ملخص
لكن المنطقة التي كان الكبار يختصرون الصراع فيها، وخصوصاً على المسرح العربي، بثلاث قوى هي تركيا وإيران وإسرائيل، لم تعد حكراً على هؤلاء، ولا أميركا هي اللاعب الدولي الوحيد، فالدور العربي عاد إلى اللاعب الذي كان قاطرة العمل العربي في الستينيات والسبعينيات، والممثل بالسعودية ومصر وسوريا، والدور الروسي ليس غائباً حتى في سوريا التي حارب فيها لمصلحة النظام السابق، والدور الصيني يكمل مساره بهدوء في معظم بلدان المنطقة، من إيران وتركيا وإسرائيل إلى البلدان العربية.
لا حدود لما يفاجئ به الرئيس دونالد ترمب أميركا والعالم وحتى مساعديه، وليس التوجه لتصنيف فروع "الإخوان المسلمين" في خانة "المنظمة الإرهابية" سوى نقلة كبيرة في السياسة الأميركية. فالعلاقة بين واشنطن وحركة "الإخوان" قديمة ومستمرة، لا فقط من باب وزارة الخارجية بل أيضاً من أبواب "البنتاغون" والاستخبارات المركزية والنشاطات الاقتصادية والمالية، وقد بدت حاجة ملحة أيام الحرب الباردة والصراع الأميركي- السوفياتي، لا سيما خلال القتال ضد السوفيات في أفغانستان، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي والبحث عن "عدو بديل" عنوانه حركات الإسلام السياسي، فإن واشنطن رأت زيادة في حاجتها إلى دور "الإخوان المسلمين" الأقل تشدداً من الحركات المتطرفة التي خرجت من عباءتهم.
كذلك الأمر حين بدت المنطقة العربية جاهزة للتغيير في بدايات حراك قاد إلى ثورات ما سمي "الربيع العربي"، كانت إدارة الرئيس باراك أوباما قد بدأت العمل على أجندة "المحور"، أي التوجه من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، حيث الثروة والقوة والصراع مع الصين وروسيا التي وصفها أوباما بأنها مجرد "قوة إقليمية"، وهي رأت في ثورات الربيع العربي فرصة تلوح أمامها لترتيب نظام أمني إقليمي في الشرق الأوسط يسمح لها بالتفرغ لصراعات الشرق الأقصى، وكان الحل هو رعاية التوازن بين قوتين إقليميتين: واحدة يمكن أن يمثلها "الإخوان المسلمون" في مصر وتونس وسوريا وليبيا بقيادة تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان، وأخرى يمثلها الحراك الشيعي بقيادة إيران التي أعطيت عام 2015 الاتفاق النووي ورفع العقوبات، أما إسرائيل فإن أوباما تصور أنه من الممكن إقناعها بالاكتفاء بتسوية مع الفلسطينيين وسوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن السيناريو جاء بصورة أخرى على رغم الدعم الأميركي "للإخوان المسلمين"، فالإسلام السياسي المتشدد سطا على الثورات وقاد إلى "التطرف والتطيف" بحيث انتهى الأمر إلى ثورات معاكسة في بلدان، وإلى فوضى وبقاء الأنظمة في بلدان أخرى.
مصر ثارت على "الإخوان" الذين سطوا على ثورة يناير (كانون الأول) وأسقطت حکمهم لمصلحة الجيش والشعب، وتونس أجبرت حركة "النهضة" برعاية راشد الغنوشي على المشاركة في السلطة، أما سوريا فدافعت روسيا وإیران عن نظامها الذي انهار في النهاية أمام فصائل سلفية.
وهكذا صار "الإخوان المسلمون" في "خانة الإرهاب" في مصر والسعودية والإمارات والأردن وسواهم، حتى سوريا الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع طالبت "الإخوان" بحل أنفسهم، وهم ردوا بإعلان برنامج سياسي بالغ المرونة يستخدم تعابير "الشراكة الوطنية والديمقراطية".
ولم تقصر إيران في العمل مباشرة ومن خلال أذرعها المسلحة في اليمن والعراق ولبنان وغزة، وقبل ذلك في سوريا، على التمهيد لنظام أمني ضد أميركا وأصدقائها العرب وحليفها الإسرائيلي.
بعد "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وحروب غزة ولبنان وإيران، ودخول الحوثيين على خط المواجهة وضبط الحشد الشعبي العراقي، تغيّرت اللعبة. ترمب تولى القيادة بدءاً من وقف النار في غزة ولبنان ضمن خطة مركبة لسلام شامل في الشرق الأوسط، سلام لا دور "للإخوان المسلمين" فيه، ولا مكان لأذرع إیران وطموحاتها النووية والصاروخية ومشروعها الإقليمي.
لكن مشكلة هذا السلام هي رفض إسرائيل ربط غزة بالضفة الغربية تحت السلطة الوطنية الفلسطينية بعد إصلاحها وتجديدها، واستمرار احتلالها لأراضٍ في الجنوب اللبناني، واندفاعها للسيطرة على المنطقة العازلة في الجولان بموجب اتفاق فك الارتباط عام 1974.
والمشكلة المقابلة هي طموحات تركيا وأردوغان بالذات لما يتجاوز النفوذ في سوريا وليبيا والعراق ولبنان، ومن ثم التنافس الشديد بين تركيا وإسرائيل من دون الانزلاق إلى صدام عسکري ممنوع لأن ترکیا عضو في "الناتو"، فضلاً عن مشكلة الإنكار الإيراني للهزيمة والسعي إلى تقوية وكلاء طهران وتسليحهم وتمويلهم للقيام بمهمة مستحيلة هي إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لكن المنطقة التي كان الكبار يختصرون الصراع فيها، وخصوصاً على المسرح العربي، بثلاث قوى هي تركيا وإيران وإسرائيل، لم تعد حكراً على هؤلاء، ولا أميركا هي اللاعب الدولي الوحيد، فالدور العربي عاد إلى اللاعب الذي كان قاطرة العمل العربي في الستينيات والسبعينيات، والممثل بالسعودية ومصر وسوريا.
والدور الروسي ليس غائباً حتى في سوريا التي حارب فيها لمصلحة النظام السابق، والدور الصيني يكمل مساره بهدوء في معظم بلدان المنطقة، من إيران وتركيا وإسرائيل إلى البلدان العربية.
والكل يتخوف من إغضاب ترمب بعد تحذير أميرکا العالم كله من القيام بشيء يغضب ترمب الذي لا أحد يعرف كيف يرد، فهو قد رد على أفغاني يعيش في أميركا وعمل في بلاده مع الاستخبارات المركزية خلال الاحتلال الأميركي ثم أطلق النار على اثنين من "الحرس الوطني" في واشنطن بإغلاق أميركا أمام کل دول العام الثالث، والمثل العربي يقول "اتقوا غضب الحليم"، فكيف بغضب من يسخر من الحكماء؟
والغضب في النهاية يقود إلى سياسة تختلف عن سياسة الغضب، وكم كان البروفسور جوزف ناي على حق عندما حذر من أن "إغلاق حدود أميركا يمكن أن يغلق عقولها".