ملخص
تظهر الدراسات أن الإشارات المرئية يمكن أن تلعب دوراً في تقديم المساعدة والإغاثة للمصابين بالخرف
يحوي فيلم "الأب" The Father - الذي أنتج عام 2020 وقام بدور البطولة فيه أنتوني هوبكنز وأوليفيا كولمان - مشهداً مألوفاً لأولئك الذين يعتنون بأفراد مصابين بالخرف. ففي الدور الذي يلعبه هوبكنز يجد فيه كأب صعوبة في مواكبة حركات ابنته آن (التي تلعب دورها كولمان). وفي إحدى اللحظات، تكون هي في صدد إحضار العشاء إلى المنزل. وفي لحظة أخرى، تتحدث عن نيتها الانتقال إلى باريس مع صديقها الحميم الذي لا يستسيغه والدها. ويتغير الإطار فجأة بالنسبة إليه، فتارة تكون ابنته في شقته، وطوراً يصبح هو في شقتها. إضافة إلى ذلك، يشاهد أحياناً معالم وجهها تتغير - لتبدو كشخص اعتاد أن يعرفه، ثم تصبح غريبة عنه تماماً. في مثل تلك اللحظات، يتخبط في حال من الصراع والارتباك، تجعله يتساءل حول المكان والزمان اللذين يوجد حقيقة فيهما.
الخرف مرض قاس إذ يؤثر في محيط الفرد المصاب به، ويتسلل إلى حياة أولئك المحيطين به. فالمرضى يجدون أنفسهم ضائعين في متاهة من الذكريات، فلا يعودون قادرين على مواكبة الحاضر، مما يتسبب في انسحابهم وانطوائهم على نفسهم. ويصبح تحديد المسار - بمعنى القدرة على إيجاد المرء طريقه في العالم - ضعيفاً للغاية، مما يؤدي إلى شعورهم بقلق وارتباك وضيق. وجميعها عوامل ربما يكون من الصعب جداً على الأسر ومقدمي الرعاية التعامل معها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يوجد في الحقيقة علاج للخرف، فمعظم الأبحاث الطبية تركز على التوصل إلى علاجات للأمراض التي تسببه، كداء "ألزهايمر" وخرف جسيمات "لوي" (النوع الثاني الأكثر شيوعاً بعد خرف مرض ألزهايمر ويتمثل في تراكم كتل مجهرية من البروتينات في الدماغ)، مما يشكل أمراً بالغ الأهمية، لكن هناك أيضاً حاجة لأدوات من شأنها أن تساعد المصابين وكذلك أسرهم ومقدمي الرعاية لهم على التعامل مع أعراضه. وتظهر الدراسات أن الإشارات المرئية يمكن أن تلعب دوراً في تقديم المساعدة والإغاثة الملحتين للغاية، مما يفتح الباب أمام الشركات الإبداعية الصغيرة لسد هذه الفجوة وتقديم حلول مبتكرة في هذا المجال.
سارة هاريسون هي مبتكرة قرص "ريكونيي" Recognii [كلمة لاتينية تعني التعرف علي]، وهو أول قرص فيديو "دي في دي" ترفيهي في العالم، تم تخصيصه للأشخاص الذين يعانون الخرف في مراحله المتوسطة إلى المتأخرة. وجاءت فكرة "ريكونيي" بعدما بدأت هاريسون رعاية والدها عقب تشخيص إصابته بمرض ألزهايمر عام 2015. واختارت هي ووالدتها، وهي ممرضة سابقة، الاعتناء به في منزل الأسرة في بلدة هاروغيت في إنجلترا، حيث تقيم سارة أيضاً.
وتستذكر السيدة هاريسون تلك الفترة بالقول: "مع تقدم حال (والدي)، أصبح منعزلاً للغاية. فلم يكن في إمكانه مشاهدة التلفزيون أو القيام بأنشطته الخاصة، ولم يكن قادراً على إجراء محادثة حقيقية، أو قراءة الكتب بعد ذلك، لأنه لم يتمكن من متابعة الحبكة وتذكرها". لكن وسط هذا الجو الكئيب الذي يخلفه المرض، كانت هناك فسحة نادرة من الانفراج أتاحت لسارة رؤية والدها كما عرفته دائماً... وغالباً ما كانت تأتي تلك اللحظات عندما كان يشاهد تلفزيون الأطفال، وتجذب انتباهه وجوه الصغار المبتسمين والسعداء، كما الرسومات الملونة الزاهية.
وتضيف سارة: "كانت تلك تجربة رائعة، لكنها كانت في الوقت نفسه طفولية للغاية ولم تعكس طبيعة حياته. تساءلتُ عما إذا كان هناك شيء أكثر بساطة في المشاهدة يتماشى مع تجارب البالغين، لكن على الأرجح لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل على الإطلاق". غير أن الفكرة بدأت تتشكل لديها. فأدركت أنها إذا تمكنت من صنع مقاطع فيديو قصيرة جذابة تقوم على "محتوى لطيف ومبهج" من دون سرد معقد للأحداث، فإن ذلك سيخفف من وطأة الضباب الذي يلف ذهن والدها. وتقول: "استجاب جيداً للألوان والتباينات الزاهية، والصور ثنائية الأبعاد، بما يتوافق مع فهمنا لطريقة تأثير الخرف في المعالجة الإدراكية والبصرية".
تحدث التغيرات في الإدراك البصري لدى المصابين باضطراب الخرف، عندما ينقطع التواصل الحسي بين الدماغ والأعضاء (كالعينين والأذنين)، أو عندما تتباطأ بسببه. وبحسب "جمعية ألزهايمر" Alzheimer’s Society في المملكة المتحدة (مؤسسة خيرية تعنى برعاية مرضى الخرف وبمقدمي الرعاية لهم وتجري أبحاثاً في هذا المجال)، يمكن أن يتسبب المرض أيضاً في تلف العينين أو أجزاء من الدماغ، مما قد يؤدي بعد ذلك إلى سوء الفهم وإلى خلل في التعرف على الهوية والهلوسة والأوهام وتشوه الإدراك للزمن. فعلى غرار التجربة التي قام بأدائها أنتوني هوبكنز في فيلم "الأب"، يفقد الوقت مساره الطبيعي ويصبح غير متبلور، بحيث يقفز ذهاباً وإياباً، بدلاً من اتباع تدفق متسلسل. وعلى هذا النحو، يمكن أن تصبح الذكريات القديمة ملاذاً أكثر راحةً وأماناً لمرضى الخرف يمكنهم العودة له.
وفي هذا الإطار، تعمل شركة "فاميليو" Famileo وهي مؤسسة تصدر "صحفاً عائلية" للكبار في السن - وكثير منهم يعانون الخرف - مع أسر المرضى على ابتكار صحف مطبوعة شخصية، تستخدم "علاج الذكريات" للمساعدة في تهدئة المرضى ومنحهم شعوراً بالراحة. ويشير تانغي دي جيليس وهو أحد مؤسسي الشركة، إلى أنه "عادة ما يكون الأفراد المصابون بالخرف أكثر ميلاً إلى استعادة محطات وذكريات طويلة الأمد. ويتضمن برنامج ’فاميليو‘ صوراً قديمة لهم ولأفراد أسرتهم، مما يحفز ذاكرتهم ويساعدهم على تذكر الأشخاص كما كانوا عليه".
وتكون كل صورة مدرجة في الصحف مرفقة بنص يساعد على توضيح سياقها، بحيث يمكن للقارئ التعرف بسهولة على الشخص الذي ينظر إليه، إضافة إلى مكانته في العائلة، في ما يتعلق بالأفراد الآخرين الموجودين في الصورة. ويضيف دي جيليس: "غالباً ما يخبرنا المسؤولون عن الأنشطة في دور الرعاية، بأن رحلة الشخص المصاب بالخرف لا تكون متتابعة، وبأن الأعراض تظهر وتختفي. من هنا فإن ما تتمتع به هذه الصحف الشخصية من استقرار وموثوقية يحظى بتقدير أكبر من المرضى حتى في ’الأيام الجيدة‘ التي يمرون بها. وربما يكون من الصعب للغاية على أفراد الأسرة التفكير في أمور يمكن التحدث عنها مع أحد الأقارب الأكبر سناً، لكن يمكن أن تشكل الصحيفة انطلاقة جيدة للمحادثة، كما توفر دليلاً بصرياً للجانبين".
وبالنسبة إلى عدد من الكبار في السن ممن يواجهون صعوبة في التعامل مع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة، يعتبر وجود صحيفة مطبوعة أمراً مفيداً. ويلفت دي جيليس إلى أن جدته هي التي ألهمته فكرة صحف "فاميليو". ويتذكر ذلك بالقول: "اشتريتُ جهاز ’آيباد‘ لجدتي هدية في عيد الميلاد، كي تتمكن من أن تبقى على تواصل مع أفراد العائلة من خلال مجموعة دردشة في ما بيننا على تطبيق ’واتساب‘. لكن في أحد الأيام ذهبتُ لزيارتها، فلاحظتُ أن الغبار تراكم على الجهاز. وقالت إنه لم يكن من السهل عليها استخدامه، وقد فاتها تلقي الرسائل والبطاقات البريدية تماماً كما حصل معها في الماضي".
الدكتورة إميليا موليمباكيس، الرئيسة التنفيذية والمؤسسة المشاركة لشركة "ثيميا" Thymia (التي تعنى بجعل الصحة العقلية قابلة للقياس والمراقبة بشكل موضوعي كالصحة البدنية)، روت قصة بطء التقدم في تطوير أدوات لمعالجة الخرف. وعزت السبب إلى فهم غير كاف للمرض. فلأعوام طويلة، ظل المصابون بهذا الاضطراب قابعين في دور الرعاية، وأذهانهم تتدهور، بينما كان أفراد أسرهم يشعرون بالعجز تجاه الأمر، وبعدم القدرة على القيام بأي شيء. وللأسف، كان تحديد علامات مرض ألزهايمر يعتمد حتى وقت قريب على فحوصات طبية مكلفة، ويتطلب تدخلاً جراحياً، وغالباً ما لا تظهر النتائج واضحة قبل أن يتقدم المرض بشكل كبير".
لكن التطورات الحديثة في العلاجات الطبية وفي مجال "الذكاء الاصطناعي" غيرت مجرى الأحداث. فالموقع الإلكتروني للدكتورة موليمباكيس، يشتمل على بناء أدوات مدعومة بـ"ذكاء اصطناعي" لتحسين سرعة تشخيص الخرف ودقته وموضوعيته. وتستخدم مؤسسة "ثيميا" أيضاً أنشطة على غرار ألعاب الفيديو، لاختبار أعراض الاضطرابات المعرفية، كما تقول، مثل الاكتئاب الشديد والقلق والخرف. وتوضح أن "كل لعبة تتمحور حول اختبار أو أكثر من الاختبارات المعرفية، وتظهر نتائجه علامات منبهة للأعراض، كمشكلات التعب والإرهاق والضعف في الذاكرة والصعوبات في التركيز وأكثر من ذلك". وتقوم عبر ذلك باستخدام برنامج يحلل "المؤشرات الحيوية" للمرض، فيما يكمل اللاعبون الأنشطة عبر ثلاثة تدفقات لبيانات رئيسة هي: الصوت والفيديو والمقاييس السلوكية. وتقول الدكتورة موليمباكيس إنه من خلال تحليل أنماط الكلام والتعبيرات الدقيقة للوجه، نجحت النماذج التي يُجرى العمل على تطويرها في "ثيميا" في التعرف إلى أعراض اضطرابات الاكتئاب الرئيسة بمعدل دقة يتجاوز 90 في المئة".
وفيما أدى التقدم في الرعاية الصحية إلى زيادة متوسط العمر المتوقع للأفراد، إلا أنه أسهم في أن يصبح الخرف أكثر انتشاراً من أي وقت مضى. ويوجد الآن أكثر من 55 مليون شخص مصاب بالخرف في مختلف أنحاء العالم، ومن المتوقع بحسب "المنظمة الدولية لمرض ألزهايمر" Alzheimer’s Disease International (التي تعنى بمساعدة المصابين بالداء)، أن يرتفع هذا الرقم إلى 78 مليوناً عام 2030، وإلى 139 مليوناً عام 2050. وفي حين يركز العلماء على التشخيص والعلاج المبكرين، تتزايد الحاجة إلى وضع آليات من أجل التأقلم في العيش مع المرض.
وتتذكر سارة هاريسون في هذا السياق كيف استجاب والدها عندما أطلعته على المقاطع التي صنعتها له. لكنه توفي قبل إصدار النسخة النهائية من أقراص الفيديو المدمجة لشركة "ريكونيي". وتقول: "كان الشعور وكأن الغيوم انقشعت لبرهة وجيزة من الزمن فقط. واستطعت لوهلة أن أرى والدي مجدداً كما كان عليه في السابق. تلك اللحظات التي تشكل نافذة لنا لنلقي نظرة من خلالها على ما اعتدنا أن يكون عليه مرضانا، تُعد مهمة وثمينة للغاية. فمع تقدم المرض، يشعر الشخص بفقدانهم تدريجاً. لذلك، إن ابتكار شيء يساعد في استعادتهم - حتى لو لفترة موقتة - هو بمثابة هبة قيمة".
© The Independent