ملخص
حاول سوريون ترجمة لغة الجسد للقاء الذي جمع لافروف بالشيباني قبل أن يتوصلوا إلى صورة عامة تتمثل في رؤية ندية دبلوماسية في اللقاء لا تبعية اعتادوها خلال حكم "سوريا الأسد".
تصافحت أخيراً وللمرة الأولى تلك الأيادي المتحاربة، وعلى طرفي طاولة بيضاء في قاعة فاخرة داخل مقر وزارة الخارجية بموسكو، مطبخ صناعة القرار السياسي الروسي، التقت العيون المتخاصمة لعقد من زمن. زيارة هي الأولى من نوعها لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني رفقة وفد رفيع المستوى ضم الأمين العام للرئاسة ماهر الشرع يلتقي خلالها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
زيارة تبدو في غاية الأهمية لترتيب الأوراق الدبلوماسية بين بلدين بقيت لغة التحالف سائدة بينهما عقوداً طويلة، لكن الأمر لم يعد عليه بعد سقوط نظام بشار الأسد ولجوئه إلى موسكو. ففي حين فتحت أبواب الكرملين لـ"أبو عائشة" وهو لقب الوزير الشيباني منذ بدء رحلة كفاحه السياسي والعسكري ضمن قوات المعارضة السورية مع اندلاع حراك إسقاط حكم الأسد.
صفحة جديدة "بيضاء"
صدقت إذاً أكثر المقولات شهرة في عالم السياسية "عدو اليوم، قد يكون صديق الغد"، لا عداء ولا صداقة في المطلق، إلا أن لغة الجسد في الاجتماعات قالت ما قالته واختزلت خطابات "لهفة" الدبلوماسية الروسية للحفاظ على أرض سوريا وإطلالتها البحرية على المتوسط، وإن كان بدعوة الرئيس أحمد الشرع للمشاركة في القمة الروسية-العربية المقرر عقدها في موسكو خلال الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
حاول سوريون ترجمة لغة الجسد للقاء الذي جمع لافروف والشيباني قبل أن يتوصلوا إلى صورة عامة تتمثل في رؤية ندية دبلوماسية في اللقاء، لا تبعية اعتادوها خلال حكم "سوريا الأسد". ولم يخف وزير الخارجية السوري عمل بلاده على إعادة تقييم شامل لجميع الاتفاقات السابقة التي وقعتها موسكو مع نظام الأسد، في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وهذه المراجعة هدفها صياغة مستقبل العلاقات المستقبلية بين البلدين.
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فأبدى من جانبه احترام بلاده لخيارات الشعب السوري، واستعداد موسكو للتعاون مع القيادة الجديدة في دمشق، بل وطالب برفع العقوبات عنها.
قواعد ابتزاز أم لعبة؟
في حديثه إلى "اندبندنت عربية" يقول مدير مركز "جي أس أم" الدكتور آصف ملحم إن الحكومة السورية الحالية فهمت أنه لا يمكن التعويل دوماً على الولايات المتحدة والدول الغربية بصورة نهائية، على رغم الأحاديث الخاصة عن رفع العقوبات عن سوريا وما شابه لكنه ظل في دائرة "الدعم كلامي".
ويرصد ملحم تحولاً ملحوظاً في المواقف المتشنجة بين القيادتين، وإظهار بعض المرونة من جانب الروس، في حين تحاول دمشق ابتزاز موسكو من باب مساعدتها لنظام الأسد. وتابع "أرادت الحكومة الجديدة القول لولا مساعدتكم لسقط الأسد منذ زمن بعيد، فبدأت تطالب القيادة الروسية بتقديم تعويضات وتسليم الأسد".
وتعتقد السلطات السورية الجدية أن القواعد العسكرية الموجودة في سوريا تمثل حاجة روسية ملحة ونقطة في تاريخ موسكو، ولكن الأمر ليس بهذه الطريقة، صحيح أن هناك حاجة روسية ولكنها ليست ملحة لهذه الدرجة المتوقعة".
ويعد مدير المركز الروسي أنه في السياسية كل موقف له ثمن معين، وروسيا معنية ببقاء قواعدها في سوريا وتريد لها البقاء، والإبقاء على علاقات جيدة معها وهي علاقات جيدة حتى قبل حكم الأسد.
وأوضح أنه "بكل الأحوال ليست القواعد مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى موسكو. ولو تأملنا الشواطئ السورية على سبيل المثال، فالمدخل الوحيد بالنسبة إلى الروس إلى البحر المتوسط عبر البحر الأسود أو عبر مضيق جبل طارق أو قناة السويس، وهذه الممرات محكومة باتفاقات معينة، ولذلك بدأت روسيا تحديداً تنويع أماكن وجودها العسكري خوفاً من أية تطورات داخل أية منطقة، محاولة بناء قواعد عسكرية في السودان وليبيا وإريتريا، وكل هذا لأنها تدرك أن هذه الدول التي تقيم فيها قواعد قد تتعرض لتغيرات سياسية معينة يكون من الصعب الإبقاء على قواعدها".
وكانت موسكو بدأت خلال أكتوبر 2011 استخدام حق النقض (فيتو)، بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن، حول مشاريع قرارات ترعاها دول غربية تطالب بتنحي الرئيس السوري السابق بشار الأسد، واستمر هذا التصويت مراراً خلال الحرب السورية التي امتدت حتى الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، بينما التدخل العسكري بدأ خلال سبتمبر (أيلول) 2015، واعترفت القوات الروسية حينها باستهدافها تنظيم "داعش" وجماعات معارضة منها "جبهة النصرة"، التي صنفتها إرهابية وهي الفرع السوري لتنظيم "القاعدة".
ومع هذا كشفت تقارير عن زيادة نسبة الحوادث التي ألحقت أضراراً بالمدنيين بسبب القصف الروسي ولا سيما داخل الشمال السوري، مما أدى إلى نزوح ملايين إلى مخيمات قرب تركيا أو على الحدود، في حين فقدت موسكو خلال أكتوبر 2016 مقعدها داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وامتدت العلاقات الروسية-السورية منذ حقبة حكم الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان أول الأنظمة التي اعترفت باستقلال سوريا مع إقامة علاقات دبلوماسية وتحالف استراتيجي، بلغ ذروته مع وصول حافظ الأسد الحكم في سوريا (منذ عام 1970 حتى عام 2000).
العلاقات الاقتصادية
وامتداداً لكا هذا تحاول موسكو الحفاظ على دمشق، وعدت اللقاء شكل بداية مرحلة جديدة من التنسيق ليس على المستوى السياسي والعسكري فحسب، بل أبدى الكرملين استعداده تقديم مساعدة شاملة لإعادة إعمار سوريا وضمان استقرارها.
ويرى مراقبون أن هذا اللقاء يأتي في إطار المكاشفة وفتح صفحة بيضاء بعد صفحة مليئة بالدماء، على رغم كل الاستياء من قبل السوريين الذين يجدون روسيا صاحبة تاريخ أسود معهم بعد القصف الذي قضى على المدنيين، وأتى على دمار ما زال شاهداً في القرى والبلدات المترامية الأطراف، وقد يكون إعمارها مجدداً من الطرف الروسي تعويضاً لما دمره، ومن جهة ثانية العودة إلى المياه الدافئة بقوة عبر الاستثمار والنظر في كثير من الاتفاقات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، يؤكد الدكتور آصف ملحم أن العقود الموقعة بين سوريا وروسيا للاستثمار في مجالات الفوسفات والنفط والغاز والاستثمار في ميناء طرطوس، كلها ألغيت قبل سقوط النظام بفترة طويلة، والشركات الروسية التي كانت شريكة ضمن هذه العقود تنازلت وباعت حصصها للشركات السورية التي كانت معها، ولذلك الزيارة تأتي في سياق إعادة النظر بهذه الاتفاقات والعقود.
وإلى ذلك، روسيا عضو دائم داخل مجلس الأمن ولها حضور فاعل في الساحة الدولية لا يستهان به وثاني أكبر قوة في العالم، وهذا ما يراه ملحم أمراً مهماً، فرأيها يؤخذ به ولا بد من المحافظة على علاقة معها وهذا بلا شك ينفع سوريا.
من جانب آخر، تحاول دمشق المبالغة بقولها إن روسيا في حاجة إلى سوريا وهذا غير صحيح وفق رأيه، مرجعاً ذلك إلى أن مساحة سوريا كلها لا تتجاوز مساحة موسكو وريفها، وتستطيع إن اضطرت روسيا ورأت الثمن الذي ستدفعه مقابل البقاء في هذه المنطقة أكبر من الفائدة التي تحصل عليها التخلي عن هذه القواعد في النهاية.