ملخص
يعزز الهجوم الأخير الهواجس من هشاشة أمن الطاقة الحيوية للإقليم الكردي، ويفرز تساؤلات حول مدى قدرته على تأمين سيادته الطاقوية من دون منظومة تتكفل بتوفير الحد الأدنى من قدراته الدفاعية لحماية سمائه، والتحديات السياسية والقانونية التي تعترض طموحه عراقياً ودولياً.
في ليلة الأربعاء الـ26 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، انقطع التيار الكهربائي عن معظم مدن إقليم كردستان العراق، إثر تعرض حقل غاز "كورمور" الاستراتيجي في قضاء جمجمال بمحافظة السليمانية لقصف غامض من جهة مجهولة، في رسالة أثار توقيتها وحجمها ملفاً حساساً يتمثل في إحياء الطموحات الكردية لنشر بطارية دفاع جوي سواء من الحكومة الاتحادية في بغداد أو من خلال دعم أميركي.
هذا الهجوم لم يكن الأول من نوعه باستثناء أنه كان أشد وقعاً من حيث الضرر، فقد سبق وأن تعرض سواء بصواريخ أو طائرات مسيرة إلى نحو 10 هجمات مماثلة منذ صيف عام 2022، وغالباً ما كانت أصابع الاتهام توجه رسمياً إلى جماعات توصف بـ"الخارجة عن القانون" في إشارة إلى فصائل وميليشيات شيعية موالية لطهران، فضلاً عن قصف حقول ومواقع نفطية خلال الأعوام القليلة الماضية.
ويعزز الهجوم الأخير الهواجس من هشاشة أمن الطاقة الحيوية للإقليم الكردي، ويفرز تساؤلات حول مدى قدرته على تأمين سيادته الطاقوية من دون منظومة تتكفل بتوفير الحد الأدنى من قدراته الدفاعية لحماية سمائه، والتحديات السياسية والقانونية التي تعترض طموحه عراقياً ودولياً.
نقطة جيوستراتيجية
تكمن أهمية حقل كورمور للغاز في كونه يمثل شرياناً اقتصادياً بالغ الأهمية للإقليم، فهو أكبر حقول الغاز في العراق عموماً، ويقدر احتياطه من الغاز بأكثر من 8 تريليونات قدم مكعب وقد يصل إلى 16 تريليون، فيما يتجاوز إنتاجه اليومي 500 مليون قدم مكعب، فضلاً عن نحو 38 برميلاً من النفط، وما يربو من 1.150 طن من الغاز المسال، ويعد المصدر الرئيس لتوليد الطاقة الكهربائية في الإقليم، فيما يصدر الفائض إلى المحافظات العراقية بمقدار 1700 ميغاوات يومياً.
هذه الأرقام جعلت من الحقل الذي تديره شركة "دانا غاز" الإماراتية ليكون أداة جيوستراتيجية مهمة تضع الإقليم على خريطة الطاقة في المنطقة، ذلك أن الطموحات المستقبلية على المدى القصير تهدف إلى رفع طاقته الإنتاجية بنسبة 50 في المئة في العام المقبل، لكن خلال الوقت نفسه قد يتحول إلى نقطة تنافس وتصادم للمصالح المتعارضة محلياً وإقليمياً، في ظل إمكان أن يغني العراق عن الاعتماد على الغاز الإيراني في تشغيل محطاته الكهربائية، وخطط كردية مستقبلية لتصديره إلى تركيا الواقعة تحت ضغط أميركي لتقليل الاعتماد على الغازين الإيراني والروسي، وهذا الواقع يجعل من طموح الأكراد للحصول على أسلحة دفاع جوي ضرورة وجودية.
مطلب شائك
وتزامن توقيت الهجوم، مع تحضيرات تجري في أربيل لافتتاح مبنى القنصلية الأميركية الجديد لتكون أكبر قنصلية في العالم، وأيضاً ترقب مجيء الممثل الخاص للرئيس الأميركي إلى العراق مارك سافيا، في مشهد استغلته الأصوات الرسمية الكردية لتوجيه مطلب صريح ومباشر لواشنطن وبغداد بضرورة نصب نظام دفاع جوي فعال "بأسرع وقت"، واتهم نائب مدير مكتب رئيس وزراء الإقليم عزيز أحمد حكومة بغداد بالمماطلة في تحقيق هذا المطلب.
المعطيات والمواقف السابقة تظهر أن مسار المطلب الكردي شائك ومعقد، وبحسب محللين فإن العقبات تتشعب بين الشروط القانونية والسياسية والكلفة الاقتصادية، وكذلك تحفظات وشروط دول فاعلة في المعادلة الجيوسياسية، إلى جانب حساب التبعات التي قد تفرزه هذه الخطوة في منطقة تشكل نقطة صراع وتوتر بفعل انقسام الأطراف على محاور متباينة.
خيارات مقيدة
وضمن هذا السياق يطرح الباحث في العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي سنكر رسول خيارين لتحقيق المطلب، يكمن الأول "في شراء منظومة أميركية عالية الكفاءة، لكنه يصطدم بصعوبات تتمثل بقانون "إيكا" الخاص بتصدير التكنولوجيا العسكرية، إذ يتطلب موافقة الكونغرس والرئيس، وسياقات أخرى تجابه بأسئلة عن طبيعة المشتري فيما إذا كان يتمتع بالموثوقية الكافية وضمانات عدم وقوعها بيد الخصوم، وهل يحدث خللاً في التوازن السياسي والإقليمي ومدى انسجام الخطوة مع الاستراتيجية والمصلحة الأميركية داخل المنطقة.
ويوضح باحث في العلاقات الدولية أن "العقبة الأخرى تكمن في الكلفة المرتفعة لهذه المنظومة، إذ يقدرها رسول "بأكثر من 400 مليون دولار، فضلاً عن كلفة التدريب والتشغيل والصيانة، وتصل قيمة كل صاروخ إلى 1.5 مليون دولار في حين أن صنع طائرة مسيرة إيرانية مثلاً قد لا تتجاوز 10 آلاف دولار"، ومن الناحية الجيوسياسية فإن "أنقرة ستعترض، ويجب احتساب رد فعل طهران والفصائل الموالية لها، والأهم من كل ذلك سيتطلب موافقة بغداد وهذا يبدو مستبعداً آنياً".
وبما أن بغداد تقترب من موعد تسلم بطريات منظومة دفاع جوي من كوريا الجنوبية خلال العام المقبل، بحسب ما كانت أعلنته وزارة الدفاع، فإن الحصول على هذا النوع قد يكون خياراً أفضل للأكراد، وفق ما ذكر رسول، بسبب "كلفتها المنخفضة التي لا تصل إلى ثلث نظيرتها الأميركية، على رغم أن غالب مكوناتها تنتجها شركات أميركية، وبالإمكان شراؤها في إطار الاتفاقات بين بغداد وواشنطن، كضمانة لئلا تشكل تجاوزاً على السيادة العراقية"، وختم قائلاً إن "أخطار تسرب المنظومة الكورية هي أقل حساسية من مثيلتها الأميركية، وسيول هي أساساً حليفة لواشنطن وتلتزم بحدود الاستراتيجية الأميركية في تصدير السلاح".
أزمة في بنية النظام
تظهر إشكالية الدفاع الجوي داخل البلاد في نتاج تنازع الصلاحيات بين بغداد وأربيل، والافتقار إلى رؤية متجانسة للأمن القومي، ويزيد غياب سياسة عليا للدولة من عمق الفجوة، في ظل تهديدات داخلية تغذيها إرادات إقليمية متشابكة، وفي ظل هذا المشهد يشكل ملف تسليح الإقليم جزءاً من معادلة معقدة تتعلق بالسيادة وتوازنات القوى، أكثر من كونه إجراء فنياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المحلل الأمني والاستراتيجي أحمد الشريفي يقول "إن مسألة السيادة الجوية في النظم الفيدرالية تكون فيه القدرة الدفاعية للأقاليم تكون مقيدة بموجب الدستور دائماً، وعليه فإن حماية الإقليم مسؤولية اتحادية"، واستدرك "لكن المشكلة تكمن في غياب سياسة عليا للدولة قادرة على جمع الشركاء، فالمتحكم بدفة القرار في بغداد يميل إلى سياسة المحاور، ومثالاً فإن المصلحة الإيرانية تقتضي تقييد الاستثمار في العراق وتحديداً في مجال الطاقة، مما أحدث خلالاً في التركيبة البنيوية للسياسة العليا للدولة العراقية وتناقضاً في الرؤى بين أربيل وبغداد، ويُلاحظ تواطؤ اتحادي في تأمين الحصانة للإقليم، فمسألة تسليحه ستربك المشهد الأمني، لأن ذلك يتطلب تحديد الجهة التي ستتولى الإمرة والقيادة".
وعلى الجانب التقني يوضح الشريفي عن "وجود أحزمة نارية ضامنة لخط الردع الصاروخي في مختلف المديات، وتوجد ما يطلق عليها بطارية الصواريخ القطرية، وبالإمكان الاعتماد على الأخيرة من نوع بانسير في حماية محطات الطاقة، فمداها يصل إلى 15 كيلومتراً، وبحسب الارتفاع تحقق حزام ضامن"، واستدرك "لكن مع وجود طائرات مسيرة ونيران قادرة على المشاغلة بدقة، كما جرى مع حقل كورمور الذي قصف بواسطة طائرات مسيرة جاءت في وضعية تراتبية، فإن هذا الأسلوب يخترق البطارية".
تعطيل قبل الصد
ويبقى الموقف الرسمي في بغداد ثابتاً على أن شراء منظومة دفاع جوي يعد قراراً اتحادياً حصراً، ويتلخص وفقاً للاعتبارات الدستورية والاستراتيجية في إطار "منظومة مركزية متكاملة تحت إشراف اتحادي"، وأن طموح الأكراد ينظر إليه من قبل قوى شيعية وسنية على كونه خروجاً عن "وحدة القرار العسكري للبلاد" وقد "يهدد سيادة الدولة" مع مخاوف من استخدامها خارج سيطرة الدفاع الوطني، على رغم أن محللين وعسكريين يجمعون على هشاشة قدرات البلاد الدفاعية لاعتمادها في الغالب على أنظمة دفاعية قصيرة المدى أو حتى على مستوى الرادارات وأجهزة الرصد، مع عدم امتلاكه لمنظومات بعيدة المدى مثل منظومة "S-300" أو "باتريوت".
ويتفق خبراء على أفضلية تعطيل التهديد بدلاً من صده طالما كان ينطلق من الداخل، لجهة أن نشر بطارية في الإقليم قد يخلق تداخلاً مع الأنشطة الاتحادية على مستوى وزارة الدفاع، ناهيك باستنزاف للاقتصاد جراء الكلفة المرتفعة للشراء والتشغيل، وينوه المحلل الشريفي إلى أن "تحريك الأذرع الداخلية يأتي تحت إرادات إقليمية، فعلى رغم التناقض في المواقف فإن هناك توافقاً إيرانياً تركياً في هذا الصدد، في حين أن الأميركيين يدعمون أربيل، من منطلق سياستهم الداعمة للنظام الفيدرالي، بينما واقع النظام في العراق يعاني أزمات تتطلب حلولاً جذرية".
اتفاق أمني مشروط
وكثيراً ما كان ملف تزويد قوات البيشمركة الكردية بأسلحة ثقيلة مثار تحفظ واضح من قبل قوى سياسية شيعية وتحديداً الموالية لطهران، فإن قادة سنة بارزين كانوا انضموا إلى صف المعارضين على رغم أنهم في السابق كانوا يحسبون ضمن المقربين من الأكراد، وبخاصة بعد تسليم وزارة الدفاع الاتحادية للإقليم مدافع أميركية دفاعية من نوع "هاوتزر" خلال سبتمبر (أيلول) العام الماضي، مثل رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي الذي كان حذر من استخدامها في الصراع السياسي عند مناطق موضع النزاع بين أربيل وبغداد، لكن الدفاع العراقية قالت إن عملية التزويد جرت وفق إجراءات رسمية وقانونية، ووصف البيشمركة بأنها "قوة وطنية لا يشك بولائها للعراق".
كما أن شروط الاتفاق الأمنية بين الأميركيين والعراقيين تمنع تزويد الأكراد بالأسلحة من دون موافقة ببغداد، وحصل ذلك خلال الحرب على تنظيم "داعش"، وبخاصة أن الإدارة الأميركية أعلنت في أعقاب قصف إيران لأهداف في أربيل بصواريخ باليستية خلال مارس (آذار) عام 2002 أنها تبحث مع بغداد وأربيل "جزئياً" لمساعدتهما في الحصول على قدرات دفاعية.
وفي ظل التنافس الدولي على الغاز الطبيعي كأحد مصادر الطاقة الرئيسة، تبقى نظرة الأكراد لحقل كورمور ضمن أجندة أمنهم القومي، ومنها بناء قدرات دفاعية تضمن استقراراً لقطاع الطاقة الحيوي، أو البقاء تحت رحمة هجمات تقوض مستقبلهم الاقتصادي.