ملخص
رسائل عدة ودعوات وجهها البابا إلى من رافقوه في الزيارة، ومن بينها الدعوة إلى المضي قدماً على طريق السلام والمصالحة من أجل مستقبل مشترك. لكن بعد كل ما حملته الزيارة من أمل ورجاء، يتساءل اللبنانيون ما إذا كانت هذه المحطة ستشكل فعلاً نقطة تحول في تاريخ لبنان وتعدل مسار الأمور ليشهدوا بعدها ولادة لبنان جديد هو الوطن الذي كثيراً ما حلموا به وأملوا فيه لأبنائهم.
بعد أسابيع من الترقب والتحضيرات، استقبل لبنان البابا لاوون الرابع عشر على أراضيه خلال ثلاثة أيام عاش فيها الشعب اللبناني أجواء كلها صلاة وإيمان وسلام.
ضمن أكبر حدث روحي حصل اللقاء المنتظر، ففاق كل التوقعات بما تخلله من رجاء وآمال وصلوات من قبل اللبنانيين الذين احتشدوا للقاء البابا، وأولئك الذين تسمروا أمام الشاشات لمتابعة تفاصيل زيارة من علقت عليه الآمال.
أتت زيارة البابا إلى لبنان في توقيت حساس، وبرمزية قوية أدركها الكل في حضوره المهيب الذي أكد خلاله أن وجود هذا البلد الصغير على الخريطة العالمية أساسي وضروري. وقد تكون هذه من المرات القليلة التي يتوحد فيها اللبنانيون الذين فرقتهم الخلافات، فاجتمعوا من مختلف الانتماءات بقلوب ملؤها الرجاء وأجمعوا على أمنية واحدة هي السلام.
رموز محورها السلام
قبيل ساعات من اللحظة التي حطت فيها طائرة البابا بمطار "رفيق الحريري" الدولي في بيروت، تجمع اللبنانيون على اختلاف انتماءاتهم عند الطرقات المؤدية إلى المطار للحصول على بركة أو لفتة منه، وتلاقوا جميعاً وانضم إليهم مغتربون ووفود حضرت من مختلف الدول للقاء ضيف لبنان الذي أتى حاملاً معه رسالة سلام، والترحيب به في زيارة تميزت برمزية عالية سواء من خلال توقيتها أو من خلال المحطات التي تخللتها.
بالخبز والملح وتراب لبنان وأغصان الزيتون استقبل البابا، وتسلمها من طفلين هما من الناجين من مرض السرطان، فكانت لحظات معبرة تحدثت عندها إدارة مركز سرطان الأطفال في لبنان بالإشارة إلى أنه كان هناك تنسيق مع الشركة المكلفة التحضيرات في القصر الجمهوري والمطار، بناء على توجيهات السيدة الأولى التي حرصت على إبراز البعد الإنساني للحدث عبر دعوة الأطفال الناجين من مرض السرطان، تقديراً لقوتهم وشجاعتهم ورسالتهم الملهمة وسط التحديات الصحية المتزايدة.
وكانت لحضور الطفلين رمزية خاصة تعبر عن الأمل والانتصار على المرض، وتحمل رمزية الخبز والملح والتراب دلالات عميقة من التراث اللبناني، فالتراب أخذ من شبعا في الجنوب ليباركه البابا، ويكون بركة للأرض كلها، في إشارة إلى التمسك بالجذور والانتماء والصمود. أما الخبز فمن خنشارة في جبل لبنان، والملح من أنفه شمال لبنان. ويجسد الخبز والملح في التراث اللبناني والعربي معاني العشرة والثقة، وهما رمز للمحبة والضيافة والوحدة، وعلى علاقة قائمة على الاحترام والمودة "يعبر تقديم هذه الرموز عن أننا أصبحنا عائلة واحدة تجمعنا الإنسانية والمحبة. وبهذه الرموز الثلاثة، التراب والخبز والملح، تتجلى رسالة لبنان الموحد بكل مناطقه، أرض مباركة وشعب واحد وروح تنبض بالأمل والمحبة".
