ملخص
لقد فقدت الجزائر رجلاً أنيقاً في شكله وهندامه ولغته وفكره، وقد تختلف مع الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي لكنك لن تجد فيه عدواً أبداً، وقد كان معجباً بشخصيتين مثقفتين هما جان عمروش وفرانتز فانون، ولا يتوقف عن الحديث عنهما وعما قدماه للثورة الجزائرية وللفكر والأدب في الجزائر وشمال أفريقيا.
ودّعت البلاد الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وهو واحد من الشخصيات المميزة في تاريخ النخب الجزائرية الحديثة والمعاصرة، فهو كاتب وإعلامي وسياسي ورجل دولة، عاش على مدى أكثر من سبعة عقود من النضال والمسؤولية خلال فترة الاستعمار كما في فترة الدولة الوطنية المستقلة، وفي هذه المسيرة الطويلة وعلى رغم شوكها وياسمينها لم يتنازل أحمد طالب الإبراهيمي عن خصلة واحدة من خصالها المتعددة، مراوحاً ما بين المثقف والسياسي ورجل الدولة.
تقلد الإبراهيمي مناصب عليا في هرم السلطة، من وزارة التربية الوطنية إلى وزارة الإعلام والثقافة ووزارة الخارجية، ثم مستشاراً خاصاً للرئيس الشاذلي بن جديد، إلا أنه وعلى رغم تقلبه في المناصب كان دائماً محسوباً على قبيلة المثقفين أولاً، فهو في ذلك شبيه بمصطفى الأشرف ورضا مالك ومحمد الميلي وعبدالمجيد مزيان، حتى وإن اختلفوا في توجهاتهم وقناعاتهم السياسية لكنهم جميعاً كانوا في خدمة بناء الدولة الوطنية.
كان أحمد طالب الإبراهيمي صاحب أفكار مصدرها خارج علبة السُلطة من دون أن يكون معارضاً، وإذا كان يحترم خط النظام وهو يمارس مهمته كوزير إلا أن هذا لم يمنعه من التعبير عن كثير من آرائه التي تجد مكانها خارج خط السلطة، وكان من الكتاب والمثقفين الذين شاركوا في تأسيس "اتحاد الكتاب الجزائريين".
تعرفتُ إلى الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي عندما كنت مديراً عاماً للمكتبة الوطنية الجزائرية بين عامي 2003 و2008، بعد أن اطلعت على كثير من كتابته وبخاصة كتابيه "رسائل من السجن 1957-1961" و "من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية 1962-1972"، إضافة إلى كثير من مقالاته في "مجلة الثقافة الجزائرية" وغيرها، فخلال هذه الفترة سمحت لي اللقاءات التي كانت بيننا أن أكتشف فيه أولاً وقبل كل شيء القارئ النهم لكتب التاريخ والأدب والتراث واللسانيات، وأشهد بأنه كان من المسؤولين السامين القلائل الذي لا يتوقف عن طلب الكتب والوثائق والدوريات بطريقة مستمرة، بخاصة خلال الفترة التي كان يحرر فيها مذكراته التي صدرت في أربعة مجلدات باللغة الفرنسية وتُرجمت إلى اللغة العربية بإشرافه، وأذكر أنني في هذه الفترة كلفتُ أحد إطارات المكتبة الوطنية وهو السيد بوزيد خليلي بمتابعة طلبات الدكتور الإبراهيمي وتوصيل الوثائق إلى بيته، بخاصة الصحف القديمة التي كان يشتغل عليها.
ومن بين أرصدة المكتبة الوطنية التي قلّبها ودرسها "الرصيد المغاربي"، وهو واحد من الأرصدة الثمينة في هذه المؤسسة والذي يشمل جميع الصحف والمنشورات التي تعود للفترة الاستعمارية، ويعد كنزاً ثميناً في قراءة تاريخ بلادنا على مدى قرن ونصف القرن تقريباً، وكان الدكتور الإبراهيمي مهتماً كثيراً بهذا الرصيد لما يحويه من أجوبة عن كثير من الأسئلة التي تطرحها مذكراته.
حين تجلس إلى الدكتور طالب الإبراهيمي تشعر بأنك في حضرة مثقف قبل السياسي، أديب أو مفكر قبل رجل الدولة، فلغته العربية الفصيحة أو الفرنسية الدقيقة تنتمي إلى خطاب المثقفين من الأدباء والفلاسفة والمؤرخين، خطاب نظيف من دون بكاء أو ندم أو قدح أو نميمة، كما هي حال خطابات السياسيين بمجرد أن يغادروا مناصبهم، وكان مترفعاً عن الحسابات الضيقة ومتنزهاً عن خطاب الكراهية، رجل بأخلاق عالية وبقلب صاف من الأحقاد حتى تجاه أكبر خصومه السياسيين.
ونظراً إلى تردده على المكتبة الوطنية واحترامه طاقمها الجاد وطريقة تسييرها، فقد جاءني يوماً قائلاً "إنني أفكر في أن أهدي مكتبتي الخاصة إلى المكتبة الوطنية"، وكانت سعادتي كبيرة وأنا أسمع مثل هذا الحديث من مثقف ورجل دولة وازن، واقترحت عليه كتابة رسالة إلى مصالح رئاسة الجمهورية لطرح الفكرة عليها، فالتبرع بمكتبة الإبراهيمي للمكتبة الوطنية ليست مسألة بسيطة، إذ إنها رمز وجزء من ذاكرة الأمة، وبالفعل جرى الاتصال برئاسة الجمهورية وتمت الموافقة على الهدية، وعلى إثرها شكلت فريقاً من المكتبيين للعمل على نقل المكتبة بحسب الطرق العلمية، وفريقاً آخر كلفته بتصنيفها وترتيبها ليسهل استغلالها من قبل الباحثين، ومن جهته كلف الدكتور الإبراهيمي المرحوم محمد سعيد الذي أصبح لاحقاً وزيراً للاتصال، وكان بمثابة مستشاره ومساعده، بمتابعة تجسيد هذا المشروع، وبعد فترة من العمل اليومي المنهجي والمستمر والذي دام أربعة أشهر، أكملنا عملية النقل والتصنيف وإدخال جميع المعلومات المتصلة بالرصيد إلى قاعدة بيانات المكتبة الوطنية، وكان الـ 10 من أكتوبر (تشرين الأول) 2006 تاريخ افتتاح الجناح بعد تجهيزه بالحواسيب والأثاث اللازم وأجهزة التأمين والرقابة، وأطلقنا عليه اسم "خزانة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي"، وخصصنا لها الطابق الرابع، وهو جناح موجه للباحثين نظراً إلى أهمية الوثائق التي تتشكل منها هذه الخزانة.
وخلال حفل الافتتاح الذي حضره الدكتور الإبراهيمي ورئيس الحكومة آنذاك عبدالعزيز بلخادم وحشد كبير من المثقفين والأدباء والإعلاميين، أذكر أنني قلت في كلمة الافتتاح التي كتبتها في شكل رسالة موجهة إلى الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي إن "هذا الشبل من ذاك الأسد"، وكنت أقصد علاقة الابن الدكتور أحمد بأبيه الشيخ البشير الإبراهيمي، آخر رئيس لـ "جمعية العلماء المسلمين" التاريخية، وهو الأديب ذو الأسلوب المميز نثراً وشعراً.
إن المطلع على رصيد خزانة أحمد طالب الإبراهيمي التي وضعت تحت تصرف الباحثين في المكتبة الوطنية، ومن خلال نوعية الكتب التي تحويها والتي تجمع ما بين الشعر والرواية والتراث والتاريخ وعلم النفس وكتب الفن التشكيلي والدوريات العالمية الكبرى الأكاديمية والعالمة، بالعربية وبالفرنسية، ومن خلال كثير من الإهداءات الموجودة على الصفحات الأولى لكثير من الكتب التي كان يتلقاها من أصحابها مباشرة، يمكننا أن نرسم بورتريه لأحمد طالب الإبراهيمي المثقف والسياسي والإنسان، لأن المكتبة الخاصة هي في نهاية الأمر مرآة لصاحبها، ويمكننا القول إن رصيد هذه المكتبة من خلال تنوعها يكشف عن مثقف ليبرالي بحس إسلامي، لكنه يتمتع بكثير من هوامش حرية التفكير والاستقلال في الرأي، ويعد رصيد خزانة الإبراهيمي في "المكتبة الوطنية"، إضافة إلى رصيد الشاعر جان سيناك والشيخ بيوض وعبداللطيف سلطاني، من أهم ما تفتخر به هذه المؤسسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بهذا العقل المتفتح والليبيرالي كتب الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في سبعينيات القرن الماضي مقدمة لأول مجموعة شعرية للكاتبة أحلام مستغانمي عنوانها "على مرفأ الأيام"، ووقتها كانت مستغانمي كاتبة ناشئة ومتمردة، وفي المقدمة يشجع الإبراهيمي الشاعرة على الاستمرار في مغامرة الكتابة والقراءة ويغمرها بكثير المدح والرعاية البعيدة من الأبوة والمؤمنة بقيم التحرر والتجدد، وفيها يبدو مراهناً على صوت الكاتبة المرأة في تغيير البلاد نحو الأحسن.
كان أحمد طالب الإبراهيمي يقرأ بالفرنسية والعربية ويتابع بكثير من العناية ما يُنشر في الجزائر من كتب الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، وفي كثير من الجلسات التي جمعتني به كان ، يستمع أكثر مما يتكلم، ويعقب بأدب في حال الاختلاف وفي حال الاعتراض، ولا يقول رأياً من دون أن يترك مسافة لمراجعته ومسافة لمحاوره لنقده، وكان ضد سياج الدوغمائية.
وجدتُ في شخصية أحمد طالب الإبراهيمي المثقف والسياسي المستعد لمراجعة رأيه إذا ما وجد من يقنعه، أو وجد في الأحداث ما يغير رأيه، فحين كان وزيراً للتربية الوطنية وقف ضد تدريس اللغة الأمازيغية، ولكنه خلال الأعوام الأخيرة حين أدرك بأن هذا الموقف غير متجانس مع تاريخ الجزائر وشخصيتها، تراجع عن ذلك واعترف بالخطأ وأعلنه بوضوح في وسائل الإعلام العربية والدولية، وحين نقرأ مذكرات الإبراهيمي، وهي في أربعة مجلدات، نشعر وكأننا أمام مشرحة الطبيب في الكتابة، فهو يدقق كل صغيرة وكبيرة، وحين لا يكون واثقاً من أمر أو قضية يتركها أو يجعلها بصيغة الاحتمال، وأذكر من القضايا التي كان يرددها في أحاديثه معنا أن جيله قد خاض حرباً تحريرية وانتصر فيها، وكان جيلاً يؤمن بأن الانتصار في الحروب العسكرية مسألة ليست صعبة حين تتوافر الإرادة والرؤية والإيمان بالقضية، وبعد الاستقلال خاض جيله والجيل الذي بعده معركة توفير الخبز والصحة والمدرسة والسقف، وهي مسألة معقدة ولكنها ليست مستحيلة أيضاً حين تتوافر النزاهة والوطنية والإمكانات المادية، وهذه كلها ليست معدومة في بلادنا، وقد جرى تحقيق ذلك على مراحل لا تزال مستمرة إلى اليوم، ولم يعد هناك جزائري يجوع أو يمشي حافياً أو لا يجد مقعداً للدراسة أو عيادة لمراجعة طبيب، على رغم كل النقائص التي يمكن إحصاؤها، وكان يقول إن المعركة الباقية اليوم هي معركة الثقافة، وهي أصعب المعارك التي لا يمكن أن نخوضها بنجاح إلا إذا كانت النخب الوطنية مؤمنة بالتغيير والتنوع والتسامح والاستماع إلى بعضها بعضاً.
لقد فقدت الجزائر رجلاً أنيقاً في شكله وهندامه ولغته وفكره، وقد تختلف مع الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي لكنك لن تجد فيه عدواً أبداً، فقد كان معجباً بشخصيتين مثقفتين وهما جان عمروش وفرانتز فانون، ولا يتوقف عن الحديث عنهما وعما قدماه للثورة الجزائرية وللفكر والأدب في الجزائر وشمال أفريقيا، ولم يغادر الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الجزائر حتى في أحلك الظروف التي مرت بها البلاد والظروف التي عاشها بصورة شخصية، وكل ذلك لأنه كان يمارس السياسة بأخلاق وينظر إلى المختلفين معه كخصوم سياسيين لا أعداء.