ملخص
بعد سقوط النظام السابق اتخذت شبكة "الآغا خان" للتنمية قراراً بالاستمرار في العمل وتوسعته أكثر، متحدية عواصف الفوضى وغياب المؤسسات، ومتصدية لدور رأته محورياً في إسناد المجتمع المحلي، وهذه المرة لم تكن العودة القوية بغطاء واتفاق موقّع بل استكمالاً لما كان الحال عليه سابقاً، فشرعت سريعاً في وضع مشاريعها وخططها لمحاولة تقديم أكبر كم ممكن من الدعم في مجالات شتى، مستفيدة من بُناها السابقة وموظفيها السابقين وحاجة السوريين إليها، ولو أنها تعلم جيداً أنها لن تستطيع أن تقدم كثيراً هذه المرة أمام دمار البلاد الواسع.
مع سقوط النظام السوري السابق أواخر العام الماضي عادت من جديد شبكة "الآغا خان" للتنمية بالظهور بقوة داخل المجتمع السوري في مضامير الإعمار والترميم والتنمية والمساعدات، وهي التي تملك باعاً طويلاً من العمل المستدام بين الشرق الآسيوي وصولاً إلى الوسط والغرب الأفريقي، حاملة شعارات إنسانية واسعة المفاهيم والرؤى، ومدعومة بموازنات ضخمة ومشاريع تزداد اتساعاً بغية استهداف إعادة الحياة للمجتمعات النامية والمتضررة، ومحاولة بث الحياة في المدن التي أنهكتها الحروب والصراعات.
العبور فوق الاعتبارات الضيقة
منذ الأسابيع والأشهر الأولى التي تلت سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، أعادت مؤسسة "الآغا خان" تنظيم صفوفها في الداخل السوري وتوسيع انتشارها بين المدن والبلدات ضمن سياسة تنمية المجتمعات من الداخل، وهو شعار ترفعه المؤسسة على الدوام بعيداً من أي دور سياسي، كما بيّن العاملون فيها عبر أكثر من مناسبة، وهو ما أكده الخبير السياحي نسيم حوراني الذي عمل معها في مراحل سابقة بقوله إن "شبكة 'الآغا خان' لا تسأل عن عرق أو طائفة، ولا تهتم لتمرير مشاريع، ولا أن تكون أداة ضغط ونفوذ، وعلى رغم أن زعيم الشبكة، وهو الزعيم الروحي للطائفة الإسماعيلية في العالم، والإمام الحالي، ووجود تجمعات إسماعيلية كبيرة نسبياً في سوريا، لكن التنمية لا تقتصر عليهم ولا الترميم والإعمار، بل إن الشبكة تستهدف كل البنى والتجمعات في سياق إنساني كامل عابر للطوائف والعرقيات والسياسات".
فلسفة النفوذ
لا يكفي النظر من الخارج إلى مؤسسات "الآغا خان" بتنوع أعمالها لفهم تركيبتها، بل يجب النظر إلى ظروفها من الداخل، فهي ليست مجرد مؤسسة خيرية غير ربحية بالمعنى البسيط والمجرد، وإن كان ذلك هو التوصيف الأقرب، ولكنها أيضاً ليست حزباً أو حراكاً سياسياً يعمل من خلف الستار تاريخياً، بل هي قوة كبرى تجمع بين النفوذ الديني والاقتصادي والاجتماعي والموثوقية العالية والصلات الرفيعة بالمجتمعات المتقدمة، وضمناً تمثل شبكة متينة من العلاقات الدولية التي تضم زعماء ورؤساء ومنظمات وغيرهم.
أنشئت المؤسسة بصورتها الحالية على يد الآغا خان الرابع كريم الحسيني، وهو الإمام الـ49 من نسل أئمة آل البيت وإمام الطائفة الإسماعيلية التي انشقت في أطوار باكرة من التاريخ الإسلامي عن الشيعة الاثني عشرية، وحافظت على تسلسل الأئمة القائم حتى يومنا، وقد جمع الإمام كريم في شخصيته بين الزعامة الدينية الواسعة والتعليم المتقدم والثراء الباهظ والحضور القوي في عواصم القرار، ومنذ خمسينات القرن الماضي حوّل الآغا خان مفهوم الإمامة المعرفية نفسه إلى ما يشبه دولة لا حدود لها عبر بناء المستشفيات والبنوك والمؤسسات التعليمية والجامعية والثقافية، وكثير من الاستثمارات الأخرى حول العالم، حتى إن بعض المصادر تذهب إلى أن المؤسسة تمارس نشاطها التنموي داخل 30 بلداً على الأقل.
حلُم الآغا خان الرابع كما عرف عنه بجعل مؤسسته منارة تربوية وتنموية ترتقي بالإنسان قبل الاهتمام بالجدران، فعمل على دمج الثقافة بالاقتصاد والعلم ضمن مشروع متعدد الأطياف، بعضه يمكن استغلال موارده لتأمين الدعم المستقل والكافي لتدعيم الشؤون الأخرى ضمن دورة مال مدروسة تضع على رأس أولوياتها الفقراء، وتنتهج مبدأ العمل مع الحكومات والمجتمعات المحلية في آن، مما أعطاها شرعية داخل الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً والبنك الدولي، إذ لا ينظر إليها كجهة تقتصد العمل السياسي على رغم كمّ نفوذها وملاءتها المالية الضخمة، وتشير تقارير صحافية عدة إلى أن عدد موظفي شبكة "الآغا خان" يفوق 80 ألف شخص، فيما تقدر موازنتها السنوية غير الربحية بنحو مليار دولار.
"الآغا خان" والأسد
لم تكن العلاقة بين شبكة "الآغا خان" وسوريا وليدة سقوط النظام السوري بل كانت ممتدة منذ زمن طويل، وتحديداً بعيد وصول بشار الأسد إلى الحكم عام 2000 وإطلاقه وعوداً إصلاحية وانفتاحية بغية تحسين صورة نظامه في الخارج والتقرب من المجتمع الدولي وجمعياته ومنظماته، ومن هنا دخلت شبكة "الآغا" إلى العمل في سوريا بين عامي 2001 و2002 من خلال توقيع مذكرة تفاهم بين الجانبين تحت إطار التعاون في شؤون التنمية الثقافة والاقتصاد والعلم، وعليه حصلت الشبكة على صلاحيات واسعة لتنفيذ مشاريعها الإصلاحية مع ضمان عدم تعرض أنشطتها للمضايقات الأمنية والحزبية والسياسية.
وكان الأسد يرمي من خلف الشبكة إلى إبراز صورة حسنة عن انفتاح نظامه وشرعيته، فيما كان ينصب اهتمام الشبكة على التنمية بصورة مباشرة بعيداً من حسابات المشهد السياسي المعقد، وكذلك كانت تعول على وعود الرئيس الشاب، وكانت المعادلة بسيطة، فالأسد يبحث عن غطاء لتلميع صورته، والشبكة تسعى إلى ضمان ديمومة استقرار بلد مهم في الشرق الأوسط، ومنه توسع نشاطاتها نحو الإقليم.
في تلك المرحلة تعاونت الشبكة مع وزارة الثقافة السورية ورممتا كثيراً من الشوارع والمباني والمعالم الأثرية، وأطلقت برامج تدريب مهنية وعلمية ومبادرات لدعم الصناعات التقليدية والحرف اليدوية ومساعدات إنسانية للمحتاجين أو تلك اللازمة لإطلاق مشاريع صغيرة أو متناهية الصغر، وكانت تحظى بدعم مطلق من القصر الجمهوري الذي كف الأيدي الأمنية والوزارية عن تتبعها، ويقول أحد الذين تعاونوا مع "الآغا خان" في مجال الهندسة خلال تلك المرحلة واسمه نبيل شاويش إن "الخطوط الحمر كانت واضحة أمامنا وضوح الشمس، وهي عدم التعاطي في أي شأن سياسي أو أمني، والمعادلة بسيطة: يمنع التدخل في الشؤون الداخلية الخاصة، وما دون ذلك فهناك حرية مطلقة في مزاولة أعمال الشبكة ضمن أهدافها المعلنة والمتفق عليها ومن دون قيود".
وقد استمرت هذه الأعمال التنموية حتى اندلاع الحرب السورية عام 2011، إذ تغيرت الحسابات تحت ضغط الواقعين الأمني والعسكري والتقلبات السياسية العاصفة، مما استدعى محاولات عدة لإعادة هيكلة بنية العمل كاملاً، لكن البدايات العنيفة في الانتفاضة دفعت الشبكة نحو تنفيذ انسحاب تدريجي قائم على الظروف الأمنية التي لم تعد تسمح بإتاحة استمرار العمل، فيما بقي كثير من موظفيها في الداخل السوري منتظرين العودة من جديد لاستكمال مشروعهم، والذين لم يتخل عنهم الآغا كما لم يتخل عن طائفته داخل سوريا بحكم زعامتها، وتباعاً بدأ يعود نشاط الشبكة بهدوء اعتباراً من عام 2020.
"الآغا خان" وسوريا الجديدة
بعد سقوط النظام السابق اتخذت الشبكة قراراً بالاستمرار في العمل وتوسعته أكثر، متحدية عواصف الفوضى وغياب المؤسسات، ومتصدية لدور رأته محورياً في إسناد المجتمع المحلي، وهذه المرة لم تكن العودة القوية بغطاء واتفاق موقع بل استكمالاً لما كانت الحال عليه سابقاً، فشرعت سريعاً في وضع مشاريعها وخططها لمحاولة تقديم أكبر كمّ ممكن من الدعم في مجالات شتى، مستفيدة من بناها السابقة وموظفيها السابقين وحاجة السوريين إليها، ولو أنها تعلم جيداً أنها لن تستطيع أن تقدم كثيراً هذه المرة أمام دمار البلاد الواسع، وقد حاولت خلال المرحلة الأولى، ما بعد سقوط النظام السابق، ضخ مبالغ مالية كبيرة بالتعاون مع شبكات أوروبية أخرى بحسب ما أوردت تقارير صحافية غربية، بهدف إعادة تأهيل شبكات المياه والصرف والزراعة، وترميم ما أمكن من الأسواق الأثرية والمعالم الأساس، إضافة إلى محاولة توظيف أكبر قدر ممكن من فاقدي أعمالهم، وتحديداً فئة النساء، ومع ذلك فإن عودة الشبكة بفاعلية لم تكن عشوائية بل بدت للمتابع أنها منظّمة للغاية، وتعرف من أين ستبدأ وأين هي المجتمعات الأكثر ضرراً.
ويصف عبود زهر، وهو أحد أبناء الطائفة الإسماعيلية في سوريا، شبكة "الآغا خان" بأنها اليوم تعمل بقوة تفوق عمل بعض وزارات ومؤسسات الحكومة، "فهي تمتلك حضوراً منظماً وفاعلاً ومستنداً إلى سجلات ناصعة البياض مما يجعلها طرفاً أممياً موثوقاً من دون مطامع من داخل أي بلد تعمل فيه، فإمامنا لم يتخل عنا وكذلك لم يتعامل على أساس طائفي مع أي مكون، ويمكن الاستدلال على ذلك من عمل شبكته من أقصى آسيا إلى أدنى أفريقيا".
خريطة التدخلات
لا تعمل الشبكة بأسلوب عشوائي بل تعتمد على دراسات موسعة وموثوقة قبل أن تتدخل في أي عمل أو أي استهداف لمنطقة جغرافية محتاجة، وقد يشمل تدخلها الأولي مناطق لم تتعرض لدمار فادح، والمحصلة هنا أن الشبكة ليست مسؤولة عن إعمار بلد كامل لكنها في الأقل تحاول الإسهام والمساندة وتقديم تصور عن مشاريع تعاف باكر، وهو ما يسمح بتحقيق نتائج متسارعة على الصعيدين الرمزي والاقتصادي.
وعلى خلاف المتوقع فإن الإسماعيليين ليسوا أكثر المستفيدين من الشبكة، بل ينصبّ اهتمام الشبكة عادة على المجتمعات المتداخلة دينياً لتكوين علاقات أوسع تقوم على ربط السكان بالشبكة نفسها، لتكون ضامناً خيرياً وإنسانياً في مواجهة أية تعديات عنيفة، وبذلك يصب عملها في خانة تقريب المكونات من بعضها، فهي تقدم الوظيفة والدعم للسنّي كما العلوي والمسيحي والمرشدي والإسماعيلي وغيرهم، فيما تحاول تجنب دخول بؤر صراع محتملة أو هشة أو تحكمها سيطرة جماعات متطرفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المعيشة أولاً
بعد وفاة الآغا خان الرابع كريم الحسيني مطلع فبراير (شباط) عام 2025، وهو مؤسس الشبكة، انتقلت الإمامة الدينية وزعامة الطائفة الإسماعيلية في العالم لابنه الإمام رحيم الحسيني المولود عام 1971 والمقيم الآن في سويسرا، ليصير الآغا خان الخامس والإمام الـ 50 للإسماعيليين، وبالضرورة تسلّم إدارة شبكة "الآغا خان" للتنمية وتابع مشاريعها داخل سوريا وخارجها، وعمّ سوريا بمبلغ 100 مليون يورو خلال "مؤتمر بروكسل للمانحين" في مارس (آذار) الماضي، وكذلك دعمت شبكته خلال الفترات السابقة نحو 500 ألف سوري بالمساعدات الغذائية والتغذوية الطارئة، مع توفير خدمات صحية ومياه وصرف صحي لمليون شخص، وخدمة 800 ألف شخص من خلال برامج دعم المجتمع المدني، وهو ما أسهم في تعزيز الملكية المحلية والتماسك الاجتماعي، إضافة إلى دعم 50 ألف مزارع لتعزيز أمنهم الغذائي وقدرتهم على التكيف مع التغيرات المناخية والظروف الاقتصادية، بحسب ما ورد على الموقع الرسمي لشبكة "الآغا خان للتنمية Akdan – سوريا".
تضيف الشبكة أن أنشطتها شملت تقديم المساعدات الإنسانية وتوفير الرعاية الصحية وخدمات المياه والصرف الصحي والتمويل الصغير والدعم التعليمي، مع تعزيز الزراعة وتنمية المشاريع الصغيرة ودعم المجتمع المدني والحفاظ على التراث الثقافي، كما تتولى "الآغا خان" الآن كثيراً من المشاريع عبر درسها أو تنفيذها، وهي في مجملها تصب في أساسات الدعم المطلوب للمجتمعات المتضررة على مختلف الصعد والمتعلقة بالحركة المعيشية، وإن كان دورها قد تراجع نسبياً في الملف الثقافي والترميمي الأثري والسياحي، ولكن ذلك جاء محمولاً على أولويات أخرى تتعلق بحياة السكان أنفسهم.
يذكر أن الطائفة الإسماعيلية في سوريا تعتبر من الطوائف قليلة التعداد قياساً إلى غيرها، وتحتفظ بمجتمعات محلية تاريخية تتوزع بصورة رئيسة ما بين مدينة السلمية شرق حماه (وسط سوريا)، ومدينة مصياف غرب حماه، وفي مدينة القدموس الجبلية التابعة لمحافظة طرطوس، ويشير متابعون للشأن السوري إلى أن جهوداً حثيثة بذلتها الإمامة الإسماعيلية في الداخل السوري وخارجه لتظل الطائفة بعيدة من الصراع وعمليات الانتقام، وفعلياً يمكن القول اليوم إنها الطائفة الأقل ضرراً بعد سقوط النظام السوري السابق، على رغم اشتعال تجمعاتها المجاورة بالأحداث الأمنية.