Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان بين بولس وروبيو... تناقضات السياسة الأميركية

التباين الصارخ بين مسار الرجلين يعكس غياب رؤية استراتيجية واضحة أو في الأقل غياب القدرة على تنفيذ هذه الرؤية بصورة متسقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يستمع إلى وزير الخارجية ماركو روبيو (رويترز)

ملخص

إن ما نشهده اليوم في السياسة الأميركية تجاه السودان ليس مجرد تناقضات عابرة، بل أزمة في صنع القرار وفي التنسيق داخل الإدارة، والتباين الصارخ بين مسار بولس ومسار روبيو يعكس غياب رؤية استراتيجية واضحة، أو في الأقل غياب القدرة على تنفيذ هذه الرؤية بصورة متسقة.

تكشف الأزمة السودانية عن إحدى أكثر حالات التناقض تعقيداً في السياسة الخارجية الأميركية منذ عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ففي وقت يفترض أن تتحرك الإدارة الأميركية في خط واحد متسق لإنهاء حرب استمرت أكثر من عامين، وأسفرت عن كارثة إنسانية هائلة، تبرز تناقضات صارخة بين تصريحات مبعوث الرئيس ترمب إلى الشرق الأوسط مسعد بولس، ومواقف وزير الخارجية ماركو روبيو، في ظاهرة تعكس غياب التنسيق الداخلي، وربما تضارب الأجندات داخل الإدارة الأميركية الجديدة.

وهذا التناقض ليس مجرد خلاف بيروقراطي عابر، بل يمثل انعكاساً لصراع أعمق حول الأولويات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة وحول دور الحلفاء الإقليميين في رسم السياسة الأميركية تجاه الأزمات العربية، فضلاً عن أنه يطرح تساؤلات جدية حول صدقية الوساطة الأميركية ومدى قدرتها على تحقيق سلام مستدام في السودان.

ولفهم حجم التناقض في الموقف الأميركي، يجب أن نبدأ من نقطة التحوّل الحاسمة، أي سقوط مدينة الفاشر في يد قوات "الدعم السريع" في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. فقبل هذا الحدث، كانت تصريحات مسعد بولس تحمل نبرة واضحة في إدانة انتهاكات قوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وكان بولس يشير مباشرة إلى الفظائع التي ترتكبها هذه القوات، ويستخدم خطاباً يوحي بموقف أميركي حاسم ضدها.

لكن، بعد سقوط الفاشر تغير خطاب بولس بصورة لافتة، وبدأت كلمة "التقسيم" ومخاوف تفتيت السودان تتصدران تصريحاته، بينما تراجعت حدة إدانته جرائم "الدعم السريع". وهذا التحوّل في اللهجة تزامن مع توقيت حساس، إذ كانت وفود التفاوض السرية غير المباشرة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" تجري في واشنطن، مما أثار شكوكاً حول طبيعة الاتفاقات التي كان بولس يسعى إليها.

والأكثر إثارة للقلق كان التركيز المتزايد من بولس على "الإسلاميين" داخل الجيش السوداني وعلى اتهامات باستخدام أسلحة كيماوية من قِبل الحكومة السودانية، وهذا التحول في الخطاب أثار تساؤلات حول ما إذا كان بولس يسعى إلى خلق توازن أخلاقي زائف بين طرفي الصراع، أو أنه كان يمهّد الطريق لتسوية سياسية تعكس واقعاً جديداً على الأرض يفرض تقاسم السلطة بين الجيش و"الدعم السريع".

وفي أعقاب سقوط الفاشر، تصاعد إصرار بولس على هدنة إنسانية فورية. ظاهرياً، يبدو هذا الموقف إنسانياً ومبرراً في ظل المأساة المستمرة، لكن التوقيت أثار شكوكاً عميقة لدى القيادة السودانية وحلفائها الإقليميين. فالهدنة في تلك اللحظة بالذات كانت ستعني من الناحية العملية تجميد الوضع على الأرض لمصلحة قوات "الدعم السريع" التي كانت حققت مكاسب عسكرية كبيرة.

وتعمق هذا القلق عندما أدلى "حميدتي" بتصريحات علنية ضمن فيديو كشف فيه عن خططه لتفكيك الجيش السوداني والأجهزة الأمنية وإنشاء جيش جديد، وهي لغة لم تكُن مستعملة، إذ إن الأدبيات الإقليمية والعالمية تتحدث عن تكوين جيش مهني واحتكار استعمال السلاح عبر إدماج المنشقين طبقاً لمناهج الأمم المتحدة المعروفة.

في هذا السياق، بدأت الدول الإقليمية تتحرك، وشهدت الفترة التالية لسقوط الفاشر دعماً عسكرياً ولوجستياً واستخباراتياً متزايداً من أطراف عربية للجيش السوداني، والأهم أن هذا الدعم جرى بعلم وموافقة ضمنية من الإدارة الأميركية، مما يطرح تساؤلات حول التناقض بين ما كان بولس يقوله علناً وما كانت المؤسسة الأمنية الأميركية تفعله خلف الكواليس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وشكل تواصل القائد العام للجيش السوداني عبدالفتاح البرهان مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان نقطة تحول حقيقية في الموقف الأميركي الرسمي، إذ صدرت بعده مباشرة تصريحات حاسمة من وزير الخارجية ماركو روبيو، بخاصة بعد لقائه نظيره السعودي في كندا، أظهرت موقفاً أميركياً مختلفاً تماماً عما كان بولس يطرحه.

وتصريحات روبيو كانت أكثر حسماً وأكثر وضوحاً في تحديد المسؤوليات، وبدت منفصلة تماماً عن مسار بولس، وهذا الانفصال أصبح أكثر وضوحاً عندما أعلن ترمب نفسه خلال زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن أنه سيبدأ التدخل في الملف السوداني من أجل ولي العهد واستخدم ترمب الصياغة نفسها التي استخدمها سابقاً في شأن سوريا، حيث تعهد رعاية الملف السوري استجابة لطلبات الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رغم معارضة كثير من الأطراف المعنية.

وهذا النمط من التدخل الرئاسي المباشر، المدفوع بالعلاقات الشخصية مع القادة الإقليميين أكثر من البيروقراطية التقليدية لوزارة الخارجية، يعكس أسلوب ترمب المميز في السياسة الخارجية، لكنه يثير أيضاً تساؤلات عن دور مبعوثه الخاص ومدى التنسيق بين المسارات المختلفة.

في هذا السياق شهدنا حملة إعلامية متصاعدة في وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية تستهدف سمعة بعض داعمي قوات "الدعم السريع"، إذ نشرت صحف مثل "وول ستريت جورنال" و"تايمز أوف إسرائيل" سلسلة من المقالات التي تسلط الضوء على الانتهاكات الإنسانية المرتبطة بالمساندة الخارجية لـ"الدعم السريع".

وفي الوقت نفسه، كان التركيز المستمر من بولس على "الإسلاميين" واتهامات استخدام الأسلحة الكيماوية يبدو وكأنه محاولة لخلق توازن سردي يسمح للإدارة الأميركية بالقول إن "الطرفين مسؤولان"، مما يوفر غطاء لأية تسوية تفاوضية مستقبلية لا تحاسب قوات "الدعم السريع" بالكامل على جرائمها.

أمّا المسمار الأخير في نعش مسار بولس، فجاء خلال تصريحات روبيو الأخيرة، إذ أعلن بوضوح أن "ترمب لا يعتمد على من ينوب عنه في إيقاف الحروب". وهذا التصريح، الصادر في حضور بولس نفسه من دون أن يعترض الأخير، يمثل تبرؤاً علنياً من مسار المبعوث الخاص.

والأكثر دلالة أن ترمب نفسه صرح علناً بأنه "لم يكُن يعرف ما يحصل في السودان"، لكنه "الآن عرف وقرر التدخل"، مما يطرح تساؤلات مربكة، كيف يمكن لرئيس ألا يعرف ما يفعله مبعوثه الخاص في ملف بهذه الأهمية؟ هل كان بولس يعمل بتفويض كامل ثم فقد ثقة الرئيس؟ أم أنه كان يتحرك بأجندة مستقلة لم تكُن متوافقة مع رؤية البيت الأبيض؟

تقارير إعلامية أميركية كشفت عن امتعاض كبار مسؤولي وزارة الخارجية من أسلوب بولس، إذ وصفوه بأنه "لا يستشيرهم ولا يطلعهم على تحركاته"، وأن هناك "تعتيماً كاملاً" على نشاطاته، ليس فقط في السودان بل في كامل مناطق تكليفه الوظيفي، وهذا الأسلوب الانفرادي قد يفسر جزءاً من الفوضى، لكنه لا يفسر لماذا سمح له بالاستمرار لفترة طويلة إذا كان فعلاً يتحرك خارج الإطار المؤسسي.

الخلاصة، إن ما نشهده اليوم في السياسة الأميركية تجاه السودان ليس مجرد تناقضات عابرة، بل أزمة في صنع القرار وفي التنسيق داخل الإدارة، والتباين الصارخ بين مسار بولس ومسار روبيو يعكس غياب رؤية استراتيجية واضحة، أو في الأقل غياب القدرة على تنفيذ هذه الرؤية بصورة متسقة.

والتصريحات الأخيرة تشير إلى أن واشنطن قد تتجه نحو مسار ثالث يختلف عما كان بولس يسعى إليه وسيكون على الأرجح أكثر تنسيقاً مع الحلفاء الإقليميين، بخاصة السعودية ومصر، وأكثر حسماً في موقفه من قوات "الدعم السريع". لكن السؤال الأهم هل سيأتي هذا التحول في الوقت المناسب؟ وهل سيكون مصحوباً بخطوات عملية فاعلة، أم سيظل مجرد تصريحات إعلامية؟

الأزمة السودانية لا تحتمل مزيداً من التجارب والأخطاء، فالشعب السوداني دفع ثمناً باهظاً بالفعل، وأي تردد إضافي أو تناقض في السياسة الأميركية قد يؤدي إلى كارثة إنسانية أكبر، وإلى تفتيت نهائي لدولة كانت يوماً ركيزة استقرار في شرق أفريقيا.

والتحدي أمام إدارة ترمب الآن واضح، إمَا توحيد الصفوف وتبني سياسة واضحة ومتسقة تدعم الحل السياسي العادل وتحاسب مرتكبي الجرائم، أو الاستمرار في الفوضى المؤسسية التي لن تؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وإطالة أمد المعاناة. والخيار الأول يتطلب شجاعة وحسماً، والخيار الثاني يعني ببساطة أن واشنطن فقدت بوصلتها في المنطقة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل