ملخص
معرض "السوريالية بصيغة المؤنث" الذي ينظمه حالياً "متحف مونمارتر" في باريس يكشف مساهمة فنانات الحركة ودورهن في تخصيب عالم اللاوعي والأحلام وتوسيع آفاقه
لطالما نُعِت السورياليون الأوائل بالذكوريين. نعت جائر ليس فقط لأنهم حملوا مشروعاً ثورياً احتلت المرأة فيه موقعاً مركزياً، كموضوع ولع وإلهام، بل أيضاً لأنه يصعب إحصاء النساء اللواتي انتمين إلى مجموعتهم في هذه المرحلة أو تلك من تاريخها الطويل، وشاركن بحيوية في أنشطتها، أو تبنّين من مسافة، لكن كلياً، مبادئها وجماليتها. ومَن لديه شك في ذلك، ما عليه سوى زيارة معرض "السوريالية بصيغة المؤنث" الذي ينظمه حالياً "متحف مونمارتر" في باريس. معرض يمكننا داخله تأمّل أعمال لأكثر من خمسين فنانة دُرْنَ في فلك السوريالية التي "لم تكن نظاماً، ولا مدرسة، ولا حركة فنية أو أدبية، بل ممارسة وجود خالصة" (موريس بلانشو).
إلى هؤلاء النساء المتعطشات للحرية، قدمت السوريالية، التي أحدثت في أعقاب الحرب العالمية الأولى نهضة جمالية وانقلاباً أخلاقياً، بدعوتها إلى تحرير الأجساد واستكشاف اللاوعي، إطاراً للتعبير والإبداع لا نظير سابق أو لاحق له. إطار سمح لهنّ بالانعتاق من الأنواع الفنية التقليدية والأعراف الجنسية والحدود الجغرافية، وبتكوين روابط تواطؤ أفضت إلى أعمال فنية مشتركة (كتلك التي أنجزتها توايين وميريت أوبنهايم سوية)، إلى بورتريهات متبادلة (بين دورا مار ولي ميلر، وبين فالنتين هوغو وليز دوهارم)، أو إلى مراسلات خصبة، عاطفياً وفكرياً. باختصار، وفّر بروتون ورفاقه لهنّ تلك الشروط التي تلغي الحدود الفاصلة بين الفن والحياة، طموح مشروعهم الأول.
الواقع والخيال
"كل شيء يقود إلى الاعتقاد بوجود نقطة داخل العقل ينتفي فيها التناقض بين الحياة والموت، الواقع والخيال، الماضي والمستقبل، الأعلى والأسفل، ما يمكن نقله وما يتعذّر نقله"، كتب بروتون في "البيان السوريالي الثاني" (1930). قول تبنته الفنانات الحاضرات في صالة المعرض الأولى، فسعين إلى تفجير ذلك التناقض، لكن ليس من دون غضب وتحريض، خصوصاً ذلك المفترض بين الحب والموت، وبين الرغبة والجريمة، كهاجس قتل الأب الذي يتحكم بصور كلود كاهان، والسخرية القارصة من فكرة الزواج في بعض رسوم دوروتيا تانينغ، والإروسية المعتمة في أعمال جاين غرايفرول وراكيل بايس، والوحشية العدائية في أعمال ماريا مارتينز، ريتا كيرن لارسن وماريون أدنامس. فنانات يشكّل فنّهن خير شهادة على توقهن إلى معانقة "الحياة الحقيقية" التي لا علاقة لها بالحياة التي تم تحديدها على أنها الوحيدة المشروعة من قبل السلطات التي تضع الإنسان تحت تبعية قوى الأخلاق والدين والقوانين، القامعة.
في الصالة الثانية، نرى كيف أن السوريالية، بعودتها إلى أحد أهم موضوعات فن الرسم، المشهد الطبيعي، بغية إدراج الجسد البشري ضمن الطبيعة، أثارت اهتمام فنانات كثيرات إلى حد استيلائهن على هذا الموضوع واستثمارهن الأساطير للتأمل وتحديث ما كان قد بات فكرة فلسفية وشعرية وفنية مبتذلة، أي دمج الأنوثة بالطبيعة. وفي هذا السياق، تشكّل لوحة إيتيل كولكوهون، "اعتدال خريفي"، نموذجاً مثالياً على ذلك، بتجسيدها انصهاراً عضوياً بين نمو نباتي وانبثاق قامة أنثوية من داخله. وإلى جانب فكرة المستقبل النباتي التي اشتغلت عليها أيضاً فالنتين بنروز وريتا كيرن لارسن وليز دوهارم، استحضرت فنانات أخريات فضاءات معدنية غامضة، مثل ماريون أدنامس التي أسقطت نصباً حجرياً في حالة توازن ملغّزة بين أحافير على شكل شموع. وثمة بينهن مَن اشتغل رمزياً على فكرة الخصوبة عن طريق نشر علامات الاستدارة داخل فضاء اللوحة، مثل إيلسا ثوريسين وغرايس بايلثروب.
وتحضر في الصالة الثالثة فنانات وشاعرات استولين على الكليشيهات الإروسية التي ارتقت النظرة الذكورية من خلالها بالجسد الأنثوي أو أخضعته لها، بغية تمزيق الصورة المثالية السوريالية للمرأة ــ الموحية. وفي هذا السياق، ساءلت بعضهن هويتهن عبر التلاعب بموضوع القناع، مثل ديانا برينتون لي وكلود كاهان، أو عن طريق المحاكاة الساخرة لقوانين الإغراء الأنثوي، مثل راكيل مايس وجاين غرافيرول، أو عبر مد جسد المرأة بملامح نباتية وحيوانية غرائبية، مثل ليونورا كارينغتون، سوزان فان دام، ميمي باران وميريت أوبنهايم. وثمة من حرّف بطرافة، الطقوس الجنسية التميمية عبر الانحراف بوظائف ملحقاتها (القفاز، السوط، المرآة، الملابس الداخلية المطرّزة...).
أسلحة الإغراء
وأبعد من إعادة تملك أسلحة الإغراء كوسيلة توكيد للذات، تتوقف الصالة الرابعة عند شعور الفنانات السورياليات أحياناً بالحاجة إلى اللجوء إلى الوحشية والقوة لمقاومة أعراف الحضارة الغربية، فاتخذت التحولات في أعمالهن شكل كائنات خيالية مشحونة بالعنف، تثير القلق إن لم يكن الرعب، وتترجم عدائية تجاه العالم وتمثلاته المطمئنة، كما في لوحات ليونور فيني، جاين غرايفرول، فالنتين هوغو، ليونورا كارينغتون وجوزيت إيكسانديي، ونصوص جويس منصور. أعمال تشهد القسوة التي تنبثق منها على تمرد ضد كل ما يقوّض قوى الخيال.
وفي الصالة الخامسة، تتوزع تشييدات ثلاثية الأبعاد تعكس بجانبها الخارق خيالاً لا حدود له. تشييدات منحت صاحباتها فرصة اختبار الحدود المتداخلة بين هندسة ونحت، مثل بولي فيزولاي، أو التلاعب بالتوهمات الفضائية، مثل فرانشيسكا كلوسين التي شيّدت فضاء يبلبل واقعيته الشديدة حضور سلّم لا يقود إلى أي مكان، وطاولة لا تخضع لقوانين فن الرئاية. أما إيزابيل فالدبرغ، فضمن بحثها عن الشكل الأكثر كمالاً وحيوية، ابتكرت منحوتات تشكّل تجسيداً للمغالاة، حيث جدلية الجاذبية والنفور تبدو فاعلة في كل منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورصدت الصالة السادسة لعمل مايا ديرين السينمائي الذي قاربت فيه موضوع اللاوعي وسلطات الحلم، وتحديداً لفيلم "على الأرض" (1944) حيث البعد الطقوسي واستكشاف الأنا، يرتبطان بأداء راقص تؤديه السينمائية، وبعض المقاطع المتراكبة فيه توحي باستمرارية تلحم فضاءات غريبة ومختلفة بعضها ببعض، كمشهد ديرين وهي تزحف على شاطئ، الذي ينتقل بنا فجأة إلى مشهد زحفها على مائدة بين صفّين من الضيوف، وهو ما يستحضر أداء ميريت أوبنهايم، "الوليمة"، خلال افتتاح معرض "إروس" الباريسي عام 1959.
وفي الصالة السابعة المخصصة لموضوع "الليل"، تتوزع نصوص وصور تعكس اهتمام فنانات الحركة السوريالية، على غرار رفاقهن الذكور، بعالم الحلم وثمار جلسات تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي التي كانت تتم أثناء الليل. ومن هذه النصوص، أبيات للشاعرة جويس منصور تقول فيها: "أنتم لا تعرفون وجهي الليلي/ عيناي أشبه بخيول مولعة بالفضاء/ فمي ملطخ بدمٍ مجهول/ وأصابعي مثل أعمدة إرشاد مرصّعة بندى المتعة/ تهدي رموشكم إلى أذنيّ وعظام كتفيّ/ إلى ريف جسدي المفتوح (...)".
وتختم المعرض صالة أخيرة يتبيّن فيها انحراف بعض الفنانات السورياليات في اتجاه التجريد كوسيلة للإفلات من الذات والواقع، مثل ياني توملان ومارسيل لوبشانسكي اللتين غادرتا كلياً الرسم التصويري، أو أوبنهايم التي استبدلت تلك القطع التي كانت تبتكرها ويسهل التعرّف إلى هويتها، بأشكال هندسية معلّقة في الفضاء، أو الفنانة بونا التي مفصلت الوجه البشري بتخطيطات هندسية مجرّدة. وبينما تنقلت جاكلين لامبا بين حلمية رمزية وتجريد مناخي، مع فاصل في الأربعينيات اعتمدت خلاله مبدأ التفكيك وفقاً للحركة البنّائية، عبرت العملاقة توايين في الخمسينيات من الواقعية السحرية إلى مبدأ تحليل الأشكال.
باختصار، شكّل التجريد لعدد من هؤلاء الفنانات المقابل المثالي للأسلوب السوريالي، وهو ما أشارت إليه إيلين آغار بقولها: "لا أرى أي تناقض... نسير كلنا على قدمين، وبالنسبة إليّ، إحداهما مجرّدة، والأخرى حتماً سوريالية".