ملخص
سمحت إسرائيل للدفاع المدني بالعمل في جنوب غزة، أما شمال القطاع فإنه مخصص له 20 ساعة فقط، وتقتصر الجهود الحالية على الأبنية الصغيرة، في حين تبقى العمارات المدمرة بالكامل تعتمد على الحفر اليدوي بأدوات بدائية مثل المجارف والمعاول وعربات اليد والمناجل والأيدي العارية، على رغم أن مدينة غزة الأكثر تضرراً والأشد احتياجاً لعمليات حفر بواسطة الجرافة اليتيمة نظراً لاتساع الدمار فيها.
تقف آية بالقرب من ركام منزلها، تراقب حركة الحفار الذي ينبش حجارة أنقاض بيتها، وتتفحص كل حجر يخرج من مكانه علها تعثر على جثث أفراد عائلتها المفقودين منذ عامين، تبدو السيدة متوترة تتنقل من زاوية لأخرى وتضع رأسها بين مطارق عناصر الدفاع المدني وكلها أمل في أن تجد أثراً من عظام أحد أبنائها.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، قصف الجيش الإسرائيلي منزل آية نصر، وأثناء الإغارة عليه كان يضم أكثر من 100 فرد، بينهم زوجها وأبناؤها الستة، أما البقية نازحون استغاثوا بها لتوفير مأوى لهم، وبالفعل لم تخذلهم وفتحت أبواب بيتها على مصراعيها لهم.
وقف عمليات الانتشال
لكن بعد ساعات من لجوء النازحين في بيت آية، أغارات الطائرات الإسرائيلية على المنزل وقصفته بالكامل، تحول المبنى السكني المكون من أربع طبقات إلى جبل من الحجارة، وقتل كل من كان يتحامى في جدرانه.
في ذلك الوقت استطاعت آية برفقة الجيران انتشال 50 فرداً، وعجزت عن استخراج البقية من أسفل الركام، حينها اتصلت على الدفاع المدني لمساعدتها في الأمر، لكن فريق الإنقاذ والطوارئ أبلغها أنه أوقف عمليات البحث والانتشال، ويكتفي فقط بتسجيل الضحايا تحت الأنقاض رسمياً.
وبمجرد ما استأنف الدفاع المدني عملية انتشال المفقودين قدمت آية طلباً لاستخراج الضحايا من أسفل منزلها، لكنها صعقت عندما وصل حفار واحد فقط وثلاثة أفراد يحملون مطارق ومعاول يدوية وأخذوا يبحثون عن 50 جثة مختفية أسفل الحجارة المتراكمة فوق بعضها.
حفار وحيد
بدأ الحفار الوحيد أعمال التجريف، واستغرق وقتاً طويلاً لإزالة طبقة واحدة من بيتها ولم يعثر على أي رفات، حينها ذهبت آية للحديث مع طواقم الدفاع المدني وسألت "لماذا لم يحضر حفار ثان يساعد في أعمال التجريف والبحث عن المفقودين؟".
تسمرت آية في مكانها عندما سمعت إجابة الدفاع المدني "نحن نعمل بواسطة حفار واحد من الأساس ولا يوجد أي جرافة أخرى لهذه المهمة"، حينها حاولت السيدة الملهوفة على مواراة أبنائها وأقاربها الثرى البحث عن مفقوديها بأيديها الضعيفتين لمساعدة الفريق الصغير في أعمال انتشال الجثث من أسفل الأنقاض.
10 آلاف مفقود
بسبب الحرب الطويلة التي تخللها قصف من دون إنذار مسبق، فقد الغزيون نحو 10 آلاف جثة تحت أنقاض المباني التي دمرها الجيش الإسرائيلي، بينهم أطفال ونساء وحوامل وكبار في السن ومرضى، ونتيجة الغارات العنيفة واشتعال القتال وتوغل الدبابات في غزة اضطر الدفاع المدني الذي خسر جميع معداته إلى إيقاف انتشال الجثث.
استمر إيقاف انتشال جثث المفقودين في القطاع نحو عامين متواصلين، ولكن بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل بموجب خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسلام والازدهار في غزة تدخلت مؤسسات دولية من أجل استئناف البحث عن المختفين.
تبنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر خطة لبدء العمل على انتشال المفقودين من أسفل الأنقاض، وتمكنت من توفير حفار واحد فقط لهذه المهمة، اعتبر الغزيون أن تلك الخطوة مهمة، ولكنها غير كافية، بالنظر إلى حجم الدمار الواسع وتعقيدات العمل في بيئات مهددة بالانهيار والانفجار.
تتكرر قصة آية في كل مناطق قطاع غزة، إذ في غزة المدينة، لم تستطع هديل شحيبر سوى دفن بعض أفراد عائلتها بعد أكثر من عام على مقتلهم، في حين بقي آخرون مدفونين بين الأنقاض، تقول "حاولت مراراً استخراج المفقودين، لكن بقاياهم متناثرة بين الطابقين الأرضي والأول، ولا يمكن استخراجهم من دون معدات ثقيلة".
وفي خان يونس يقول معتصم "أصبت بحالة نفسية صعبة للغاية، وأعتقد أن معظم عائلات المفقودين حالتهم قاسية، تخيلوا أن أباً يقف يومياً على ركام منزله لعله يعثر على أثر عظام أو رفات أحد أبنائه، هذا هو واقع غزة اليوم".
61 مليون طن من الركام
على الحفار الوحيد الذي تعمل عليه طواقم الدفاع المدني، الحفر وسط نحو 61 مليون طن من الركام في غزة لانتشال 10 آلاف ضحية مفقودين تحت الأنقاض، وهذه مهمة صعبة وشاقة جداً وقد تستغرق سنوات طويلة من أجل العثور على المفقودين.
في القانون الدولي الإنساني، يعرف المفقود بأنه كل شخص انقطعت أخباره عن عائلته جراء نزاع مسلح أو احتلال، ولا يعرف ذوو الشأن مصيره أو مكان وجوده، وتعتمد اللجنة الدولية للصليب الأحمر التعريف نفسه وتضيف سواء كان "حياً أو ميتاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق اتفاقيات جنيف الأولى والرابعة والبروتوكول الإضافي الأول يعد البحث عن الجثث ما بعد الصراعات المسلحة وجمعها واجباً فورياً، كذلك يعتبر توثيق هوية الموتى حقاً للعائلات عبر توثيق ملامح الجثة، وتسجيل علاماتها المميزة وتسليم المعلومات إلى الجهات الإنسانية المختصة، ويحظر تشويه الجثث أو إخفاءها، وهذا يشمل منع الدفن في مقابر جماعية من دون توثيق أو إخفاء الجثث لأهداف سياسية أو عسكرية.
لمدة 100 ساعة فقط
يقول متحدث الدفاع المدني الرائد محمود بصل "نعمل بحفار واحد فقط، وليس على طول الوقت، بل لمدة 100 ساعة فقط، إذا انتهت المهلة المحددة، سنوقف البحث عن المفقودين، هذه الخطوة المهمة ولكنها غير الكافية جاءت بعد تفاهمات دولية مع إسرائيل تقودها اللجنة الدولية للصليب الأحمر".
ويضيف بصل "التعامل مع هذا الملف بالغ التعقيد وشديد الحساسية، إذ إن كثيراً من المباني التي استهدفت تضم عشرات السكان الذين قضوا من دون أي إنذار، وباتت جثامينهم عالقة تحت الركام، لقد أوقفنا على مدار عامين البحث عنهم لأن إسرائيل كانت تستهدف الحفارات والبواجر بشكل مباشر خلال الحرب".
خمس سنوات من البحث
إذا توافر للدفاع المدني 20 حفاراً وكان مسموحاً لهم العمل على مدار الوقت، فإن الطواقم تحتاج لنحو تسعة أشهر من أجل انتشال 10 آلاف جثة تحت الأنقاض، أما بحفار واحد فإن الأمر قد يستغرق نحو خمس سنوات، وهذا في حال كان مسموحاً لهذه الجرافة العمل على مدار الوقت وليس لمدة زمنية محددة.
بحسب الدفاع المدني، فإن مؤسسات دولية جديدة، من بينها جهات مصرية وقطرية وأخرى أممية، أبدت استعدادها للدخول في هذا المسار والضغط على إسرائيل من أجل مواصلة البحث عن المفقودين لمدة أطول من 100 ساعة وبمشاركة حفارات وبواقر.
الآن يعتمد الدفاع المدني برتوكولاً غريباً، قائماً على تحديد ساعات أو مناطق بعينها للعمل بالحفار الوحيد، وهذا يسبب مشكلات اجتماعية ونفسية عند أهالي المفقودين، إذ تتساءل العائلات عن سبب انتشال ضحايا منطقة من دون أخرى، وهو ما يستدعي توسيع الجهود على نحو متوازن يراعي حساسية هذا الملف الإنساني.
20 ساعة لشمال غزة
الآن سمحت إسرائيل للدفاع المدني بالعمل في جنوب غزة، أما شمال القطاع فإنه مخصص له 20 ساعة فقط، وتقتصر الجهود الحالية على الأبنية الصغيرة، في حين تبقى العمارات المدمرة بالكامل تعتمد على الحفر اليدوي بأدوات بدائية مثل المجارف والمعاول وعربات اليد والمناجل والأيدي العارية، على رغم أن مدينة غزة الأكثر تضرراً والأشد احتياجاً لعمليات حفر بواسطة الجرافة اليتيمة نظراً لاتساع الدمار فيها.
وصفت صحيفة "الغارديان" مهمة الدفاع المدني في انتشال جثث المفقودين تحت الأنقاض بواسطة حفار واحد على أنها الأكثر مشقة في تاريخ الحروب الحديثة، يؤكد بصل ذلك قائلاً "ملف المفقودين وانتشال الجثث في القطاع من أصعب الملفات وأكثرها إيلاماً، بخاصة وأن هناك آلاف العائلات تحاول استخراج جثث أقاربها بأنفسها في ظل غياب الإمكانات".
الجثث تغيرت ملامحها
أثناء الحفر، تواجه طواقم الدفاع المدني أخطاراً فنية وإنسانية كبيرة، يشرح بصل "نعثر على مخلفات متفجرة وخزانات وقود وأنابيب غاز قد تسبب انفجارات مفاجئة، مما يفرض إجراءات سلامة دقيقة ويبطئ من وتيرة التقدم حفاظاً على حياة أفراد الطواقم".
أثناء انتشال جثة من أسفل منزل عائشة تسمرت السيدة عندما رأت الرفات من دون أي ملامح، وتعذر عليها معرفة إن كان الجثمان لابنها أو لشخص آخر، تقول "مرت فترة طويلة على وجوده أسفل الأنقاض وتحت الحجارة، لا أعرف إذا كان ابني، لقد اختفت ملامحه، وبات هيكلاً عظمياً".
يعلق متحدث الدفاع المدني قائلاً "التعرف إلى هويات الضحايا بعد انتشالهم يمثل تحدياً آخر، مما يتطلب آليات دقيقة للتوثيق وإجراءات خاصة للتعرف إلى الضحايا بما يحفظ كرامتهم ويساعد في تسليمهم لعائلاتهم، هناك أعداد كبيرة لن يكون بالإمكان معرفة أصحابها إلا عبر الفحص المخبري DNA، وهذا غير متاح في قطاع غزة".
فكرة التعرف إلى أصحاب الجثث أمر شديد الأهمية، يقول أستاذ علم النفس الاجتماعي درداح الشاعر "هذا الفقد المجهول يعد جرحاً مفتوحاً يولد اضطرابات نفسية جماعية بين سكان القطاع، التعرف إلى الجثامين ليس مسألة كرامة فحسب، بل ضرورة للصحة النفسية لمن تبقوا على قيد الحياة".