Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معارك جنوب كردفان تعيد تشكيل خريطة الحرب في السودان

مؤشرات تنذر بانزلاق المنطقة نحو طور جديد يعيد إنتاج النزاعات القديمة بأدوات أشد حساسية وتعقيداً

تتولد في جنوب كردفان أربعة سيناريوهات محتملة لمسار المعارك ومصير الإقليم (أ ف ب)

ملخص

يتخذ التصعيد في جنوب كردفان دلالة مزدوجة، فهو من جهة يعكس سباقاً محموماً على الأرض قبل أي ترتيبات محتملة، ومن جهة أخرى يضع الإقليم على حافة تحول قد يرسم مستقبل الحرب بأكملها، في بلد تتسارع فيه الانهيارات وتتداخل فيه خرائط القوة بوتيرة غير مسبوقة.

تكاد المشاهد الحالية، من حصار وهجمات تسللية وتمركز في المرتفعات، تعيد هندسة الحرب ذاتها التي شهدتها المنطقة في تسعينيات القرن الماضي، ولكن بفاعلين جدد وتوازنات مختلفة.

في قلب سلسلة الجبال التي تشق ولاية جنوب كردفان، وعلى امتداد ولايات كردفان الأخرى، يتخذ التصعيد العسكري الراهن شكلاً أكثر كثافة وتعقيداً، بما يعكس تحولاً عميقاً في هندسة الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع". فالمشهد الذي يتبدى اليوم لا يمكن قراءته بوصفه مجرد جولة جديدة في صراع مسلح امتد من الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور، بل بوصفه لحظة مفصلية تتقاطع فيها حسابات الموارد مع صراعات الهوية ومعارك السيطرة على الممرات الاستراتيجية. الجغرافيا الجبلية التي مثلت من قبل مسرحاً للحرب الأهلية في جنوب السودان، تتحول الآن إلى عقدة عسكرية يتنافس عليها الجيش من جهة، وقوات "الدعم السريع" و"الحركة الشعبية - شمال"، جناح عبدالعزيز الحلو، المتحالفة معها من جهة أخرى، في محاولة لإعادة رسم موازين القوة على الأرض.

في هذا السياق، تبدو معارك دلامي وكرتالا والدامرة والتبسة أكثر من مجرد مواقع متنازع عليها، فهي نقاط اختبار لفعالية التحالفات العسكرية الجديدة، ولقدرة كل طرف على حشد القوة واستثمار التضاريس واحتواء الخسائر. كما تكشف، في جوهرها، عن هشاشة البنية الأمنية للدولة السودانية واتساع هوامش الجماعات المسلحة، حيث تستعاد البلدات وتفقد في زمن قياسي، ويعاد تدوير خطوط التماس تحت ضغط المدفعية والطائرات المسيرة. وتتكثف دلالات هذا التصعيد مع اقتراب المعارك من الحقول النفطية في غرب كردفان، مما يضفي على الصراع طبقة إضافية من الرهانات الاقتصادية.

غير أن الأشد خطورة هو ما يظهر على الهامش الإنساني لهذه المواجهات، فالقصف الذي طاول بلدة كمو وسقوط عشرات القتلى من المدنيين، بينهم طلاب مدارس، يعيد التذكير بأن الحرب تتمدد خارج نطاق الحسابات العسكرية لتطاول النسيج الاجتماعي وتزيد من موجات النزوح التي أنهكت الإقليم منذ اندلاع القتال في عام 2023. ومع اشتداد الضغط الدولي لفرض هدنة إنسانية، يتخذ التصعيد في جنوب كردفان دلالة مزدوجة، فهو من جهة يعكس سباقاً محموماً على الأرض قبل أي ترتيبات محتملة، ومن جهة أخرى يضع الإقليم على حافة تحول قد يرسم مستقبل الحرب بأكملها، في بلد تتسارع فيه الانهيارات وتتداخل فيه خرائط القوة بوتيرة غير مسبوقة.

صياغة التوازنات

تبدو الحرب من خلال تمددها إلى جنوب كردفان، وكأنها تعيد ترتيب خطوط اشتعالها بعيداً من مراكز الثقل التقليدية، لتتجه إلى فضاء جغرافي كثيراً ما شكل مفصلاً حساساً في الحسابات العسكرية والسياسية السودانية. يتسابق طرفا الصراع لتثبيت حضورهما في مناطق لا تمنح تفوقاً جغرافياً فحسب، بل تفتح بوابات نحو مسارات النفط ومعابر الإمداد وشبكات النفوذ القبلي والعسكري المتشابكة منذ عقود.

تؤشر التطورات الأخيرة إلى أن "الحركة الشعبية - شمال"، تعيد توظيف خبرتها الطويلة في القتال الجبلي من أجل فرض وقائع جديدة على الأرض. فالتقدم نحو المرتفعات الغربية لكرتالا، والتمركز في نقاط تشرف على خطوط تحرك الجيش، يهدفان إلى دفع القيادة العسكرية الحكومية إلى خوض معارك استنزاف في بيئة غير مواتية لها. وفي المقابل، يتعامل الجيش مع هذه التحركات باعتبارها تهديداً استراتيجياً يطاول عمقه اللوجستي، مما يدفعه لتفعيل تكتيكات الهجوم الوقائي مثلما حدث في جبل "وتنق"، ومحاولة ضرب التجمعات قبل أن تتحول إلى مواقع يصعب اقتلاعها.

وتكشف العمليات المتزامنة في المنطقة عن نية الجيش إعادة بناء شريط من المناطق العازلة التي تحرم خصومه من حرية المناورة. غير أن هذه الجهود واجهت تصعيداً مضاداً تمثل في تكثيف الهجمات على حامية كرتالا، والدفع بقوات إضافية نحو القوز لزيادة الضغط على مدينة الدلنج وفصل محاور الجيش عن بعضها.

أما سيطرة "الدعم السريع" على مدينة بابنوسة وسقوط الفرقة 22 مشاة، فتجعل غرب كردفان نقطة ارتكاز لتحركات قد تغير معادلات القوة في جنوب كردفان، وبهذا قد تتشكل تدريجياً بيئة صراع جديدة تعيد صياغة التوازنات داخل الإقليم وخارجه.

شبكة ضغط

يمنح موقع جبال النوبة وتضاريسها أية قوة تسيطر عليها إمكان احتلال مواقع مهيمنة تكتيكياً، مثل مناطق للمراقبة ونقاط لإعاقة خطوط الإمداد وقواعد خلفية لصمود طويل الأمد في مواجهة قدرات الطرف الآخر التقليدية. هذا الواقع يفسر لماذا تحولت مدن مثل كاودا إلى مراكز سياسية وعسكرية لـ"الحركة الشعبية"، ولماذا باتت مواقع جنوب كردفان محلاً لصراع نفوذ تتقاطع فيه المصالح.

دخول الحلو إلى معارك جنوب كردفان متوقع، من حيث طبيعته الاستراتيجية، فهو قتال على أرض تسيطر قواته على أجزاء واسعة منها ولهم فيها امتدادات اجتماعية وثقافية، مما يمنحهم مزايا امتثال محلي ومعرفة تضاريسية عميقة يصعب على القوات التقليدية مواجهتها بسهولة. كما أن التحالف مع "الدعم السريع" أسهم في تغيير قواعد الاشتباك، إذ أضاف قدرة على الحركة السريعة بفضل زيادة الآليات المسلحة واستخدام المسيرات، كمزيج يربط بين مقاومة جبلية محلية وقوة هجومية شبه عسكرية قادرة على توسيع بؤر النزاع.

تشير الضربات الجوية الأخيرة التي استهدفت محيط كاودا في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، إلى تحول في منهجية الصراع، من اشتباكات أرضية إلى محاولات حسم أو تعطيل قادة واحتواء خطوط الإمداد عبر الضربات الجوية والاستخبارية. هذا التطور يرفع من قيمة السيطرة على كاودا كبوابة للنفوذ والتأثير داخل جنوب كردفان، إضافة إلى رمزية المدينة نفسها، التي تحولت تاريخياً إلى مركز قيادة للحركة و"الجبهة الثورية" من قبل وملتقى إمدادات، مما يجعلها هدفاً ذا قيمة استراتيجية عالية.

من جانب آخر، يضيف قرب محاور القتال من منطقة أبيي الغنية بالنفط، بعداً اقتصادياً سياسياً، إضافة إلى ارتباطها بخطوط نفطية وممرات حيوية إلى حوض المجلد، ومصفاة مدينة الأبيض، فالسيطرة على المناطق المجاورة تفتح إمكانات للتأثير في موارد وطرق تصدير قد تصبح رهانات في مفاوضات لاحقة. جغرافياً، تبعد كاودا من مركز مدينة أبيي نحو 290 كيلومتراً تقريباً، وهي مسافة كافية لتحول الصراع إلى شبكة مترابطة من محاور الضغط إن نجحت أية قوة على الأرض في تأمين مسارات لوجستية لربط تلك الجيوب.

حسابات مضطربة

يتخذ جنوب كردفان اليوم موقعاً مركزياً في إعادة تشكيل خريطة الحرب السودانية، ليس باعتباره ساحة ثانوية للتحولات العسكرية، بل كمساحة تتقاطع فيها حسابات الدولة المضطربة مع مشاريع الفاعلين المسلحين ورهاناتهم التاريخية. ومع هذه المعارك وامتداد الاشتباكات نحو تخوم الدلنج، تبدو المؤشرات أكثر وضوحاً، بانزلاق المنطقة نحو طور جديد يعيد إنتاج النزاعات القديمة بأدوات أشد حساسية وتعقيداً.

في هذا المشهد، تبرز المقاربة الحكومية المتشددة القائمة على رفض أية تسوية لا تبدأ بتفكيك "الدعم السريع"، في مقابل تمسك "الحركة الشعبية - شمال" بمواقف تعتبرها "قضايا مصيرية" لا تخضع للمساومة. هذا التشدد المتبادل يفسر لماذا تحول جنوب كردفان إلى مسرح مواجهة ثلاثي الأبعاد، الجيش و"الدعم السريع" و"الحركة الشعبية" التي تقاتل اليوم فوق أرضها، وبالاستفادة من مساندة "الدعم السريع" المتحالف معها في محاور متعددة.

الهجمات التي بدأت منذ يونيو (حزيران) 2023 على كادوقلي لم تكن حدثاً معزولاً، بل كانت الشرارة الأولى لنقل المعركة نحو مناطق لعبت دوراً تاريخياً حاسماً في نزاعات السودان السابقة. واليوم، مع استعادة "الحركة الشعبية" لبلدات عدة وهجومها المتكرر على حامية كرتالا وتقدمها في منطقة الجبال، يتجدد شبح الصراع القديم الذي ارتبط بالنزعة "النضالية" لقبائل جبال النوبة وبالحرب الأهلية في جنوب السودان خلال أعوامها الأولى. وتكاد المشاهد الحالية، من حصار وهجمات تسللية وتمركز في المرتفعات، تعيد هندسة الحرب ذاتها التي شهدتها المنطقة في تسعينيات القرن الماضي، ولكن بفاعلين جدد وتوازنات مختلفة.

أما الجيش، الذي يسعى لقطع خطوط "الحركة الشعبية" ومنع "الدعم السريع" من النفاذ إلى عمق ولاية جنوب كردفان، فيجد نفسه اليوم أمام جبهات تتقدم عليه من اتجاهات مختلفة. فـ"الحركة الشعبية" تضغط من الشرق والغرب، بينما تحاول "الدعم السريع" عزل كادوقلي والتمدد نحو الدلنج. هذا التداخل يجعل جنوب كردفان عقدة صراع لا يمكن فصلها عن مسارات الحرب الكبرى، ولا عن التحولات السياسية التي تتشكل في الخرطوم ودارفور وولاية النيل الأزرق.

