدول المعنية، وحالا دون تقسيمه أو تحويله إلى وطن بديل لفلسطين. ويقول "صحيح أن الفاتيكان لم يملك جيشاً ولم يتمكن من وقف الحرب مباشرة، إلا أنه منع سقوط هذا البلد الصغير بفضل علاقة البابا يوحنا بولس الثاني بالولايات المتحدة الأميركية. ووقف الكرسي الرسولي إلى جانب لبنان معنوياً أيضاً، فأرسل المساعدات والموفدين، خصوصاً إلى المناطق الحساسة في الجنوب. كما مكث موفد البابا حينها في منطقة جزين الجنوبية ذات الغالبية المسيحية عشرات السنين، في رسالة واضحة لتشجيع المسيحيين على التمسك بأرضهم ومنع تهجيرهم".

وخلال فترة وجود الجيش السوري في لبنان، وقفت روما دائماً إلى جانب بيروت. فيما كانت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997، في ذروة الهيمنة السورية (عسكرياً وسياسياً)، رسالة للداخل والخارج بأن لبنان باق ولن يصبح تابعاً لسوريا. دعم البابا حينها البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير في مواجهته للنظام السوري، مما أدى إلى نداء المطارنة الموارنة الشهير عام 2000 الذي أوصل لبنان إلى الاستقلال الثاني، ومعه خرج الجيش السوري من لبنان.

وبعد عام 2006، مع بداية الحديث عن حكم الثنائي الشيعي (حركة "أمل" و"حزب الله") وفكرة ولاية الفقيه، يرى مراد أن زيارة البابا بنديكتوس الـ16 عام 2012 جاءت لتؤكد أن لبنان للشعب اللبناني بجناحيه المسيحي والمسلم، وأن لا أحد يمكنه ضم أرض لبنان إليه، لا سوريا ولا فلسطين ولا ولاية الفقيه.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير