ملخص
ذكرت مصادر سياسية أن واشنطن مارست ضغوطاً أربكت حسابات الفصائل، وأعاقت اختيار "مرشح قابل للسيطرة" لرئاسة الحكومة. الخطاب الأميركي أصبح مباشراً، وتحالف السلاح والسياسة في بغداد يواجه لحظة الحقيقة.
تتراكم الإشارات الأميركية في الأسابيع الأخيرة لتؤكد أن العلاقة بين بغداد وواشنطن تدخل مرحلة إعادة صياغة شاملة، فيما يجد "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية"، الحليف الأبرز لإيران، نفسه أمام اختبار سياسي غير مسبوق يسبق إعلان مرشحه لمنصب رئيس الوزراء في مرحلة ما بعد حكومة محمد شياع السوداني، المنتهية ولايته، في انتظار ما ستسفر عنه مفاوضات الإطار حول خليفته المحتمل في ظل المتغيرات الكبيرة التي تشهدها المنطقة.
رسائل سافايا… خريطة طريق أميركية مشددة
وفي أحدث تصريحاته، وضع المبعوث الأميركي مارك سافايا معالم رؤية بلاده بوضوح، إذ أشار إلى ضرورة أن يكون العراق "قادراً على لعب دور أكبر وأكثر تأثيراً في المنطقة، شرط إنهاء ملف السلاح خارج الدولة، وترسيخ استقلال السلطات"، فضلاً على تركيزه على ملف منع تداخل "السلطة غير الرسمية" مع القرار السياسي.
وشدد سافايا على أن أي اقتصاد لا يمكن أن ينمو في ظل "تزاوج السياسة والسلاح"، محذراً من أن العراق يقف عند مفترق طرق حاسم، "إما الذهاب نحو دولة مؤسسات قادرة على فرض القانون وجذب الاستثمارات، أو الانزلاق مجدداً نحو الفوضى التي أنهكت البلاد لسنوات طويلة".
وتقرأ مواقف سافايا في بغداد باعتبارها أعلى مستوى من الضغط السياسي العلني منذ سنوات، بالتزامن مع اقتراب موعد تشكيل حكومة جديدة.
— Mark Savaya (@Mark_Savaya) November 13, 2025
ترمب يدخل المشهد
وتضيف تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخيرة في شأن العراق طبقة جديدة من التعقيد، خصوصاً حين قال إنه تفاجأ بترشيح السوداني له لنيل جائزة نوبل للسلام، مؤكداً أن الخطوة لم تكن متوقعة من العراق.
ولم يخف ترمب رسالته السياسية حين اعتبر أن العراق أصبح "أكثر قرباً" لواشنطن بعد الضربات الأميركية الأخيرة ضد المنشآت النووية الإيرانية، لافتاً إلى أن إيران كانت "متنمرة" على العراق، وأن العمليات الأميركية أعادت رسم ميزان القوى.
وتأتي تصريحات ترمب تلك بعد أيام قليلة على تغريدة مبعوثه سافايا، وهو ما عده سياسيون ومراقبون دخولاً مباشراً على خط محادثات تشكيل الحكومة العراقية المقبلة.
هذه الرسائل لا تعد تقليدية، بل تقرأ في بغداد على أنها أعلى مستوى من الضغط السياسي العلني منذ سنوات، خصوصاً مع اقتراب موعد تشكيل الحكومة الجديدة.
في السياق، أفادت مصادر سياسية رفيعة "اندبندنت عربية" بأن قادة الإطار قرأوا تصريحات الرئيس الأميركي باعتبارها "دعماً مباشراً لبقاء محمد شياع السوداني"، وهو ما زاد من تعقيد مشهد تشكيل الحكومة. وأشارت المصادر إلى أن الخلافات داخل "الإطار التنسيقي" حول الأشخاص ما تزال معقدة، خصوصاً أن القوى الكبيرة خارج تحالف السوداني تحاول اختيار شخصية "يمكن السيطرة عليها" من "الإطار التنسيقي". وتابع المصدر أن التصريحات الأميركية الأخيرة "عقدت مهمة قوى الإطار في تعيين شخصيات يمكن السيطرة عليها للمنصب"، مبيناً أن غالبية قادة الإطار "لا يرغبون في استفزاز واشنطن خصوصاً خلال الفترة الحالية". وأكدت المصادر أن ما يتسرب من كواليس الإطار يشير إلى أن "سافايا يدعم ترشح السوداني لدورة جديدة، وأنه يعمل على إقناع الإدارة الأميركية بالضغط لتحقيق ذلك"، وهو ما يثير حرجاً وانقساماً داخل الإطار نفسه.
وترى المصادر أن إعلان نوري المالكي ترشيح نفسه "ليس سوى محاولة لإغلاق باب التجديد للسوداني، والذهاب إلى مرشح توافقي جديد".
زيارة توم باراك… وملف "حزب الله"
في خضم هذه التحركات، جاءت زيارة المبعوث الأميركي توم براك إلى بغداد لتفتح الباب أمام ملفات حساسة لم تناقش علناً، أبرزها النشاطات المالية المرتبطة بـ"حزب الله" داخل العراق، والحاجة إلى ضبطها منعاً لتحولها إلى نقطة صدام جديدة بين بغداد وواشنطن.
وبحسب مصادر سياسية مطلعة، طرح براك فكرة "إعادة هيكلة" نفوذ الفصائل المسلحة داخل العراق بدل تفكيكها، على أن يحصر نشاطها داخل الحدود العراقية، ويمنع أي امتداد إقليمي يهدد المصالح الأميركية.
في السياق، يرى الباحث والأكاديمي عقيل عباس أن المنطق الأميركي "ما يزال ثابتاً ومتناسقاً في ما يتعلق بأولوية تفكيك الفصائل المسلحة في العراق"، فالتصريحات التي صدرت سابقاً عن وزير الخارجية ماركو روبيو بصورة صريحة، وتصريحات المبعوث الأميركي مارك سافايا، تؤكد أن هذا الملف يمثل محوراً رئيساً في الرؤية الأميركية تجاه العراق".
ولعل السؤال الأهم، بحسب عباس، هو ما يتعلق بمدى امتلاك الولايات المتحدة "سياسة واضحة، أو خطوات ضغط ملموسة، لإجبار الحكومة العراقية الجديدة على الشروع في تفكيك الفصائل"، مبيناً أنه حتى الآن "لا توجد أي مؤشرات على وجود تحركات أميركية عملية، تشير إلى أن واشنطن انتقلت من مرحلة الكلام إلى مرحلة الفعل في هذا الملف"، وأوضح عباس أن "مجيء توم براك إلى العراق ليس بالضرورة جزءاً من عملية منسقة مسبقاً، بل جاء في إطار رد سريع على قرار إسرائيلي بإنهاء الوجود العسكري لـ’حزب الله‘ في لبنان".
ويتوقع عباس أن واشنطن "تدخلت بصورة تطوعية لإرسال تحذير واضح للفصائل العراقية، خشية انخراطها في أي رد محتمل لصالح ’حزب الله‘ في لبنان"، مبيناً أن "مشاركة الفصائل، مع وجود قوات أميركية على الأراضي العراقية، قد تدفع واشنطن إلى رد عسكري، وهو ما لا ترغب الإدارة الأميركية في الوصول إليه".
وفي شأن ملف الفصائل في العراق، يشير عباس إلى أن "واشنطن تنتظر تشكيل الحكومة الجديدة لتعرض عليها مطالبها بصورة مباشرة، وفي مقدمها تفكيك الفصائل، غير أن رد بغداد على هذه المطالب غير معروف، خصوصاً ما إذا كانت ستستجيب بالكامل أم تقدم صيغة وسطية، مثل نزع الأسلحة الثقيلة والإبقاء على الأسلحة الخفيفة أو اختيار المماطلة".
وتابع أن الرد الأميركي في حال عدم تحقيق المطالب من بغداد "غير معروف"، مبيناً أنه "لا توجد دلائل على استراتيجية أميركية واضحة حتى الآن بهذا الخصوص، وأن المرحلة المقبلة محكومة بقدر كبير من الغموض، سواء في ما يتعلق بالموقف الأميركي أو بطريقة تفاعل بغداد معه".
السوداني… ولاية منتهية وخيارات الإطار
داخلياً يدرك "الإطار التنسيقي" أن السوداني يقترب من نهاية ولايته، وأن بقاءه في المنصب ليس مضموناً، ليس فقط لأسباب انتخابية، بل بسبب تعقيدات موازين القوى داخل الإطار نفسه، الذي بدأ منذ أسابيع جولة مشاورات موسعة لطرح أسماء بديلة لرئاسة الحكومة المقبلة.
ولعل السؤال المركزي داخل اجتماعات "الإطار" خلال الفترة الأخيرة هو ما يرتبط بانعكاس التصريحات الأميركية على هوية المرشح الجديد، وما إذا كانت ستدخل بصورة أكثر وضوحاً في عملية اختيار المرشحين.
فالإطار، بوصفه الحليف الأكبر لإيران الذي يضم معظم الفصائل المسلحة، يدرك أن اختيار شخصية "تصادمية" مع واشنطن قد يفتح الباب أمام أزمة سياسية ومالية خانقة، خصوصاً في ظل ملفات شديدة الحساسية مثل التحويلات المالية والعقوبات على مصارف عدة وما يرتبط بالتعاون الأمني وشبكة العقود النفطية. ويبدو أن جملة العوامل تلك تجعل المعادلة أمام قوى "الإطار التنسيقي" ضيقة إلى الحد الأقصى، إذ إنه من جهة لا يريد خسارة دعم إيران، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع تجاهل الإشارة الأميركية الواضحة بأن أية حكومة مقبلة ستكون تحت اختبار ملف السلاح والنفوذ الموازي للدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعادة رسم القواعد
بين رسائل سافايا، وتصريحات ترمب، وتحركات براك، وقرب نهاية ولاية السوداني، يبدو أن العراق مقبل على إعادة رسم كامل لقواعد العلاقة بين الدولة والفصائل، وبين بغداد وواشنطن، وبين "الإطار" وإيران.
في السياق، يقول أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر إن ما صدر من مواقف أميركية خلال الأيام الماضية "ليس جديداً في جوهره"، فقد سبقته تصريحات مشابهة لوزيري الدفاع والخارجية الأميركيين، وكلها تدور في الفلك ذاته، وتتعلق بـ"النفوذ المتنامي للفصائل المسلحة وخطورة ازدواجية السلاح والسياسة داخل الدولة العراقية".
ولعل اللافت هذه المرة، بحسب العنبر، هو مستوى الصراحة، فالخطاب الأميركي "بات مباشراً وواضحاً، بلا رسائل مبطنة"، مما يعكس "انتقال واشنطن من مرحلة التنبيه إلى مرحلة الإبلاغ الصريح بحجم التعقيد الذي يهدد الدولة". ويضيف أن القوى السياسية العراقية نفسها "أدركت هذا التحول في النبرة الأميركية"، مما يجعل الملف أكثر جدية، خصوصاً في ظل الترتيبات الجارية لما يسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وهي ترتيبات "تقصي تماماً معادلة الجمع بين السلاح والعمل السياسي التي تحاول بغداد، أو بعض قواها، إبقاءها حية".
أما في شأن خيارات الإطار التنسيقي في اختيار رئيس الوزراء المقبل، فيرى العنبر أن المشهد "أكثر تعقيداً مما يروج"، فبعض قوى "الإطار" تبحث فعلاً عن مخرج لأزماتها مع الإدارة الأميركية الحالية.
وفي تقييمه لمشهد السلاح المنفلت، يشير العنبر إلى أن القوى السياسية العراقية "تحاول تسخيف وجود السلاح عبر الادعاء بأنه تحت سلطة الدولة"، مبيناً أن "هذه المعادلة المغلوطة في فهم وجود السلاح تمثل العقبة المركزية أمام التفكير بأي حل جذري للمشكلة".
نزع سلاح الفصائل... موقف أميركي نهائي
في المقابل، يرى أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن المواقف الأميركية الأخيرة "لا يمكن قراءتها على أنها مجرد تصريحات عابرة"، بل تمثل "موقفاً نهائياً وواضحاً من إدارة ترمب تجاه شكل العلاقة المقبلة مع بغداد".
ويضيف أن واشنطن، ضمن رؤيتها لإعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط، "لا تريد للعراق أن يكون عائقاً أمام هذه التحولات"، لكنها في الوقت ذاته "لا تسعى إلى إسقاط النظام أو استبداله، بل إلى الإبقاء على شكله الحالي مع فرض تنفيذ المطالب الأميركية المرتبطة بملف السلاح والفصائل".
ويتابع أن واشنطن "لا تبدو متجهة نحو تغيير شامل أو قلب الطاولة"، لكنها عازمة فعلياً على إنهاء ظاهرة السلاح خارج الدولة والحد من نفوذ الميليشيات، معتبراً أن هذا الخيار "لم يعد مطلباً أميركياً أو شعبياً فحسب"، بل أصبح أيضاً توجهاً داخل عدد من القوى السياسية العراقية التي باتت تدرك أخطار استمرار هذا الملف، خشية أن تتحول البلاد إلى ساحة مفتوحة لضربات أميركية أو إسرائيلية محتملة.
ويخلص الهيتي إلى أن تقاطع الإرادة الدولية مع جزء من الإرادة السياسية العراقية قد يجعل ملف السلاح هذه المرة "أمام استحقاق جدي"، مبيناً أنه لا يمكن للقوى المؤثرة "تجاهله أو الالتفاف عليه كما كان يحدث في السابق".