وفي كل خطاب له، شدد البابا على السلام والمحبة، بدءاً من خطابه الأول الذي ألقاه أمام الرؤساء الثلاثة والوفود الرسمية التي كانت في استقباله بمطار بيروت، إذ أكد أن الشعب اللبناني لا يعرف الاستسلام، وهو شعب يقف أمام الصعاب ويتميز بالصمود، ودعا إلى العمل من أجل السلام والالتزام به وإلى الصمود في أرض الوطن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع انتقال البابا إلى القصر الجمهوري حيث أقيم له حفل استقبال الرسمي، رافقته أيضاً الحشود التي كانت بانتظاره على الطرقات المؤدية إلى القصر للترحيب به بكل حفاوة بالرز والورود، وفي قلوبهم كل الرجاء والأمل في أن تحمل هذه الزيارة معها السلام للبنان، خصوصاً أنها تأتي في توقيت حساس يُعد فيه اللبنانيون بأمس الحاجة إلى ما يعيد لهم الأمل والتفاؤل بغد أفضل بعد أعوام أمضوها في ظروف غاب عنها الاستقرار.
ولأن السلام كان محور الزيارة، وجدت في كثير من محطاتها أغصان الزيتون ويمامة السلام لتعيد التذكير في كل مرة بأن هذا ما يتوق إليه بصورة خاصة اللبنانيون ولبنان خلال هذه المرحلة الدقيقة.
الحدث الروحي الأهم
صحيح أن البابا لاوون الرابع عشر ليس أول الباباوات الذين يزورون لبنان، لكنها الزيارة الأولى من نوعها منذ عام 2012، وهي أولى رحلاته الخارجية مع تركيا بعد ترسيمه بابا للفاتيكان مما يؤكد على دلالاتها المهمة. ولتوقيت الزيارة رمزية خاصة، إذ إنها تأتي في ظروف استثنائية يعيشها لبنان مع تهديدات الحرب المستمرة، وبعدما مر اللبنانيون بمعاناة طويلة وأزمات متكررة، وقد تألموا كثيراً وباتوا بأمس الحاجة لأن يستعيدوا الأمل في الحياة، لذلك كانت هذه الزيارة الاستثنائية التي يأمل اللبنانيون في أن تعيد السلام للبنان، بعدما أكد البابا على أهمية وجود لبنان، وتمسكه به ووقوفه إلى جانبه، وبعد أن سلط الضوء عليه، ودعا قادته إلى التوحد في مواقف عدة خلال الزيارة.
من جهة أخرى، لمحطات برنامج الزيارة رمزية خاصة، وحملت معها رسائل روحية ووطنية كبرى، مما أوضحه رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام والمنسق الإعلامي الكنسي لزيارة البابا الأب عبده أبو كسم خلال حديثه، مشيراً إلى أن زيارة البابا الاستثنائية للبنان هي دعوة صريحة وواضحة إلى السلام، وأكد فيها مراراً أن الشعب اللبناني على اختلاف انتماءاته يتميز بالصمود، وهو محب للحياة، ولا يعرف للاستسلام معنى. "هي زيارة هدفها تقوية لبنان ورفعه إلى مصاف الدول الأخرى، بعدما بقي مهمشاً طويلاً، وضعيفاً في المراحل السابقة، تتخذ القرارات في شأنه من الخارج".
ومن المحطات البارزة زيارة البابا لضريح القديس شربل، وقد حرص على زيارة الدير كمحطة أساسية في زيارته لتكون محطة صلاة وخشوع ولقاء مع أحد أبرز قديسي لبنان، إذ أراد أن تكون البداية بالصلاة.
وبدت زيارة دير القديس شربل في صباح اليوم الثاني لزيارته مهيبة فعلاً، وحملت كثيراً من الرسائل الروحية، على رأسها التواضع والدعوة إلى الصلاة والتأمل. في تلك المحطة انتظر الآلاف مرور موكب البابا على الطرقات المؤدية إلى الدير في عنايا، من لبنانيين وأجانب ومغتربين ووفود من سوريا والأردن والعراق وبولندا والولايات المتحدة وغيرها من الدول، للقاء البابا والحصول على مباركته. وترقبوا وصوله طوال ساعات، فلم يوقفهم المطر ولا البرد، بل حملوا في قلوبهم كل الرجاء بأن تحمل الزيارة كل الخير للبنان ولعائلاتهم. وطوال الزيارة رافقته صلوات اللبنانيين وأمانيهم، فكانت بينهم الأمهات اللواتي أملن عودة أبنائهن في الاغتراب، والشباب الذين صلوا متضرعين ليكون لهم مستقبل أفضل في الوطن وليتمكنوا من الصمود فيه، والمرضى الذين صلوا ليجدوا الشفاء على أثر هذه الزيارة.
وعلى اختلاف الصلوات، كانت أجواء الخشوع مسيطرة في عنايا، كما في كل محطة للبابا لاوون الرابع عشر. وفي هذه المحطة بصورة خاصة، كان بانتظاره مرضى عاشوا تجربة الشفاء مع القديس شربل أو "طبيب السماء" كما يعرف عنه، ومن بينهم أيضاً أطفال ومسنون كانوا يترقبون لحظة مجيئه.
أمام هذه الوفود المهيبة التي انتظرت ساعات للقائه، بدا التأثر واضحاً على البابا فيما كان يلقي التحية عليهم ويباركهم. وبدا دخوله إلى الصلاة والركوع أمام ضريح القديس شربل من تلك اللفتات التي كثر التداول حولها.
جوهر حياة الراهبات
بحسب أبو كسم، كانت زيارة راهبات الكرمل الناسكات عفوية ومن خارج برنامج الزيارة، وقام بها البابا مساء يومه الأول، وحرص خلال كلمته على التركيز على جوهر حياة الراهبات التأملية، فنقل عبر زيارته هذه رسالة محورها التواضع والتضحية وحرصه على الوقوف دوماً إلى جانب المهمشين. لهذا أيضاً كان البابا حريصاً على أن تتخلل الزيارة محطة ذات طابع إنساني وروحاني، فكان اختيار مستشفى دير الصليب للأمراض العقلية والنفسية، وهو المستشفى الوحيد من نوعه، في دعوة إلى إكرام الضعفاء والمهمشين أينما وجدوا وتكريس الاهتمام بهم، ضمن زيارة تحمل شعار "طوبى لصانعي السلام".
ويضيف "هي ليست محطة عابرة في زيارة البابا، بل رسالة إنسانية وروحية فيها كثير من العمق، خصوصاً أن الأب يعقوب كان أسس دير الصليب من أجل الناس المنسيين والمهمشين الذين يشكلون أولوية في رسالة البابا لاوون الرابع عشر، فأراد تكريم من لا يراهم أحد في ضجيج الحياة، وينقل رسالة واضحة محورها أن القداسة تبدأ من الاهتمام بالإنسان ومساعدة الضعيف وتشجيع الناس على الاهتمام بالمهمشين".
وكانت للبابا محطة في لقاء مع الإكليروس للاستماع إليهم، وليدعوهم إلى أن يكونوا صانعي سلام. أما اللقاء المسكوني فكان لقاء خاصاً في غاية الأهمية للبابا وللبنان، لما له من رمزية ونظراً إلى الرسالة التي نقلها وعكست معنى الوحدة بين الطوائف المسيحية والمرجعيات الإسلامية، فضلاً عن أنها شكلت دعوة إلى الحوار بين الأديان لأن الحوار وحده يؤدي إلى السلام، وحملت أيضاً دعوة إلى الاحترام المتبادل والعيش المشترك في لبنان. فكان هذا اللقاء ذا معاني عميقة في غاية الأهمية للبنان، خصوصاً أنه ضم لقاء بين رؤساء مختلف الطوائف ضمن خيمة شيدت في "ساحة الشهداء" لتشهد على حدث يؤكد على وحدة اللبنانيين، وعلى العيش المشترك على وقع ترانيم الأطفال من مختلف الطوائف.
أيضاً شكل لقاء البابا مع الشبيبة محطة مهمة للغاية، إذ عجت الطرقات المؤدية إلى بكركي بالشباب الذين توافدوا بكثافة من مختلف المناطق للقائه، وبدا أن هذه المحطة كانت من تلك التي أثرت في الحبر الأعظم بصورة خاصة كما بدا واضحاً من خلال تفاعله مع الشبيبة. ودعاهم ليحلموا ويعملوا للخير ويكونوا دعاة محبة وسلام، ويصمدوا في أرض الوطن بدلاً من اللجوء إلى الهجرة كحل في مواجهة التحديات، مؤكداً أن المستقبل بين أيديهم ليزدهر لبنان من جديد.
وعلى رغم الأعداد الكبيرة التي احتشدت في باحة بكركي، ترقب الشباب هذا اللقاء بلهفة واضحة واندفاع، وعبر كثر منهم عن وجع ومخاوف، ومنهم من نقل أصوات الشباب اللبناني أمام البابا الذي استمع بهدوء واهتمام واضح.
وفي اليوم الأخير للزيارة، كانت وقفة الصلاة الصامتة في مرفأ بيروت من تلك المناسبات المؤثرة، حيث التقى عائلات الضحايا والجرحى، وصلّى لراحة نفس من قضوا بانفجار المرفأ في الرابع من أغسطس (آب) عام 2020 وأضاء شمعة لهم. ويوضح أبو كسم أن البابا حرص على القيام بهذه الوقفة للتذكير بأن قضية انفجار المرفأ وضحاياه يجب ألا تموت، ولا بد من أن تبقى ضمن أولويات الدولة لإنصاف الضحايا وعائلاتهم وتحقيق العدالة.
أما القداس الإلهي المنتظر، فشكل المحطة الأخيرة في زيارة البابل قبل أن يغادر لبنان، وشارك فيه أكثر من 120 ألف شخص من لبنان ودول عدة أخرى. وعلى رغم الأعداد الكبيرة من الحاضرين في القداس، ساد الصمت طوال ساعة ونصف الساعة شارك فيها الحاضرون بالإصغاء إلى عظة البابا التي تخللتها رسائل معبرة عدة.
وفي لقاءاتنا معهم عبر كثرٌ منهم عن الآمال التي يعلقونها على الزيارة، آملين أن تبعد شبح الحرب. وتمنوا جميعاً، كباراً وصغاراً، خصوصاً الشباب منهم، أن تحمل هذه الزيارة معها كل الخبر للبنان، وأن تتبعها مرحلة جديدة أكثر إيجابية وازدهاراً في تاريخ البلد.
خلال ثلاثة أيام، انشغل اللبنانيون بزيارة البابا التي شكلت نفحة أمل ورجاء بكل ما حملته من رمزية، وبما فيها من محطات ولقاءات معبرة محورها السلام والمحبة والوحدة. رسائل عدة ودعوات وجهها البابا إلى من رافقوه في الزيارة، ومن بينها الدعوة إلى المضي قدماً على طريق السلام والمصالحة من أجل مستقبل مشترك. لكن بعد كل ما حملته الزيارة من أمل ورجاء، يتساءل اللبنانيون ما إذا كانت هذه المحطة ستشكل فعلاً نقطة تحول في تاريخ البلاد وتعدل مسار الأمور ليشهدوا بعدها ولادة لبنان جديد هو الوطن الذي كثيراً ما حلموا به وأملوا فيه لأبنائهم.