ومع تصاعد الهجمات على القرى الجبلية وتكثيف الضربات الجوية في كاودا ومحيطها، يزداد الخوف من أن تتحول المنطقة إلى "دارفور جديدة"، فالنزاع الواسع الممتد، متعدد الأطراف، يتجاوز قدرة أية قوة منفردة على احتوائه. لقد أصبح القتال الدائر الآن تجسيداً عملياً لغياب التسوية، ونتيجة مباشرة لتنافر الرؤى حول مستقبل السودان ذاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيناريوهات محتملة

في جنوب كردفان، تتولد أربعة سيناريوهات محتملة لمسار المعارك ومصير الإقليم، في صورة تكثف شبكة المصالح والهويات والانقسامات التاريخية التي لم تهدأ منذ عقود.

السيناريو الأول، تصاعد المعارك حول جبال النوبة، تلك المساحة الممتدة لنحو 48 ألف كيلومتر مربع التي تعد عمقاً استراتيجياً لا يقبل أي طرف خسارته. ويتسع نطاق الصراع نحو تخوم أبيي، مما يدفع دولة جنوب السودان إلى وضع قواتها في حالة استعداد عال، خشية أن ينسحب التهديد إلى أراضيها. هنا يصبح النزاع قابلاً للانفجار الإقليمي، مدفوعاً بقلق جوبا على حدودها وحقولها النفطية.

والسيناريو الثاني، قد ينجح أحد طرفي النزاع في تحقيق مكاسب ميدانية نوعية من دون القدرة على فرض سيطرة كاملة على جبال النوبة. في هذه الحالة، يتشكل واقع جديد من "التوازن القسري"، إذ تظل الجبال عصية على الحسم، بينما تعاد هندسة السيطرة في المناطق السهلية والطرق الحيوية. هذا السيناريو يعيد إنتاج نماذج النزاعات الممتدة التي تخلق "حدود نار" أكثر منها حدود دولة، وتفتح الباب أمام ترتيبات موقتة لا تنهي الحرب بل تنظم ديمومتها.

والسيناريو الثالث، قد يدفع ضغط الحرب وتشوش خطوط الإمداد وتنامي مخاوف انفلات الصراع إقليمياً نحو تسوية سياسية برعاية خارجية، خصوصاً في ظل حساسية النفط وموقع أبيي. غير أن هذه التسوية ستكون هشة قابلة للانهيار عند أول اختبار، لأن الجذور العميقة للنزاع، وهي التهميش وصراع الموارد والتنافس الإثني، ستظل حاضرة في كل تفصيل من تفاصيل الحياة اليومية. ربما تتراجع المعارك في الظاهر، لكن بذورها ستظل كامنة.

أما السيناريو الرابع، في حال طال أمد الحرب وتآكلت قدرة الطرفين على الحسم، فقد تتوزع السيطرة بين جماعات محلية وقيادات ميدانية وشبكات مسلحة مرتبطة بممرات النفط وطرق التهريب. تتحول الجبال إلى مراكز نفوذ ذات استقلالية شبه كاملة، بينما تترك المناطق الحدودية فريسة للفراغ الأمني وتدخلات جنوب السودان الساعية إلى حماية أبيي. هذا السيناريو يفتح الباب أمام ولادة "جغرافيا مهزوزة" لا تحكم من مركز واحد، بل من خرائط نفوذ صغيرة متنازعة.

في كل هذه السيناريوهات، تظل جبال النوبة، بتعددها الديني والإثني واللغوي وثقلها التاريخي، وبموقعها المطل على خطوط النفط، القلب الذي تدور حوله الحرب والقلق الإقليمي ومصير جنوب كردفان نفسها.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير