Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نهاية كذبة الشرق الروحي والغرب المادي

المسافة بينهما لم تعد بعيدة فبينهما أقل من رمشة عين أو لحظ انتظار فيديو على "تيك توك"

يتحرك خلق كثير في كل الاتجاهات ومن دون توقف من الفجر إلى الفجر (أ ف ب)

ملخص

نسي الغرب بودلير ومالارميه ورينيه شار ولويس أراغون وإليوت، ونسي الشرق الخيام وبشار بن برد ونزار قباني وأحمد شوقي. هو مرض فقدان الذاكرة الشعرية يصيب الشرق كما الغرب، كارثة ثقافية مشتركة. حين يحن هذا العالم الهجين إلى الشعر يكتب شعراؤه أو ما بقي منهم قصيدة "الهايكو"، سكن الهايكو كل اللغات، العربية والإنجليزية والأمازيغية والفرنسية والإسبانية والألمانية والصينية.

ماذا بقي في الشرق من شرقي روحي يدهش الغرب، وماذا بقي في الغرب المادي من غربي يثير الشرق؟ انهارت الحدود، وسقطت آخر القلاع أمام زحف التاريخ وجنون البشر والطبيعة، وأصبحت السماء مفتوحة من حدود بلاد مطلع الشمس إلى آخر حدود بلاد مغربها، أضحت تشبه طريقاً سياراً خالياً من الممهلات أو من إشارات التوقف، كل شيء في حياة الفرد والجماعة هنا أو هناك أضحى متشابهاً أو يكاد. عالم هجين انمحت فيه كل صور الغرابة أو الدهشة أو الاستفهام أو الفضول التي كانت تسكن إحساس الفرد كلما سافر نحو هذا الجانب أو ذاك.

سكن الشرق في الغرب، واستوطن الغرب الشرق. لم تعد الشمس تشرق من الشرق ولا هي تغرب في الغرب، لقد أضحى العالم على ساعة واحدة، مستيقظاً أو نائماً في الوقت نفسه، أضحى شاشة مسطحة، صغيرة لا تتجاوز حجم كف اليد.

اللغات التي كانت بكل لكناتها الجميلة، وبكل نحوها وصرفها وبديعها وكناياتها، والتي طالما كانت بيتاً هوياتياً لتميز الشرق والغرب، وترمومتراً لجس المسافات الحضارية بين الأنا والآخر، هذه اللغات فقدت سحرها وتحولت إلى آلة، لم تعد حاجزاً بين الشرقي والغربي، يكفي أن تنقر على زر فتفهم ما يُقال وحتى ما لا يُقال.

الغموض "اللامفسر" والسحري الذي عمر طويلاً، والذي كان يمنح الشرق سحره والغرب خصوصياته ها هو اختفى أو يكاد.

ينام الإنسان على سرير في الشرق غارقاً في قلق الغرب، وينام على سرير في الغرب ممدداً في أحلام الشرق.

المسافة ما بين أبعد نقطة في الشرق وأبعدها في الغرب لم تعد بعيدة أبداً، بينهما أقل من رمشة عين من الزمن، لحظ انتظار فيديو على منصة "تيك توك"، أقصى العالم تصل إليه بين فنجان قهوة وآخر في طائرة تشبه الصالون بهاتفها وشاشاتها ومكيفاتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تشابهت الأسواق في كل شيء، فما أنت قادر على التمييز بينها، هل أنت بسوق في الرياض أم في فرنسيسكو أم برلين أم موسكو أم جوهانسبورغ؟ السلع نفسها والعملة نفسها والسعر نفسه والتعليب نفسه وشكل العرض نفسه. لا شرقية ولا غربية.

البنوك ذاتها، وبطاقات البنوك هي هي.  

تسابقت الأبراج في التحليق نحو السماء وكأنما جميعهاً تحاول أن تلامس القمر في دبي وطوكيو وسنغافورة وهونغ كونغ وتايوان. ما عاد الواحد منا يعرف أين هو جالس، في ساحة هذه المدينة التي كانت شرقية، أم داخل المقهى هذه التي كانت غربية.

القهوة نفسها. المطارات الضخمة المتهافتة، حيث يتحرك خلق في كل الاتجاهات ومن دون توقف من الفجر إلى الفجر، تربض بها طائرات قادمة من كل أنحاء العالم، هذه تستعد للهبوط وأخرى للإقلاع، يحدث هذا بدقة متناهية، هذا المنظر يومي في الشرق كما في الغرب، لا فارق.

السماء عادت واحدة كما الأرض.

تمشي في شوارع باريس أو لندن أو دبي أو الرياض أو تجلس في مقاهيها أو مطاعمها فتلقاك وجوه بسحنات مختلفة أفريقية وآسيوية وأوروبية، النساء والرجال، سمراء وشقراء وحنطية وصفراء، حزينة أو فرحة أو خجولة أو حيرى أو من دون ملامح، فلا تدري بأي أرض أنت حل أو راحل؟

النساء المحجبات اللاتي كن علامة الشرق أصبح حضورهن في الغرب عادياً جداً، ونساء بلباس كان لباس المرأة في الغرب أصبح منتشراً في الشرق، الموضة نفسها، والعطر نفسه، والأحذية بالكعب العالي أو الأحذية الرياضية الرجالية والنسائية هي ذاتها، العدسات اللاصقة الطبية والتجميلية زرعت الأزرق في العيون والأسود كذلك واللوزي.

أين هي حدود الشرق، وأين هي حدود الغرب، من لون العيون إلى رائحة الطعام؟

ما عدنا في حاجة إلى بوصلة، كل الاتجاهات تؤدي إلى كل الاتجاهات نفسها.

المساجد تتكاثر في بلاد الغرب، الشرق يصلي، ترتفع المآذن عالية كثيراً أو أقل علواً، وقد تسكن حتى في الأقبية، يسمع بها صوت الأذان بكل الإيقاعات كل يوم، خمس مرات في اليوم، أذان الفجر الذي كان يثير انتباهاً ما في الزمن الماضي بالنسبة إلى الإنسان الغربي، ما عاد كذلك اليوم. لقد اقترب الشرق كثيراً حتى أصبح أقرب من علو مئذنة وأفصح من أذان.

الموسيقى الشرقية ما عادت تثير الأذن الغربية، لقد أصبحت أمراً يومياً، وتجارة رابحة، وما عادت الموسيقى الغربية غريبة على الشرقي، يدندنها في القطار وخلف مقود السيارة، وترددها المرأة في المطبخ أو في الحمام، نجوم الفن شرقية كانت أم غربية أصبحت تصنعها المخابر نفسها، مخابر المال العابر للقارات، هذه النجوم حاضرة بقاعات غاصة بل ملاعب في الشرق كما في الغرب، الجمهور يردد هذه الأغنية أو تلك باللهفة ذاتها في الشرق كما في الغرب.

المطاعم ذاتها، البيتزا سيدة الطاولة في كل مكان، فن المائدة الشرقية كما الغربية أضحى ثقافة سائدة في كل مكان، كما فن الرواية الذي أصبح سوقاً ومشاعاً وهاجساً كونياً، في الشرق كما في الغرب يتسابق الجميع لكتابة الرواية، في الشرق كما في الغرب نسي الجميع الشعر، أصبح يتيماً في باريس عاصمة الآداب، كما في العراق بلد المتنبي، أو في الجزيرة العربية بلاد القوافي والمعلقات.

نسي الغرب بودلير ومالارميه ورينيه شار ولويس أراغون وإليوت، ونسي الشرق الخيام وبشار بن برد ونزار قباني وأحمد شوقي. هو مرض فقدان الذاكرة الشعرية يصيب الشرق كما الغرب، كارثة ثقافية مشتركة. حين يحن هذا العالم الهجين إلى الشعر يكتب شعراؤه أو ما بقي منهم قصيدة "الهايكو"، سكن الهايكو كل اللغات، العربية والإنجليزية والأمازيغية والفرنسية والإسبانية والألمانية والصينية.

المتاحف نفسها، بالمعروضات نفسها، وعلى الطريقة نفسها، وتحت اللمبات نفسها، متاحف الغرب تعرض حضارة الشرق الغامض الذي لم يعد غامضاً، واللوفر بكل غرابته التي لم تعد فيه أية غرابة يستقر هنيئاً في صحراء الخليج، الذوق تهجن كالجمال والقطط وشجرة التفاح والنخيل، غادرت الجمال وسع الصحارى وسكنت الإسطبلات المنظمة والمكيفة في الشرق والغرب، محميات طبيعية بحيوانات قادمة من أقصى الشرق والجنوب، والتي انقرضت في بلدانها أو تكاد، حيوانات بأطباء وممرضات ورقابة صارمة، مثل البشر تماماً، ها هي الحيوانات هي الأخرى اختلطت عليها الجغرافيا ونظام الأكل والشمس والمطر، من حال الصيد إلى حال الوجبة المدروسة.

إلى زمن قريب كان الغرب بلاد الأمطار والثلوج ومواسم التزلج، وكان الشرق مميزاً بشمسه وقيظه وقيلولة أهله، اليوم زحف القيظ إلى باريس فيموت الناس من الحرارة وينصب الناس المكيفات، والشمس اللافحة تسطع في عز الشتاء على جبال الألب، فتبكي الجبال حيث تتعرى ظهورها من الغطاء الأبيض، كل شيء أضحى ممكناً وهجيناً.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء