ملخص
مع تحول دارفور وكردفان إلى ساحات قتال واسعة، أصبحت الحدأة إحدى ضحايا الحرب الأكثر صمتاً، يتراجع عددها ويتقلص حضورها.
على رغم أن سماء الفاشر كانت تزخر بطيور جارحة أساسية مثل الحدأة السودانية التي كانت الأكثر انتشاراً والصقور الصغيرة (البرقشة والشرياص) في أطراف المزارع والنسر الأسمر في المناطق المكشوفة، فإن حضورها اليوم بات شاحباً، يختفي مع كل موجة قتال جديدة، في مؤشر خطر على انهيار توازن بيئي كان يحمي الإنسان قبل الطير.
في قلب الفوضى التي تلتهم إقليم دارفور وتتمدد نحو كردفان، تتعرض الطبيعة في غرب السودان لعملية استنزاف صامتة لا تقل قسوة عن الحرب نفسها المندلعة منذ أبريل (نيسان) عان 2023، وفي مقدمة هذا المشهد الموحش تقف الحدأة السوداء (أم كتّي)، الطائر الجارح الذي كان لأعوام طويلة جزءاً من الدورة الحيوية للسهول المفتوحة، يحوم فوق القرى والمزارع والوديان، يلتهم الجيف قبل أن تتحول إلى بؤر للمرض، ويحافظ على توازن بيئي هش صامد على رغم الجفاف والهجرات والنزاعات.
ومع تحول دارفور وكردفان إلى ساحات قتال واسعة، أصبح هذا الطائر واحداً من ضحايا الحرب الأكثر صمتاً، يتراجع عدده ويتقلص حضوره، حتى بات غيابه مرئياً لمن اعتاد مشاهدته أول الواصلين إلى مواقع الجثث والحيوانات النافقة.
يختفي هذا الحارس الطبيعي الآن لأن البيئة التي كانت تمنحه فرص البقاء انهارت بالكامل، فالجثث التي كانت تشكل غذاءه الأساس أصبحت ملوثة، بعضها مسموم بسبب تفسخ سريع في الحر الشديد، وبعضها الآخر مغطى بمخلفات ذخائر، أو مشبع بمواد كيماوية تستخدم أثناء القتال، وكل اقتراب منها بات يحمل احتمال الموت بدلاً من الطعام.
وأدى القصف الجوي والمدفعي إلى خلق مناطق خطرة لا تستطيع الحدأة تمييزها من الجو، فتسقط ضحية شظايا أو موجات التفجير أثناء بحثها عن الغذاء. ومع انهيار خدمات النظافة والرقابة البيطرية، أصبح انتشار الكلاب الضالة والضواري الأخرى أكثر شراسة، مما يقلل فرص الحدأة في الوصول الآمن إلى مصادر الطعام. كما أن طبيعة الجثث نفسها تغيرت، ولم تعد صالحة لهذا النوع من الجوارح ولأن البيئة التي كانت توفر لها الأمان تحولت إلى مصيدة قاتلة، ومواقعها صارت مناطق اشتباك، والهواء المحمل بشظايا الحرب بات يسبقها إلى الأرض. وهكذا، اختفى الطائر الذي كان يعد آخر خطوط الدفاع البيولوجي في غرب السودان، مخلفاً وراءه فراغاً بيئياً قد يطلق موجات أمراض وتحولات طبيعية لا تقل خطراً عن الحرب ذاتها.
مسارات تقليدية
في خضم الاضطراب تجد "أم كتّي" نفسها مضطرة إلى إعادة رسم مساراتها التقليدية، هرباً من فضاء جوي وأرضي لم يعد رحباً ولا آمناً، فالمجازر المتكررة واتساع نطاق المواجهات وتحول المدن والسهول إلى مسارح اشتباك عشوائي، كلها عوامل تدفع هذا الطائر الجارح إلى الانسحاب نحو مناطق أقل توتراً مثل محيط مدينة بارا التي باتت تعد أحد المسارات القليلة الباقية لعبوره الآمن. ويزداد المشهد قتامة مع احتمال تمدد رقعة الحرب، مما يجعل رحلة الهجرة أو البحث عن الغذاء مغامرة محفوفة بالموت.
وتوضح الباحثة البيئية سمية بن عوف أن الطيور تعتمد في رحلاتها على التيارات الكهرومغناطيسية التي ترشدها عبر قائد يتقدم السرب. لكن الحرب تعطل هذا النظام الدقيق، فالأسلحة النارية تسقط الطيور مباشرة، بينما يؤدي استنشاق الدخان السام المتصاعد من المقذوفات والمنظومات الحربية إلى نفوق أعداد أخرى. كما تتعرض الأعشاش لدمار واسع، خصوصاً في الفاشر، حيث تعوّق الملوثات قدرة الطيور على بناء مساكن موقتة، مما يؤدي إلى تراجع حاد في أعدادها ويحدث خللاً تراكمياً ضمن المنظومة البيئية.
وتشير إلى أن كثيراً من الطيور تموت قبل إكمال رحلتها، ليس فقط بسبب القذائف، بل لأنها تغير مسارها عند سماع أصوات الانفجارات، فتبتعد من خطوط الهجرة الآمنة وتفقد مصادر أساسية مثل الرياح والغذاء والمياه، مضيفة أن "هذا الاضطراب يطاول طيور السودان المهاجرة والمستوطنة معاً، التي تقدر بنحو 600 نوع، بعضها نادر ومهدد بالانقراض في ظل الضغوط المتزايدة من الصيد الجائر وقطع الغابات وغياب مراكز مراقبة الطيور".
وتبين بن عوف أن "الطيور الجارحة ومن بينها الحدأة، تقوم بدور أساس في تنظيف البيئة من الجيف والحد من انتشار الأمراض العضوية، وأن تغذيها على الجثث سلوك طبيعي لا يستدعي القلق". أما عن تأثير الطيور الجارحة الآتية من أوروبا على الجوارح السودانية، خصوصاً الحدأة، فتشير الباحثة إلى أن التأثير المباشر محدود لأن هذه الأنواع غالباً ما تختلف في مواطن تعشيشها ومسارات تغذيتها، غير أن الضغط على الموارد يزداد بالفعل خلال ذروة الهجرة الشتوية. فحين تتقاطع مسارات الطيور الأوروبية مع السودانية في مناطق مضطربة أو فقيرة بالغذاء، قد يحدث تزاحم على الجيف المتاحة، مما يضعف فرص الطيور المحلية المنهكة أصلاً بفعل الحرب. ومع ذلك، يبقى الخطر الأكبر نابعاً من بيئة الحرب نفسها، لا من المنافسة بين الطيور.
سلوك غريب
هناك سلوك غريب مرتبط بالحدأة لفتت إليه أعوام الحرب، وهو سلوك نقل النار الذي يعد واحداً من أكثر السلوكيات غرابة وإثارة للدهشة في عالم الطيور الجارحة، وقد حظي باهتمام واسع خلال الأعوام الماضية، خصوصاً لدى الحدأة السوداء المنتشرة في السودان. فهذا الطائر لا يكتفي باستغلال الحرائق القائمة لصيد الفرائس الهاربة من اللهب، بل يعتقد بأنه يسهم أحياناً في إشعال حرائق جديدة عبر نقل عيدان مشتعلة بمنقاره أو مخالبه وإسقاطها في مناطق لم تمتد إليها النار بعد، في استراتيجية معقدة تظهر قدراً لافتاً من الذكاء الوظيفي وسرعة الاستجابة.
وتنطلق الحدأة نحو النيران بدلاً من الهروب منها، فحين تشتعل المحاصيل أو الأعشاب الجافة، تهوي فوق خطوط اللهب لالتقاط غصن مشتعل أو فحمة متقدة، ثم تطير بها لمسافة قصيرة لاختيار بقعة غير محترقة، تسقط فيها الجذوة فتشتعل المنطقة المحيطة. ومع توسع رقعة الحريق، تبدأ الحشرات والزواحف والطيور الصغيرة بالهرب في اتجاهات مفتوحة، فتصبح فريسة سهلة في فضاء مكشوف يخلو من الغطاء النباتي. بهذا، تحول الحدأة النار إلى أداة للصيد، وتعيد تشكيل بيئتها بطريقة تكشف عن تكيف فريد مع ظروف السافانا الجافة.
وتزامن هذا السلوك مع انتشار أخبار عن اشتعال قرى في دارفور وكردفان خلال فترات سابقة لأسباب غير واضحة، مما دفع بعضهم إلى التكهن بوجود صلة بين حرائق غير مفسرة ونشاط الحدأة، خصوصاً في مواسم الجفاف حين تزداد قابلية الأعشاب للاشتعال. وعلى رغم أن الدراسات الحديثة توثق بالفعل سلوك نقل النار في بعض السلالات، فإن ربطه مباشرة بحرائق القرى يظل أمراً يحتاج إلى تقصٍّ دقيق، إذ يمكن أن تتداخل عوامل أخرى مثل الحوادث الزراعية، أو الشرر الناتج من احتكاك الأدوات المعدنية، أو الرياح الحارة التي تنقل الجمر لمسافات. ومع ذلك، يظل سلوك الحدأة في التعامل مع النار مثالاً مدهشاً لقدرة الطيور على توظيف عناصر الطبيعة القاسية لمصلحتها، وتحويل النيران إلى وسيلة تؤمن لها الغذاء وتعيد ترتيب فضائها البيئي بما يناسب حاجاتها الغريزية.
حضور شاحب
تكشف شهادات من شمال دارفور عن تدهور مقلق في حضور الحدأة السوداء، الطائر الذي كان جزءاً من المشهد اليومي فوق القرى والمراحيل ومسارات الرعي، ونقل متابعون على وسائل التواصل، إشارات رعاة من مناطق بين كتم والفاشر إلى إنهم لم يعودوا يشاهدون هذه الطيور إلا نادراً منذ أشهر، بعدما كانت تتجمع فوق السهول خلال ساعات الصباح الأولى. ويؤكد الطبيب البيطري علي الفكي أن ازدياد روائح التحلل في بعض القرى ليس إلا انعكاساً مباشراً لغياب هذا الطائر "الكناس" الذي كان يزيل الجيف قبل أن تتحول إلى مصدر للعدوى. أما سكان النزوح في أطراف الفاشر ومعسكرات طويلة وزمزم فيلخصون المشهد بعبارة واحدة تتكرر كثيراً "زمان كان الحدي يحوم… الآن لا نراه".
هذا الغياب لا يقتصر على الجانب البصري، بل يشير إلى بداية انهيار دورة بيئية كاملة، فمع تراكم الجيف من دون نسور أو غيرها من الطيور الجارحة، تتسارع دورة الأمراض، وتتفشى الحشرات الطفيلية والبعوض والذباب، فيما يزداد انتشار الكلاب الضالة التي تتغذى على الجيف المكشوفة، مما يرفع احتمالات انتقال داء السعار وأمراض مشتركة أخرى بين الإنسان والحيوان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير الفكي إلى أن أكبر تهديد للطيور الجارحة هو تدمير بيئتها الطبيعية بالقتال، أو بقطع الأشجار حول الوديان، وحرق الأحزمة الزراعية وجفاف المستنقعات التي كانت تشكل نقاط شرب حيوية، وكلها نتائج مباشرة للحروب الممتدة. وتتقاطع هذه المعطيات مع تقرير للأمم المتحدة صدر في فبراير (شباط) الماضي أظهر أن نحو 44 في المئة من أنواع الطيور البرية المهاجرة تشهد انخفاضاً عالمياً، ويعزو ذلك إلى اضطراب المجال المغناطيسي الذي تعتمد عليه الطيور في الملاحة، إضافة إلى التلوث الشديد في الهواء والمياه. وفي سياق الحروب، تصبح الأسلحة المحرمة دولياً عاملاً قاتلاً، فالجسيمات الدقيقة المتصاعدة تجبر الطيور الحوامة على التحليق أعلى من المعتاد، فتفقد طاقتها ومساراتها وتتعرض للهلاك.
وفي دارفور تحديداً، تشير المعطيات إلى خسارة عشرات الأنواع من سلالات الطيور، وعلى رغم أن سماء الفاشر كانت تزخر بطيور جارحة أساسية مثل الحدأة السودانية التي كانت الأكثر انتشاراً والصقور الصغيرة (البرقشة والشرياص) عند أطراف المزارع والنسر الأسمر ضمن المناطق المكشوفة، فإن حضورها اليوم بات شاحباً يختفي مع كل موجة قتال جديدة، في مؤشر خطر على انهيار توازن بيئي كان يحمي الإنسان قبل الطير.
آثار الصراع
بعد ما يقارب ثلاثة أعوام من الحرب في السودان، بات واضحاً أن آثار الصراع لم تقتصر على البشر وحسب، بل امتدت بقسوة إلى الطيور، وعلى رأسها الجوارح خصوصاً الحدأة، فقد تقلصت مساحات الغذاء بصورة كارثية مع احتراق الغابات والأحزمة الزراعية جراء القصف، واختفت نقاط المياه التي كانت الحوامات تعتمد عليها في الهجرة أو في الاستراحة. كما أسقطت طيور عدة بقصف عشوائي، أو طائرات مسيّرة أو صارت ضحية للدخان السام والاضطراب المغناطيسي الناتج من الانفجارات، مما أربك استراتيجياتها في التحليق وجعل بعضها يضل مساراته أو يهلك قبل الوصول إلى موطنه.
ومن منظور سلوكي، يكشف مراقبون عن أن الطيور التي تتعرض لأحداث الحرب تغير أنماط طيرانها، وترتفع إلى مستويات غير آمنة، وتفقد حذرها أو قدرتها على تتبع الحقول المغناطيسية التي توجهها، فيصبح اختفاؤها نتيجة طبيعية لصراع لا يعترف بحدود الطبيعة.
وليس غريباً أن تحتل الحدأة السودانية (أم كتّي) مكانة بارزة في تراث دارفور، فهي جزء من الذاكرة الجمعية قبل أن تكون جزءاً من النظام البيئي، إذ تجلت في الحكايات الشعبية بصور متعددة ومن بينها حكاية "لقمة اليتيم"، فيحكى أن حدأة كانت تحوم فوق سوق الفاشر في يوم مزدحم، فخطفت لقمة من صبي يتيم كان يأكل عند ظل دكان، وظل الصبي يبكي، فانتبه إليه رجل كبير وقال "أم كتّي لا تأخذ إلا حق الضعيف"، ويقصد أن الحدأة لا تتجرأ إلا على من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وتحول المثل إلى حكمة دارفورية تقال عندما يعتدي القوي على الضعيف.