ملخص
من الكتب الصادرة حديثاً في بيروت كتاب الأكاديمي والناقد الأدبي الراحل غسان زيادة (1957-2019) بعنوان "الغرب في الرواية العربية" (منتدى المعارف، 2025)، وهو عمل يضم مجموعة من المقالات والدراسات النقدية، قدم لها الباحث أحمد زين الدين.
يمثل الكتاب حصيلة جهد في البحث عن صورة الغرب في المتن الروائي العربي، وهو موضوع شغل حيزاً مهماً من اهتمامات النقاد والمفكرين العرب منذ بدايات النهضة الحديثة.
تطرح مقالات زيادة قضية علاقة الشرق بالغرب باعتبارها علاقة مركبة، تتجاوز كونها مجرد تماس بين جغرافيتين إلى كونها التقاء بين منظومتين حضاريتين وثقافيتين. فالشرق العربي نظر إلى الغرب تارة بإعجاب وانبهار، وتارة أخرى بارتياب وقلق، وربما بالرفض والصدام. وهذه العلاقة، كما يوضح زيادة، لم تكن مسألة نظرية أو سياسية وحسب، بل تجسدت في النصوص الإبداعية التي نقلت تجربة المثقف العربي حين وجد نفسه في الغرب، إما طالباً للعلم أو مهاجراً أو مسافراً عابراً.
ومنذ حملة نابليون على مصر عام 1798 برزت هذه الإشكالية بقوة، لتصبح مع مرور الوقت محوراً فكرياً وأدبياً. فقد رأى مفكرو النهضة في الغرب صورة للتقدم الذي يراد استيعابه أو استلحاقه، لكنهم في الوقت نفسه واجهوا مأزق التوفيق بين هذا الانفتاح والمحافظة على الهوية والأصالة. ووجدت هذه المعضلة انعكاسها في الروايات العربية التي تناولت العلاقة بالغرب، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حين أخذت التجارب الفردية للكتاب والطلاب العرب في الغرب تكتسب بعداً جماعياً يعكس هموم أمة بأكملها.
ولئن قدم كثرٌ قراءات في عدد من هذه النصوص، فوقفوا مثلاً عند رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس التي روت تجربة شاب عربي في باريس، يعيش الغربة الثقافية والنفسية ويواجه التناقض بين بيئته الأصلية وواقع الحياة الأوروبية، أو عند رواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" التي صاغت بمهارة صورة شاب يافع يفتتن بباريس، لكنه يظل ممزقاً بين تقاليد الشرق وإغراءات الغرب، ورواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" التي تبنّت نموذج الصدام المباشر من خلال شخصية مصطفى سعيد الذي جسد صراع الهوية وأثر الاستعمار وتبعات الاندماج القسري، فإن ميزة دراسات زيادة تكمن في انفتاحه على نصوص لم تحظَ بالاهتمام النقدي الكافي، فهو يتناول مثلاً كتاب "خالد" لأمين الريحاني الذي يرى فيه ريادة روائية بفضل استخدامه تقنية تعدد الأصوات، مما أتاح بحسبه تقديم وجهات نظر متباينة أضفت عمقاً على السرد. ويركز غسان زيادة على أن الريحاني كان من أوائل الروائيين الذين تمثلوا روح الشرق والغرب معاً، إذ كتب بالإنجليزية لكنه ظل مشدوداً إلى جذوره العربية، فجاءت رواياته ثمرة مثاقفة حقيقية.
كذلك يقف عند رواية "أديب" لطه حسين التي عكست بعضاً من سيرة مؤلفها والتي تروي حكاية شاب مولع بالأدب، مثقل بظلمة العمى، يقع في حب إحدى قريباته، غير أن خطبته لها تنتهي بمأساة حين تقدم الفتاة على محاولة انتحار، فيقوده القدر إلى الزواج بفتاة أخرى. لكن منحة دراسية إلى باريس تشترط فيها العزوبية تقلب حياته رأساً على عقب، فيطلق زوجته مضحياً بها في سبيل البعثة، إلخ.
ويحلل زيادة بنية هذه الرواية المتأثرة برأيه بالأدب الفرنسي، لكنه يتوقف خصوصاً عند الصدمة الحضارية التي عاشها بطل الرواية حين انتقل إلى باريس، فقد قادته هذه الصدمة إلى تمزق داخلي عميق، وصل إلى حد الانفصام، نتيجة تناقض الحب والخيانة والانتماء والخلاص الفردي. أما في قراءته لرواية "عصفور من الشرق" التي تدور أحداثها قبيل الحرب العالمية الثانية والتي تروي سفر شاب يدعى محسن إلى فرنسا من أجل دراسة الحقوق والآداب الذي ينبهر بباريس مدينة الفن والحب والجمال، فيعرض عن الدراسة، متردداً على المسارح ودور العرض، عاقداً صداقات وعلاقات عاطفية أبرزت الصدام بين الشرق والغرب من حيث العادات والتقاليد وطريقة التفكير وتقدير قيمة الوقت، متخيلاً أوروبا كشابة شقراء فاتنة نتجت من تزاوج قارتي أفريقيا وآسيا، ولكن تلك الشابة لعوب غريرة تبنت نظريات أدت إلى قيام حضارات على أنقاض وأشلاء حضارات أخرى...، فيبرز زيادة دور المكان الروائي، أي باريس، بوصفه فضاء لتجربة الانبهار والخيبة معاً، إذ تتحول المدينة إلى رمز للحضارة الغربية وما تنطوي عليه من إغراءات وتناقضات.
ويمضي الناقد في دراساته ليقف عند "قسمة الغرباء" ليوسف القعيد التي عرضت واقع الحياة المصرية في ظل صعود الأصولية المتطرفة وأثرها على النسيج الاجتماعي، ولا سيما الأقباط، محللاً تقنية السرد عبر أصوات متعددة ومتداخلة، بما يعكس التبدلات العميقة في المجتمع. كما خص روايات نجيب محفوظ باهتمام خاص، مبرزاً كيف صورت القاهرة القديمة بتفاصيلها التاريخية والاجتماعية، ثم كيف واجهت القاهرة الجديدة، المشيدة على الطراز الأوروبي، هذا الميراث الثقيل. وضمن هذه القراءة يتجلى دور المدينة المصرية كمجال للتفاعل بين المحلي والعالمي.
المكان شاهداً
أما في "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، فرأى زيادة أن المكان، أي العمارة، أصبح بحد ذاته شاهداً على التحولات الاجتماعية والعمرانية والثقافية في القاهرة، رابطاً هذه التجربة بتقاليد الرواية الغربية، بخاصة روايات إميل زولا التي عالجت مسألة التغيرات الاجتماعية من خلال فضاءات عمرانية محددة.
ويتوسع زيادة في تحليله ليشمل رواية "مطر حزيران" لجبور الدويهي، فيطل الغرب من خلال بطل الرواية العائد من أميركا في محاولة لفهم ماضيه والبحث عن حقيقة مقتل والده. وهنا يوضح الناقد كيف أن صورة الغرب لا تقتصر على المضمون، بل تمتد إلى أنواع السرد وأساليبه، إذ تظهر في تقنيات الكتابة ذاتها المستعارة من الرواية الغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي القسم الأخير من الكتاب، يقدم زيادة دراستين مميزتين، الأولى مقارنة بين جان بول سارتر وألبير كامو، يبرز خلاله ميله إلى كامو لارتباطه العضوي بالجزائر وتجذره في أرضها، خلافاً لسارتر الأكثر تجريداً. والدراسة الثانية تحليل لرواية "فقاعة تيبولو" للكاتب الفرنسي فيليب دولارم، فيدرس المكان كعنصر محوري في بناء السرد الروائي، مؤكداً دوره في تشكيل الشخصيات والأحداث.
إن القيمة الحقيقية لهذا الكتاب الذي نشر كعربون وفاء وتحية لذكرى غسان زيادة تكمن في أنه لا يكتفي بإعادة قراءة النصوص المشهورة التي تناولت علاقة الشرق بالغرب، بل سعى إلى فتح آفاق جديدة في النقد الأدبي العربي من خلال تناول روايات جديدة وربطه بين المضمون والشكل، وبين المواضيع والقوالب الفنية وبين المحلي والعالمي. وعبر ذلك يقدم غسان زيادة إسهاماً علمياً يسد فراغاً في الدراسات الأدبية، ويفتح أمام القارئ والباحث إمكانات جديدة لفهم صورة "الغرب" في المخيال الروائي العربي.
ويقع الكتاب في 111 صفحة، لكنه على قصره يقدم مادة للطلبة الجامعيين والباحثين والمهتمين، إذ يعرض صورة الغرب لا كمفهوم ثابت، بل كمرآة تعكس تطور الرواية العربية وتبدلات الوعي الثقافي العربي.