ملخص
تكشف الوقائع عن أن انتشار "البنقو" ليس انحرافاً عابراً، بل نتاج لتراكم طويل من الفوضى، والحدود المنفلتة، وارتباط بعض مراكز السلطة القديمة باقتصاد الظل الذي انفجر اليوم على نحو غير مسبوق مع اشتداد الحرب في دارفور.
في قلب إقليم دارفور، الذي ينوء منذ أبريل (نيسان) 2023 بثقل حرب ممتدة من الخرطوم وشملت أقاليم عدة، تتسرب ظاهرة أكثر خطورة إلى المشهد المتوتر، فمع اشتداد النزاع واتساع رقعته، تمددت زراعة القنب الهندي، المعروف محلياً بـ"البنقو"، حتى أصبحت أحد أكثر الأنشطة نمواً في الإقليم، متحولة من ممارسة هامشية إلى اقتصاد مواز يفرض منطقه على الأرض.
هذا التوسع لم يأت من فراغ، بل من ممارسة شائعة كانت مقتصرة على المزارعين والتجار، ولكن أخيراً، يتهم أفراد من مكافحة المخدرات وعسكريين آخرين، وجدوا في زراعة "البنقو" وتجارته بديلاً مربحاً وسريعاً، بعد توقف صرف أجورهم في ظل اقتصاد حربي يأكل ما حوله.
يحظى المروجون والمتعاطون بنوع من القوة اكتسبوها من عدم الملاحقة، والفوضى الأمنية في المنطقة، بل أيضاً من حيث التحول اللافت لبعض تجار المخدرات إلى منضوين في القوات المسيطرة، يمارسون تجارتهم تحت حماية السلاح، فازدهرت تجارة "البنقو" على نحو غير مسبوق.
ورصدت وسائل تواصل محلية أن نيالا والضعين ومناطق أخرى باتت مسارح مفتوحة لعمليات توزيع وتعاط لم تعد تخفي نفسها، بل تمارس في قلب الأسواق والأحياء المكتظة، بما يكشف عن انهيار منظومة الرقابة وتحول المخدرات إلى جزء من دورة الحياة اليومية في زمن الحرب.
ولم يعد الأمر مقتصراً على الترويج داخل المدن، فالمساحات المزروعة في الأرياف اتسعت على نحو مقلق، حتى باتت الكميات المزروعة، وفق مصادر محلية، تصل أحياناً إلى 50 طناً، هذا الحجم الهائل يشي بأن الظاهرة تجاوزت مجرد نشاط فردي أو جماعات صغيرة، لتدخل في إطار اقتصاد حرب تتهم أطراف عدة باعتماده في تمويل عملياتها، وهكذا، أصبح "البنقو" في دارفور أكثر من مخدر، بل مرآة لحرب أعادت رسم حدود النفوذ، ودفعت بالإقليم إلى مزيج خطر من الفوضى الاقتصادية والانهيار الاجتماعي، حيث تنمو النباتات الممنوعة على هامش صراع لا يبدو أنه يوشك على الانتهاء.
ملاذ آمن
في أقصى الجنوب الغربي لولاية جنوب دارفور، حيث تتشابك الغابات الكثيفة مع تضاريس الحدود الوعرة بين السودان وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، تقع محلية الردوم، وهي منطقة نائية تعد في آن واحد محمية طبيعية ومركزاً خفياً لأكبر نشاط لزراعة "البنقو" في السودان. وعلى بعد نحو 460 كيلومتراً من مدينة نيالا، تعيش مجتمعات محلية متعددة الإثنيات، من الفور والدينكا والبرقد والزغاوة ومجموعات عربية رعوية، في نمط حياة يعتمد على الزراعة التقليدية وتربية المواشي، قبل أن تتحول خريطة المنطقة تدريجاً إلى اقتصاد ظل واسع تديره شبكات متداخلة من كبار التجار والمسلحين.
وتشتهر الردوم بزراعة "البنقو" لثلاثة عوامل رئيسة، صعوبة التضاريس التي تجعلها ملاذاً آمناً بعيداً من الرقابة، وانفتاح الحدود الذي يسمح بتدفق الممولين والمهربين عبر دول الجوار، وهشاشة الدولة التي جعلت من حملات المكافحة السنوية مجرد استثناء عابر، فقد كانت وزارة الداخلية السودانية ترسل سنوياً قوات مشتركة بالتنسيق مع الفرقة 16 مشاة لإحراق المزارع خلال موسم الحصاد، لكن هذه الحملات لم توقف تمدد الزراعة التي أصبحت تنتشر في عشرات آلاف الكيلومترات، وتشير تقارير عام 2021 إلى أن مساحات المخدرات في جنوب دارفور تغطي أكثر من 34 ألف كيلومتر مربع، بينما تنتج منطقة الردوم وحدها ما بين 80 و90 في المئة من "البنقو" المستخدم محلياً.
ويبدأ موسم الزراعة عادة في مايو (أيار) أو يونيو (حزيران)، ويحصد "البنقو" في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني). وترسل شبكات التجار مناديب إلى الحقول مع مؤن وتمويل وأجهزة اتصال، نظراً إلى انقطاع الطرق خلال فصل الخريف، وعند اقتراب الحصاد تجهز قوافل الحمير، وسيلة النقل الأكثر قدرة على تفادي الرقابة، إذ تتبع طرقاً وعرة، مما رفع أسعار الحمير من ستة إلى 16 دولاراً في 2019، ووصلت أسعارها اليوم، وفق تقديرات محلية، إلى ما بين 108 و150 دولاراً أميركياً، بسبب ازدياد الطلب وارتفاع معدلات السرقة المنظمة.
وبعد عبور الحمير مناطق الردوم إلى حدود شرق دارفور، تدفن الشحنات انتظاراً لمرحلة النقل عبر سيارات الدفع الرباعي إلى أسواق الاستهلاك في الخرطوم وكسلا وبورتسودان، فيما تصدر كميات محدودة إلى جنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى، ويدفع التجار مبالغ تتراوح بين 116 دولاراً و167 دولاراً أميركياً للمسلحين لحماية الشحنات في مسارات محفوفة بالمواجهات.
اقتصاد خفي
قال الصحافي أحمد طه كاشا "لظاهرة انتشار المخدرات، خصوصاً البنقو، جذور عميقة في التربة السودانية المضطربة حتى من قبل اندلاع الصراع، فالمسار لم يبدأ مع الحرب الحالية، بل تشكل عبر سنوات من الانفلات الأمني وتداخل المصالح وتمدد شبكات النفوذ الاقتصادي التابعة للنظام السابق".
ويستعيد كاشا مرحلة ما قبيل انتفاضة 2018، قائلاً "ترددت على نطاق واسع أنباء عن دخول حاويات تحمل أنواعاً مختلفة من المخدرات عبر البحر الأحمر، وسط اتهامات مباشرة لنافذين في أجهزة الأمن التابعة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك بأنها سهلت مرورها لاستهداف الشباب المنخرطين في التظاهرات، أو لخلق حالة إنهاك مجتمعي تربك نشاط المقاومة، وقد رصد، آنذاك، انتشار تلك المواد في محيط ميدان اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة، وأثارت منطقة خلفية في الميدان سميت (كولومبيا)، جدلاً واسعاً، بما عزز الشكوك حول وجود إرادة سياسية خلف هذا التدفق غير المسبوق".
وأفاد المتحدث بأنه "في تلك الفترة، لم تكن تجارة المخدرات نشاطاً هامشياً، بل تحولت إلى اقتصاد خفي تقوده شبكات معقدة من التجار السودانيين والمتعاونين معهم من جنسيات أفريقية وعربية، مستفيدين من التسهيلات التي وفرها النظام السابق، وخصوصاً في المناطق الحدودية. فولايات غرب السودان ظلت منفذاً واسعاً لعشرات المهربين القادمين من نيجيريا عبر الكاميرون وتشاد وصولاً إلى دارفور، ومنها تنقل الشحنات إلى الخرطوم عبر مسارات محمية، تديرها مجموعات توزيع محترفة، وقد كشف تحقيق صحافي نشر عام 2018 عن ضلوع مسؤول كبير في حزب المؤتمر الوطني وضابط في قوات "الدعم السريع" في تمويل وتسهيل عمليات الاتجار، قبل أن يعتقلا بناء على إفادات موقوفين.
وعلى رغم أن شرطة مكافحة المخدرات نفذت حملات ضخمة في مناطق سنقو وودفاق والردوم في دارفور، مستخدمة الطائرات والأسلحة الثقيلة لتدمير مزارع "البنقو"، فإن شبكة التجار ظلت قادرة على إعادة بناء نشاطها، معتمدة على جغرافيا وعرة تصعب على الدولة الوصول إليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشارت تقارير إلى أن كبار الممولين وفروا الغطاء المالي والأمني لزراعة مساحات واسعة، تنقل منها المخدرات بواسطة الحمير وسط حماية مسلحة، قبل الدفع بها إلى الخرطوم عبر سيارات الدفع الرباعي بموجب اتفاقات مع مجموعات تتبع لقوات حكومية.
ويبرز مثلث الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان في جنوب دارفور بوصفه أحد أبرز البؤر الإنتاجية، إذ تزرع كميات هائلة من "البنقو"، من بينها ما ضبطته الشرطة في عام 2019 حين عثرت على أكثر من 15 ألف رأس قندول.
سلعة شعبية
تكشف روايات لضباط شرطة وقيادات المجتمع والمبادرات المدنية والمواطنين، مجمعة على أن زراعة وتجارة "البنقو" في دارفور لم تعد مجرد ظاهرة جانبية، بل أصبحت عموداً اقتصادياً لمرحلة الحرب الحالية في السودان. وبحسب صحيفة "دارفور 24"، فقد أكد ضابط سابق في شرطة مكافحة المخدرات بولاية جنوب دارفور أن "المساحات المزروعة من حشيش البنقو في منطقة الردوم قفزت إلى الضعف خلال العامين الماضيين، بعد انسحاب القوات الشرطية التي كانت تشكل خط الدفاع الأول ضد تمدد الحقول، وأن ما كان يقدر بنحو 81 كيلومتر في 2022 أصبح اليوم يتجاوز ذلك بأضعاف، في منطقة حدودية شديدة الوعورة تربط السودان بجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، مما يجعلها بيئة مثالية لصعود اقتصاد الحرب غير المشروع".
وذكر أنور إسماعيل وهو أحد قيادات المجتمع المحلي في محلية الردوم أن مسار التجارة تغير مع سيطرة قوات "الدعم السريع" على طرق الحركة، فبدلاً من الدواب والمواتر والدراجات الهوائية، باتت عربات الدفع الرباعي تسير شحنات "البنقو" بسرعة وأمان، مما ضاعف حجم التداول ومدد الحقول حتى تخوم القرى المأهولة.
ويضيف إسماعيل أن "الحرب دفعت بمعدنين عن الذهب في مناجم سنقو المجاورة إلى ترك التنقيب والتحول إلى زراعة البنقو خلال موسم الخريف، تحت إغراء الأرباح السريعة وتوقف النشاط المعدني بسبب الأمطار".
وفي ولاية شرق دارفور، التي كانت مجرد نقطة عبور، تحولت مدينة الضعين، كما يصف رئيس المبادرة المجتمعية لمحاربة الظواهر السالبة عثمان مسبل، إلى مركز تجاري ضخم للمخدرات، تباع فيه حبوب الترامادول و"البنقو" علناً في أسواق الدليبة والشاحنات، ويحذر مسبل من أن "تكرار المشهد في مناطق سيطرة الجيش و’الدعم السريع‘ معاً يكشف عن انهياراً كاملاً في قدرات الدولة، إذ لا أمن ولا إدارة ولا قدرة سياسية على الضبط".
وتحدث مواطنون من الضعين، عن أن تجارة "البنقو" أصبحت تمارس في العلن، في أسواق "المواشي" وموقف مدينة الجنينة و"قادرة" وسوق "الجبل"، ومع أن "البنقو" هو الأرخص في المنطقة بسبب وفرة الانتاج وضعف الرقابة وتوسع دائرة الأمان للمروجين، مما يجعله سلعة شعبية في السوق المحلية، لكن يشار إلى ارتفاع ملاحظ في الأسعار، يعود لازدياد الطلب بين الشباب والمقاتلين، إذ ارتفع سعر قندول "البنقو" من النوع الممتاز إلى 33 دولاراً أميركياً، مقارنة بـ11 دولاراً قبل الحرب، بينما تباع الدرجات الأدنى بنحو 20 دولاراً أميركياً.
تراكم الفوضى
مع اتساع رقعة الحرب وتفكك منظومات الضبط الرسمية، تعاظمت القيمة الاقتصادية لزراعة "البنقو" في ولاية جنوب دارفور، فدخلت، بحسب تقديرات ميدانية غير رسمية، في دائرة التمويل المحتملة لأطراف متورطة في النزاع، سواء عبر فرض الإتاوات على المزارعين، أم عبر شبكات نقل وتوزيع تمتد من داخل السودان إلى خارجه، وباتت خطوط البيع تتراوح بين مسارات داخلية تتخفى وسط النزوح والفوضى، ومسارات خارجية تستفيد من ثغرات الحدود المفتوحة مع تشاد وأفريقيا الوسطى، إذ تتداخل تجارة السلاح مع التهريب وتبادل المصالح.
تلك الوقائع مجتمعة تكشف عن أن انتشار "البنقو" ليس انحرافاً عابراً، بل نتاج لتراكم طويل من الفوضى والحدود المنفلتة، وارتباط بعض مراكز السلطة القديمة باقتصاد الظل الذي انفجر اليوم على نحو غير مسبوق مع اشتداد الحرب في دارفور.
ويلفت هذا المشهد المعقد إلى احتمالين، ففي حال استعادة السلام، ستقف الدولة أمام مهمة شاقة، هي تفكيك شبكات التهريب، واستعادة السيطرة على مناطق الإنتاج، وإعادة دمج هذه الجغرافيا في الدورة الاقتصادية الوطنية، كما أن فرص إعادة توجيه اليد العاملة والبنية الزراعية نحو محاصيل نقدية مشروعة، كالسمسم والذرة والدخن والفول والكركديه، قد تمنح الإقليم متنفساً اقتصادياً، وتتيح بناء نموذج تنموي يحد من عودة اقتصاد الحرب.
أما في حال استمرت الحرب، فيرجح أن تتسع ظاهرة "اقتصاد الظل" وتتحول زراعة "البنقو" من نشاط هامشي إلى ركيزة مالية تغذي الصراع، على حساب الزراعة التقليدية ومجتمعات الريف التي تتآكل مواردها يوماً بعد آخر، وسيعني ذلك تراجعاً أعمق في سلاسل الإمداد الزراعي، وانهياراً في قدرات الإنتاج، وازدياداً في الاعتماد على أنشطة غير شرعية تستنزف البيئة وتزيد هشاشة المجتمعات، فالباب لا يزال مفتوحاً أمام اقتصاد مخدر"البنقو" ليصبح النشاط الأكثر ربحية وتأثيراً في المنطقة، وعماداً أساسياً لاقتصاد الحرب الذي يستنزف السودان اليوم.