Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين تصبح المعرفة سلطة: جذور فوز زهران ممداني

تجربته تعد امتداداً لمدرسة فكرية جنوبية دخلت إلى قلب السياسة الأميركية عبر الجيل الثاني من المهاجرين

نشأ ممداني في بيئة علمته كيف تنتج الدولة مواطنيها (أ ف ب)

ملخص

إذا كان الأب يسعى إلى صياغة نموذج نظري لدولة جامعة خارج ثنائية "المستوطن" و"الأصيل"، فإن الابن يسعى إلى صياغة نموذج عملي لمدينة جامعة خارج ثنائية "المهاجر" و"الأميركي". وهذا التقاطع ليس مصادفة، بل هو نتاج بيئة فكرية شكلتها العائلة عبر التفاعل بين المعرفة والتجربة.

يشكل صعود زهران ممداني إلى واجهة السياسة في مدينة نيويورك واحدة من أهم الإشارات على التحول العميق الذي يمر به الجيل الثاني من المهاجرين في الولايات المتحدة، وهو تحول لا يعكس فقط نجاحات فردية، بل يعكس في جوهره نتاج تراكمات معرفية وثقافية تتجاوز التجربة الشخصية وتتماهى مع المناخ الفكري الذي نشأ فيه أبناء مهاجرين ينتمون إلى بيئات متعددة.

في هذا السياق، يصعب فصل مسار زهران السياسي عن البيئة الفكرية التي صنعها والده، المفكر العالمي محمود ممداني، أحد أهم المنظرين الأفارقة في نقد الدولة الحديثة وفهم علاقة السلطة بالهوية. ومع أن الابن يعمل داخل مؤسسات محلية منتخبة والأب يعمل داخل الحقل الأكاديمي، فإن الرابط الذي يجمعهما يتجاوز علاقة الأسرة ليصبح امتداداً لتحول معرفي عميق في فهم السياسة داخل مجتمعات الهجرة.

نشأ زهران الفائز بموقع رئيس بلدية نيويورك في بيئة منزلية لا تعلمه جذور السياسة اليومية في المدن الأميركية فقط، بل علمته كيف تنتج الدولة مواطنيها؟ كيف تصعد جماعات وتستبعد أخرى؟ وكيف يمكن للهوية أن تتحول إلى أداة حكم لا إلى تعبير اجتماعي؟ هذه الأسئلة التي شكلت أساس مشروع والد زهران البروفيسور محمود ممداني الفكري منذ ثمانينيات القرن الماضي، فقد كانت جزءاً من المناخ الثقافي الذي شكل الوعي السياسي للابن. فممداني الأب، الذي ولد في كامبالا بأوغندا لعائلة من أصول آسيوية هندية، عاش تجربة الاضطهاد والترحيل القسري على يد نظام عيدي أمين، وهو ما وضعه باكراً أمام حقيقة الدولة بوصفها قادرة على صناعة الأصيل والغريب وفقاً لمقتضيات السلطة وليس بناءً على الواقع التاريخي، حيث تشكل لديه السؤال المركزي الذي قاده لاحقاً إلى تأليف مجموعة من أهم الكتب في الفكر السياسي العالمي.

ومن بين هذه الكتب يبرز كتابه المواطن والرعية، وهو من أهم المراجع في فهم كيف تنتج الدولة الحديثة أنماطاً مختلفة من المواطنة بين الحضر والريف. وهو الكتاب الذي كشف فيه ممداني عن التناقض البنيوي بين نموذج الدولة الحديثة كما تعرفه أوروبا وبين تشكله العملي في أفريقيا بعد الاستقلال، حيث ظلت الدولة تستمد أدوات الحكم من الموروث الاستعماري، فخلقت مواطنين في المدن ورعايا في الريف.

وفي كتابه "حين يصبح الضحايا قتلة" تناول ممداني مأساة رواندا من زاوية مختلفة تماماً عن السردية الإنسانية التي شاعت بعد عام 1994، مؤكداً أن الهويات ليست ثابتة بل هي بناء سياسي صاغه الاستعمار لتسهيل الإدارة والسيطرة، وأن العنف لم يكن انفجاراً قبلياً، بل تتويجاً لمسار سياسي طويل كرس فصل الهويات بين الهوتو والتوتسي على سبيل المثال.

وفي كتابه "المنقذون والناجون: دارفور" أعاد تفكيك واحدة من أكثر الأزمات تعقيداً في السودان، مؤكداً أن اختزالها في ثنائية عرب مقابل أفارقة يعكس العقل الغربي أكثر مما يعكس الواقع السوداني، وأن فهم الأزمة يتطلب العودة إلى إرث الإدارة البريطانية التي أسست أنظمة حكم محلية قائمة على إثنيات جامدة، وخلقت فوارق لم تكن قائمة قبل الاستعمار.

وقدم أيضاً كتابه المهم "لا مستوطن ولا أصيل: إعادة التفكير في الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي" الذي حاول فيه زعزعة الثنائية التي اختزلت الصراع لقرن كامل، مؤكداً أن الأزمة لا يتم إنتاجها عبر الانحياز لهوية ضد أخرى، بل عبر إعادة بناء نموذج سياسي يقوم على المواطنة الجامعة، بعيداً من التقسيمات العرقية والدينية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه البيئة النظرية التي عاش فيها زهران ليست مجرد كتب تحيط به على الرفوف، بل هي منظومة من التفكير النقدي التي تجعله ينظر إلى مدينته نيويورك ليس بوصفها مساحة خدماتية تحكمها السياسات اليومية، بل بوصفها بنياناً للسلطة ينتج هويات، ويعيد توزيع القوة، ويخلق الفئات الصامتة والفاعلة، والمستبعدة والمندمجة. ومن هنا يصبح السياق الأميركي ليس قطيعة مع عالم الأب، بل امتداداً له، فبينما درس الأب علاقة السلطة بالريف في أفريقيا، وجد الابن نفسه يدرس علاقة السلطة بالأحياء المهمشة في المدينة الأميركية. وبينما فكك الأب علاقة الاستعمار بالهوية، فكك الابن علاقة الهجرة بالانتماء. وبينما ركز الأب على إنتاج الهويات العرقية في السودان ورواندا، انشغل الابن بكيفية إنتاج الهويات السكنية والطبقية في نيويورك، من مناطق توصف بأنها خطرة إلى أحياء يفترض أنها نموذجية.

هذا الترابط بين المعرفي والسياسي هو ما جعل فوز زهران برئاسة بلدية نيويورك حدثاً عابراً للقارات. ليس لأن الابن نقل حرفياً أفكار أبيه، بل لأن تجربته تعد امتداداً لمدرسة فكرية جنوبية دخلت إلى قلب السياسة الأميركية عبر الجيل الثاني من المهاجرين. فبينما كان الجيل الأول منشغلاً أحياناً بتثبيت وجوده الاقتصادي والاجتماعي، جاء الجيل الثاني حاملاً ثقة معرفية أعلى، ولغة مزدوجة قادرة على قراءة المجتمع الأميركي من الداخل، وفي الوقت نفسه إدراك البنية العالمية للعنف والتمييز.

 لقد تشكل خطاب زهران داخل هذه الثنائية: الحضور المحلي والفهم العالمي. لذلك، حين يتحدث عن الإسكان في نيويورك، لا يتعامل معه كملف تنموي فحسب، بل كملف سلطة يعيد إنتاج اللامساواة. وعندما ينتقد موازنات الشرطة، لا يفعل ذلك بوصفه سياسياً تقدمياً بالمعنى الأميركي، بل بوصفه استمراراً لمنهج فكري يرى أن الدولة لا تختزل في مؤسساتها، بل في كيفية إدارة هذه المؤسسات للجماعات داخل المجتمع.

التأثير المباشر يظهر أيضاً في طريقة تعامل زهران مع مسألة الهجرة. ففي حين عاشت الأجيال السابقة من المهاجرين داخل خطاب الاندماج الدفاعي، جاء زهران ليقلب الصورة، مؤكداً أن المدينة ليست فضاء ثابتاً يفرض شروطه على القادمين، بل فضاء يتجدد بالمهاجرين، وأن الهويات المتعددة لا تشكل عبئاً بل ثروة سياسية واقتصادية، هذا الخطاب يتم إنتاجه من إرث الأب الذي رفض الحتميات الإثنية والثقافية في أفريقيا. وأكد أن الجماعات تتغير وفقاً لآليات السلطة وليس وفقاً لتصورات جوهرية. من هنا، فإن رؤية الابن للهجرة ليست تعاطفاً، بل قراءة بنيوية لواقع المدينة: الهجرة ليست مشكلة بل مورد، والأحياء المهاجرة ليست نهايات بل بدايات لتمدد المدينة.

وعلى مستوى العلاقة مع الدولة، يظهر تأثير ممداني الأب أكثر وضوحاً. ففي كتابه "المواطن والرعية"، شرح كيف أن الدولة الحديثة في أفريقيا صنعت مواطنة طبقية قائمة على الفصل بين الحضر والريف. أما زهران، فقد تعامل مع مدينة نيويورك بوصفها تنتج نموذجاً مشابهاً، حيث تتحول بعض الأحياء إلى "مواطنين" يتمتعون بجميع الخدمات، بينما تتحول أحياء أخرى إلى "رعايا" تتلقى الحد الأدنى من الرعاية وتخضع لرقابة أشد. وهنا يصبح مشروعه السياسي محاولة لنقل الفئات المهمشة من خانة الرعية إلى خانة المواطن الفعلي. ولذلك فإن برنامجه للإسكان العام، والحماية الاجتماعية، وإصلاح الشرطة، وإنصاف المهاجرين، ليس مجرد أجندة محلية، بل هو إعادة صياغة للعلاقة بين الدولة والمدينة، بين السلطة والخدمات، بين المواطنة والمكان.

ومع ذلك، فإن المقارنة بين الأب والابن تكشف اختلافات جوهرية. فالأب يعمل في مجال إنتاج المعرفة، حيث تتخذ الأفكار شكل مشاريع نظرية كبرى، بينما الابن يعمل داخل مؤسسة الحكم المحلي، حيث تتحول الأفكار إلى سياسات محددة. الأب ينطلق من النقد العميق للإرث الاستعماري، بينما الابن ينطلق من نقد بنية اللامساواة في المدينة. الأب يقرأ التجربة الأفريقية من منظور تاريخي طويل، بينما الابن يقرأ التجربة الأميركية من منظور اجتماعي مباشر. ومع ذلك، فإن كليهما يلتقيان في السؤال الأساسي: كيف يمكن بناء دولة/ مدينة لا تقصي، بل تحتضن الاختلاف؟ وكيف يمكن تحويل الهوية من أداة للصراع إلى أداة للتفاهم؟

وإذا كان الأب يسعى إلى صياغة نموذج نظري لدولة جامعة خارج ثنائية "المستوطن" و"الأصيل"، فإن الابن يسعى إلى صياغة نموذج عملي لمدينة جامعة خارج ثنائية "المهاجر" و"الأميركي". وهذا التقاطع ليس مصادفة، بل هو نتاج بيئة فكرية شكلتها العائلة عبر التفاعل بين المعرفة والتجربة. فوجود والدته، المخرجة العالمية ميرا ناير، أضاف بعداً ثقافياً آخر لتكوين زهران، حيث نشأ داخل بيت يجمع الفكر والسياسة والفنون، ما يجعل فهمه للهوية أقرب إلى التجربة الإنسانية منها إلى التجربة القانونية.

لقد أظهر الجيل الثاني من المهاجرين الذين ينتمون لعائلات ذات خلفيات أكاديمية وفكرية أن السياسة الأميركية ليست حكراً على النخب التقليدية، وأن الرؤي القادمة من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط قادرة على إعادة توجيه النقاش حول العدالة والمساواة وبنية الدولة. ومن هنا يصبح تأثير محمود ممداني على ابنه ليس تأثيراً عائلياً، بل تأثيراً معرفياً يربط بين عالمين: عالم الدولة ما بعد الاستعمار في أفريقيا، وعالم المدينة ما بعد التعددية في أميركا.

وحين ننظر إلى صعود زهران من هذه الزاوية، ندرك أن القضية ليست صعود سياسي فردي، بل هي انتقال للمعرفة من الجنوب إلى الشمال، وانتقال لخبرة العنف والتمييز والاستبعاد إلى قلب النقاش السياسي الأميركي، حيث تصبح تجربة أفريقيا جزءاً من فهم المدينة الأميركية، وتصبح تجربة المهاجرين جزءاً من إعادة تعريف الديمقراطية. هكذا، يصبح الأب والابن نموذجاً لجسر معرفي جديد، لا يعبر عبر الاقتصاد فحسب، بل عبر إنتاج المعنى السياسي، وإعادة صياغة أسئلة الدولة والهوية والمواطنة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل