ملخص
منذ إعلان تأسيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية يجهد الناشطون وضحايا ملفات مختلفة لتضمين قضاياهم في إطار ولاية العدالة الانتقالية في سوريا.
منذ أواسط شهر مايو (أيار) الماضي، ومع صدور المرسوم الرئاسي القاضي بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية"، ثمة نقاش مستمر بين السوريين، لا سيما الناشطين المدنيين، ومنظمات المجتمع المدني، وضحايا مختلف القضايا التي شهدتها سوريا خلال العقود الماضية.
في مشهد يعكس مدى ثقل المرحلة السابقة وتعقيدات الظروف الحالية، تعقد منظمات المجتمع المدني في مناطق مختلفة من سوريا جلسات وندوات ومنتديات تتناول الملفات، التي كان السوريون من مختلف مشاربهم، ضحايا القمع والسياسات والعمليات العسكرية التي عاشتها البلاد سواء خلال سنوات الحرب الأخيرة أم قبل عقود.
شهدت مدينة القامشلي، في شمال شرقي البلاد أخيراً، منتديات عن الضحايا والتهجير القسري في المناطق الكردية وكذلك السورية التي جرت في سياقات مختلفة وبتفاصيل خاصة بكل منطقة، ناهيك بالجهات المتورطة في تلك الأحداث، منها جهات دولية، وأخرى من أطراف الصراع السوري، إضافة إلى أحداث جرت عقب سقوط نظام الأسد (الرئيس المخلوع بشار الأسد) في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي.
في الـ25 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، نظمت نحو 19 منظمة وجمعية حقوقية ومدنية في شمال وشرق سوريا منتدى حول المهجرين قسراً في عموم الجغرافيا السورية، وسبقتها فعالية مشابهة حول المهجرين من مناطق تعرضت لعمليات عسكرية تركية في عامي 2018 و2019، إذ يقدر عدد النازحين قسرياً منها نحو 400 ألف شخص غالبيتهم من الأكراد، وينتظرون تسهيل طرق العودة بعدما انتعشت آمالهم بتوقيع "قوات سوريا الديمقراطية" والرئاسة السورية اتفاق الـ10 من مارس (آذار)، وبحسب ناشطين فإن ما يزيد من تعاسة أوضاع هؤلاء النازحين عن بقية أقرانهم من السوريين هو عدم قدرتهم على الوصول إلى مناطق سكناهم الأصلية على رغم تغير النظام في البلاد.
التهجير القسري المختلف
من أبرز المشاركين في المنتدى الخاص بالتهجير القسري كان الشخصية السورية المعروفة هيثم مناع، الذي له باع طويل في العمل الحقوقي والسياسي على مدى عقود سابقة، إذ كان معارضاً بارزاً لنظام بشار الأسد، وقال مناع إن التهجير القسري والتغيير الديمغرافي استخدما كسلاح من مختلف الأطراف في الصراع السوري، وإن كل ذلك جرى خارج النطاق القانوني - الدولي - الإنساني أو القانون الدولي - الإنساني - العرفي، وإن دولاً مثل تركيا استقبلت أشخاصاً لعقد اتفاقات تهجير قسري و"هذا لم يحصل في صراع أية دولة أخرى"، أي أن أية دولة لم تأت بأطراف الصراع وتوقع بينها اتفاقات تهجير قسري كما جرى في سوريا.
كلام مناع يشير إلى تعقيدات أبرز ملفات العدالة الانتقالية على المستوى الشعبي، مضيفاً أن هذا الانتهاك "هو الذي طاول أكبر عدد من السوريين بخلاف الانتهاكات الأخرى، في حين أن الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون لم يضاهيا عدد المهجرين قسراً في سوريا".
وطرح السياسي والمفكر السوري المعروف حل قضية المهجرين قسراً "من خلال تكوين شبكة سورية غير حكومية لطرح الموضوع بصورة شاملة لا تستثني أحداً، ويشمل جميع الأطراف تحت سقف القانون، وبالتعاون مع خبراء دوليين عملوا في مناطق التهجير القسري من "الروهينغا" (قومية عرقية)، إلى رواندا وغيرهما".
توصيات للمعنيين
وسبق هذا المنتدى نشاط مماثل نظمته رابطة "تآزر للضحايا" في الـ17 من أكتوبر الجاري، جمعت فيه عدداً من الناشطين وممثلي عائلات ضحايا الإخفاء والتهجير القسريين لا سيما في المناطق التي شهدت عمليات عسكرية تركية، إضافة إلى المجردين من الجنسية.
وخرج المنتدى بجملة من التوصيات التي رفعت للجهات المعنية المحلية والدولية، واجتمعت حول ضمان العودة الآمنة والطوعية والكريمة للمهجرين لمناطقهم، وأن تتمتع "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" بالولاية على انتهاكات جميع الأطراف من دون استثناء، وتعمل وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتشمل انتهاكات العقود السابقة، وتمكين الضحايا وقيادتهم في صنع القرار، وكذلك معالجة ملف المفقودين والمختفين قسراً، وانعدام الجنسية كاستحقاق في مسار العدالة الانتقالية، وإصلاح مؤسسات الدولة مع اعتماد ضمانات عدم تكرار الانتهاكات التي ارتكبت في حق السوريين من الدولة والجماعات المسلحة، مع الأخذ بالاعتبار العدالة الجندرية في عملية العدالة الانتقالية وحماية النساء، واعتماد برامج واضحة لدعم التوثيق والمناصرة، وانتهاء بتحديد مسؤوليات الجهات الدولية والإقليمية في تقديم ودعم الحماية والمراقبة للمرحلة الانتقالية، مع ضرورة تحييد المساعدات وضمان وصولها إلى جميع الأطراف من دون تمييز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العملية المعكوسة
من جهته قال المدير التنفيذي لـ"منظمة العدالة من أجل الحياة" جلال الحمد إن الحكومة السورية بدأت عملية العدالة الانتقالية بمسار عكسي، "إذ أصدرت المرسوم رقم 20 بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية وحددت اختصاصاتها، بينما كان من المفترض أن تكون النهاية، أي أن تكون الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية نتيجة الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية الذي كان يجب أن يجرى في المحافظات، وتتناول مختلف السياقات السورية، ومنه خلال الإجابة من السوريين عن سؤالين: ما الانتهاكات التي ارتكبت في مناطقكم؟ ما أولويات التدخل اللي تحقق الرضا لكم؟".
وأوضح المدير التنفيذي للمنظمة الحقوقية السورية أنه عادة "تبدأ العدالة الانتقالية من الناس من المستوى القاعدي باتجاه السلطة"، منتقداً توجه السلطات السورية في إحداث هيئة العدالة الانتقالية على أنها استعراض للخارج على إنجاز مهماتها في الانتخابات والعدالة الانتقالية، وتشكيل هيئة المفقودين والإعلان الدستوري، وإظهار أنها حققت كل ما يترتب عليها من التزامات بالنسبة إلى الانتهاكات.
الناس أولى بالقرار
وشدد الحمد على أن النطاق الزمني الذي يغطي فترة العدالة الانتقالية يعتمد على الحوار مع الناس، متسائلاً عما إذا كانت هذه الفترة تشمل فقط سنوات "الثورة"؟ أم تشمل ما تلاها مثلما جرى من أحداث في الساحل السوري والسويداء؟ وكذلك هل تشمل الفترة التي سبقت حكم الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد أو أبيه (الراحل) حافظ الأسد؟ وتابع أن الحوار مع السوريين سيكشف عن أولويات هؤلاء الناس، معتبراً أن ردود فعل المجتمعات المختلفة والتعبير عن عدم رضاها تجاه العدالة الانتقالية "أمر طبيعي"، لا سيما أن السكان بدأوا يشعرون بالغبن تجاه ما يحدث، وذكر أن منظمتهم سجلت، خلال الفترة الماضية، عملية نزوح عكسي من سكان بدير الزور بعدما عادوا لها عقب سقوط النظام، بسبب ما رأوه من تقلد أشخاص ارتكبوا انتهاكات، وكانوا أعضاء في قوى الأمن والميليشيات المرتبطة بالنظام (السابق)، مناصب مهمة في الجيش الجديد، "وإذا لم ير الناس العدالة وتصحيح هذا الاعوجاج فإنهم سينفجرون في نهاية المطاف".
أطروحات مكملة
ويتفق مع هذا الانتقاد المدير التنفيذي لـ"منظمة التعاون الإنمائي" بلند ملا في جزئية النطاق الزمني والمدة التي يشملها عمل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" المحددة بـ14 عاماً، ويراها غير كافية لمعالجة قضايا السوريين، لا سيما أن ملفات عدة يطرحها السوريون تنتظر الإدراج في العهد الجديد للبلاد على أمل أن ينصف ضحاياها ولو بعد عقود من وقوعها "كمفاعيل قانون الطوارئ، واستيلاء الحكومة على أراض وممتلكات السوريين، لا سيما الأكراد في محافظة الحسكة، وضحايا التجريد من الهوية السورية، واعتقال الآلاف من الناشطين بينهم، إضافة إلى قتل المدنيين العزل في ما عرفت بانتفاضة مارس بالقامشلي وغيرها من الملفات".
وعليه يطرح ملا اتخاذ مسارات مكملة للعدالة الانتقالية من خلال السعي إلى بناء توافق وطني، والاتجاه نحو المصالحة الوطنية عبر آليات غير قضائية "بسبب صعوبته في السياق السوري"، وكذلك بمسار غير رسمي (غير حكومي) ويبنى على أسس العمل المدني وخبرة منظمات المجتمع المدني والمحلي لتتبنى الجهات الوطنية مخرجات قابلة للتطبيق، وتكون تحت الرعاية الدولية، مضيفاً "لديهم كمنظمات غير حكومية صلات، وقادرون على جلب الدعم لهذا المسار المكمل لمسار العدالة الانتقالية مع دمشق، لكن الأهم أن يكون الضحايا قادرين على التعبير وعلى التأثير فيه، واعتماد تطبيق آليات غير متماثلة وغير متشابهة في تنفيذ الجبر والتعويض والاعتراف بسبب اختلاف السياقات السورية، فقضايا السويداء تختلف عن الساحل، وكذلك عن تلك التي وقعت قبل سنوات الأزمة".