Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبدالله ثابت يدخل عالم الـ "فوتبول" بأسراره وطرائفه

الكرة هي الحقيقة التي يطاردها اللاعبون والجمهور ولا يمتلكها أحد

الفوتبول بريشة الرسام عمر جهان (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

قد يكون كتاب الروائي والشاعر السعودي عبدالله ثابت وعنوانه "كتاب الحفلة: كرة القدم إحماء الذاكرة والكلمات" (دار تشكيل - 2025) من أكثر الكتب فرادة في حقل "أدبيات" الـ "فوتبول"، فهو لا يقتصر على ناحية من نواحي "الكرة السحرية" دون سواها، بل يسعى إلى الإحاطة بكل ما تتميز به اللعبة في أبعادها كافة، التاريخية والتقنية والشعبية والثقافية والشعرية، وقد اعتمد كما يعبر على تجربته وذاكرة مشاهداته وقراءاته وتأملاته وتفضيلاته الشخصية.

لا يخلو "كتاب الحفلة" من النزعة الذاتية المتجسدة في ذكريات المؤلف عن كرة القدم، بدءاً من أعوام الطفولة فصعوداً إلى المرحلة التي أصبح فيها خبيراً في اللعبة ومشاهداً شغوفاً لا يفوّت مباراة مهمة، سواء كانت عالمية أو عربية أو سعودية. بل أصبح المشاهد المفتون الذي يحاول التقاط الرموز والمعاني حتى لتبدو المباراة بنظره عرضاً أدائياً حافلاً يباري الجسد فيه قدرات الجسد، ويجري اختبار المشاعر "في ساحة مفتوحة أمام الخلق". وقد تكون الصفحات التي خص بها الكرة السعودية من أجمل الصفحات، فهي تمثل ما يشبه الذاكرة الجماعية التي يملكها هواة الكرة في السعودية، خصوصاً إزاء الاحداث المهمة التي رسختها الفرق واللاعبون في المباريات المحلية والعالمية.

ولئن بدا هذا الكتاب من الكتب الفريدة في حقل الـ "فوتبول" فإن عبدالله ثابت يطرح سؤالاً وجيهاً حول خلو الادب العربي من كتب عن الـ "فوتبول"، ما عدا بضعة أعمال نزيرة هنا وهناك، على رغم هوس العرب بكرة القدم وبينهم الأدباء. ثم يوجه تحية إلى الروائي الإسباني إدواردو غاليانو صاحب الكتاب البديع "كرة القدم بين الشمس والظل"، ويقتطف منه بضع جمل يستشهد بها، لكن كتابه يختلف عن كتاب غاليانو الذي ترجم إلى لغات شتى والذي هو خليط مشاهدات وحكايات وتأملات مستخلصة من قلب الملعب، ومن جحيم اللعبة أو فردوسها، وعبرها يرصد الروائي بعين المحترف والهاوي الشغوف تفاصيل المشهد الاحتفالي والعناصر التي تصنعه.

خفايا اللعبة

يسعى ثابت إلى الكشف عن خفايا المعنى خاصته كما يعبر، فالـ "فوتبول" "معبر إلى النفس البشرية وتعبير عن مغامرته". ويجمع بين الكرة والقصيدة قائلاً: "ليس المهم ما تقوله بل كيف تجعل شيئا آخر يسري بين الكلمات / الأجساد، شيئاً سحرياً يشبه الكهرباء وتوقن أن هذا له صفة الشِعر". ولا أخال أنني قرأت مثل هذا الكلام المجازي في المقارنة بين هذين الفنين حتى لدى الكتاب الذي يهوون الـ "فوتبول" ومنهم بيتر هاندكه وفلاديمير نابوكوف وألبير كامو ورشيد بو جدرة وسواهم.

اللافت في الكتاب أن عبدالله ثابت يعمد إلى التحليل الفكري والنفساني والثقافي لظاهرة الـ "فوتبول" والتأمل فيها، ممهداً لما يضم الكتاب من خطط ووقائع ومعلومات، أو ما يسمى "الجانب العملي". ففي رأيه مثلاً أن ثمة خطأ كبيراً يكمن في اختزال الجماهير لكرة القدم في كونها لعبة رياضية، غير منتبهين إلى ما تملك الكرة من "جمال لا يضاهى"، ومن إطلالة سعيدة "على حلبة كونية محمومة بالسحر". ويصف اللعبة بكونها "الشكل النموذجي الأخير الباقي من مواجهات الجسد"، مضيفاً أن "كرة القدم حنين حيوي لما كنّا عليه، قبل أن يتطور الإنسان ويخترع الزناد وأزرار النيران، الرادار والشاشة". ولا بد من التوقف أمام تحول الـ "فوتبول" من لعبة فردية تقوم على براعة اللاعبين وفرادتهم ومواهبهم الشخصية إلى "منظومة وصناعة معقدة" تقوم وراءها شركات احترافيه عملاقة.

"فلتات" خارج المنطق

يرى ثابت أن في عالم الكرة تحدث "فلتات" تتجاوز في أحيان كل منطق، وهي تشبه "برقاً يضيء السماء مرة واحدة ثم يختفي"، إنها عبقريات المرة الواحدة أو الفرادات التي تحدث مرة واحدة ثم يصعب أن تتكرر. وهذه "الفلتات" تظهر في شكل لقطة أو هدف أو تمريرة أو حركة مراوغة أو حتى مباراة بكل ما فيها. وهنا يذكر عدداً من المباريات الشهيرة في هذا القبيل ومنها حركة "بولاسي المنحنية" أو حركة "ماكجيدي الدوارة" والضربة المقلوبة التقويس "التريفيلا". ولئن تكلم عن الضحك اللا إرادي أو القهقهة المستديرة في المباريات الخارجة عن إرادة اللاعب، فهو يتحدث عن الدموع الحارة و"النحيب الحامض"، والبكاء هو "تقطير للروح البشرية ومزيج من كل ما يجعلنا بشراً". وهنا في مثل هذه اللحظات تسقط دموع كثيرة فتمسح الأكمام الأجفان والأنوف. ويذكر كيف بكى مرة كريستانو رونالدو وميسي وأبكيا الجماهير، لكن كرة القدم تظل في الغالب "أكبر مصنع للأفراح وأضخم معمل لإنتاج السعادة الجماعية".

يتطرق ثابت إلى مفهوم الزمن في ملاعب الكرة، وهو زمن يختلف عن مواصفاته المعروفة، فهو يبدو خلال لحظات من اللعب كأنه تجمّد، ولا سيما عندما يتحول الملعب إلى "عرض كوني تُؤدى على خشبته دراما إنسانية"، ملؤها التناقض والقدر والتعقد والجنون. وفي تلك اللحظات ينقلب القدر رأساً على عقب، فتحدث أمور غريبة وغير متوقعة. والزمن أو الوقت في كرة القدم لا يخضع لتسلسل خطي أو أفقي للدقائق والثواني، فهو "كائن حي يتنفس ويتمدد ويتقلص بحسب هدير الأفئدة في المدرجات". أما الـ 90 دقيقة، وقت المباراة، فليست طويلة ولا قصيرة، مما يعني أنها لا تعرف الملل ولا تخلو من الحماسة الشديدة، ولا سيما حيال الاحداث الكبيرة. ولا ينسى ثابت شخصية اللاعب و"خيالاته"، فهو يحار في الاحتمالات والتقديرات و"عقله مرج للصور"، كأن يرى نفسه مثلاً يسجل الهدف الحاسم أو يُضيع الفرصة الحاسمة أيضاً. وخلال المباراة يصبح اللاعب "جزءاً من آلة كونية معقدة"، يتفاعل أكثر مما يفكر، وبطريقة يصعب عليه تحديدها يصبح "ترساً في ماكنة".

أسطورة الفوتبول

ويسمي ثابت اللاعبين القادرين على تغيير مجرى اللعبة ويحددهم: حارس المرمى، الدفاع، الظهير، الوسط، المهاجم. ويمضي في "أسطرة" الـ "فوتبول" برمته، فإذا الملعب هو "كون صغير" بل "الميدان الباقي الذي تُمثل عليه ملحمة الحياة"، وفيه "تتجرد الروح من كل أقنعتها الحضارية المدعاة". أما اللاعب فهو مقاتل راكض "يحمل على كتفيه آمال قومه"، ولعل كل حركة تند عنه هي أشبه بقرار وجودي.والكرة هنا، المستديرة والبسيطة، تصبح "رمزاً للتحدي الهندسي وفوضى الوجود في آن واحد"، فالكرة هي الحقيقة التي يطاردها اللاعبون والجمهور ولا يمتلكها أحد.

وإذ يواصل مقاربته السوسيو-ثقافية للظاهرة، يعترف أن الكرة "عدسة" يمكن من خلالها فحص نسيج المجتمعات نفسها. فالمباريات والبطولات هي بمثابة منابر تعرض الدول عبرها هوياتها الثقافية وتطلعاتها، وتسعى إلى عقد روابط الوحدة وسط فوضى العالم الحديث. ففي الملاعب كما في الشوراع وعبر الأعلام المرفوعة والزماميروالهتافات، ينسج البشر إنسانيتهم المشتركة ولو في صيغة تنافس وتحالف وتخاصم وانتصارات وخسائر وأفراح وأحزان. ويتحدث ثابت عن جماهير الـ "فوتبول" الذين لا يحصون، الذين يختلفون في أمور عدة مثل الدين والعرق والسياسة والطبقة الاجتماعية واللون، ويجتمعون في مكان واحد ويصبحون خلال المباراة أو الـتسعين  دقيقة، شعباً واحداً بل "كائناً واحداً متعدد الرؤوس". فهذه اللعبة التي لم يستطع الزمان أن يدفعها نحو الشيخوخة وأن ينال من شبابها المتجدد، تظل هي هي بين الأمس واليوم والغد. ولم تستطع الثورات التكنولوجية والمعلوماتية التي اقتحمت الحياة البشرية أن تؤثر فيها، فظلت اللعبة الجميلة نفسها التي تفتن الناس، وظل العنصر البشري محورها وصميمها.

الشاهد الصامت

يقول ثابت مدركاً قدرية اللعبة إن "الملعب شاهد صامت على عظمة الإنسان وهشاشته، على قدرته على الطيران وحتم سقوطه، على حلمه بالخلود ووعيه باستحالته وبفنائه". ولا تفوته ذكرياته الشخصية في عالم الـ "فوتبول"، وهي ترتبط بذاكرته الأولى، ذاكرة الطفولة عندما كان الصبية يحولون قطعة قماش إلى كرة، وتحديداً من جوارب العائلة، ثم يلعبون في أي قطعة أرض فارغة. وفي بعض القرى كان جميع الصبية يلعبون ولو حفاة، ويتذكر ما كان يسمى في الحارات قديماً "هدف المغرب"، وهو الهدف الذي يسجل مع الآذان أو قبله بقليل، ومن يسجله يذهب بالنصر كله، ولو كان مغلوباً سابقاً.

ولا بد من أن يستعيد ثابت نشأة الكرة في السعودية بين عامي 1927 و1929 في مكة المكرمة، وقد جلبها معهم حجاج من ماليزيا وإندونيسيا كانوا يلعبون في أوقات الراحة، وقد راقبهم السعوديون مستغربين ومتهامسين في ما بينهم، متسائلين عن هذه الكرة الصغيرة. ثم عبرت أعوام ما لبثت المنتخبات السعودية أن أصبحت من أبرز المنتخبات العربية والعالمية، وبات جمهور الكرة غفيراً، وراحت الفرق السعودية تشارك في المونديالات وتحقق انتصارات وتطلق أهدافاً تاريخية. ويتذكر السعوديون دوماً منتخب القصة الكبيرة الذي أخرجهم من العزلة إلى العالم، كما يقول المؤلف، متحدثاً عن رحلتهم الخرافية من عام 1980 إلى عام 1994. ويذكر ثابت فوز المنتخب السعودي على الأرجنتين في "مونديال قطر 2022" وكان "فوزاً مدوياً للسعودية بهدفين في مقابل واحد"، بفضل اللاعبين صالح الشهري وسالم الدوسري. ويسترجع فوز "الهلال" السعودي على فريق "مانشستر سيتي"، "الآلة البريطانية التي لا تقهر"، في مباراة كأس العالم للأندية في أورلاندو صيف عام 2025، وكان فوزاً رهيباً بالأربعة. وهلم جرا.

فرسان الملعب

يفرد عبدالله ثابت صفحات للاعبين السعوديين البارزين، فرسان الملاعب، ذاكراً خصائص اللعب لديهم وفنونهم الأدائية ووعيهم التقني وما سجلوا وحققوا من أهداف، ومنهم شايع موسى النفيسة ويوسف الثنيان وصالح النعيمة وخليل الزياني وسالم الدوسري، والهائل نواف وسواهم. ومثلما توقف عند أسماء اللاعبين السعوديين المعروفين، يتوقف المؤلف عند أسماء أبطال العالم في اللعبة، فيذكرهم ويعلق على البطولات التي حققوها في المباريات، وعلى "الخوارق" الكروية التي قاموا بها، ومنها مثلا ضربة مارادونا "يد الله"، وعلى المميزات التي يتمتع بها كل منهم في الأداء والذكاء والرؤية والقوة.، ومنهم على سبيل المثل روالدو وميسي وباجبو وزيدان وروماريو ودنيس بيركامب وكاكا رودريغو وفابيان دو ماريا ومالديني وديفيد بيكهام وكريستيانو ومحمد صلاح وروين وسواهم. ولا ينسى الحَكَم والصافرة والبطاقات، ويصفه بالرجل الواحد الذي يحمل على كاهله "ثقل العدالة"، و"الكائن الغريب الذي يجسد في شخصه كل تناقضات الطبيعة الإنسانية"، القوة والضعف، الحكمة والخطأ، العدالة والظلم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعرج على "المعلق" الإذاعي أوالتلفزيوني الذي يجلس أمام ميكروفون "في كابينة صغيرة"، لا يلمس الكرة، لا يركض ولايسجل أي هدف، "لكنه ربما الأكثر تأثيراً من كل الذين في الملعب". ويرى أن ثمة أصوات معلقين أصبحت جزءاً من تاريخ كرة القدم.

وفي فصل من الكتاب سمّاه "شعر بذكرى موصدة ومسرح مفتوح" يكتب عبدالله ثابت مشاهد شعرية مسرحية، مستوحياً تفاصيل اللعبة ومستخدماً فنية القصيدة وصاهراً اياها في صميم اللغة والتخييل والواقعية البصرية. وقد تستحق هذه القصيدة قراءة خاصة نظراً إلى فرادتها، وهي من نوادر الشعر الـ "فوتبولي" عربياً، بينما كتب شعراء في الغرب قصائد عدة بل ودواوين.

أما الصفحات الأخيرة من الكتاب فشاء أن يشرك القارئ عبرها في الكتاب، فجعلها أشبه بدليل وتركها بيضاء، فاسحاً المجال أمام القارئ كي يدوّن أفكاره ومشاهداته، ويكتب عن المباريات التي أحبها. وحملت الصفحات البيضاء عناوين مثل: "هنا يمكنك الكتابة عن أعظم مباراة في ذاكرتك"، "هنا يمكنك الكتابة عن أعظم لاعب في نظرك"، "هنا يمكنك الكتابة عن أجمل هدف في ذاكرتك". وتحمل إحدى الصفحات رسمة تمثل ملعب الـ "فوتبول" مع جملة: "على هذه الرسمة يمكنك تدوين تشيلتك المفضلة".

لعل كتاب "الحفلة" الذي فاجأ الشاعر السعودي عبدالله ثابت به قرّاءه، من الكتب الفريدة والنادرة عربياً، فهو جمع في صفحاته التي تبلغ الـ 200 كل ما تتضمنه لعبة الـ "فوتبول" في كل تفاصيلها، عطفاً على التحليل والتأمل الفلسفي والنفساني والسوسيو-ثقافي. وهذا الكتاب الصغير هو فعلاً موسوعة صغيرة تختصر عالم الـ "فوتبول" في نواحيه كافة. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة