ملخص
حياة البشر أصبحت اليوم مليئة بما يمكن أن نطلق عليه "الفوضى البصرية الصاخبة".
غيرت وسائل التواصل الاجتماعي طريقة تفكيرنا في المجتمع ونظرتنا للحياة الواقعية، وشتت انتباهنا عن اللحظة الراهنة، إذ نسعى إلى أن يرى الجميع مدى استمتاعنا بحياتنا، فننشر صورنا على "سناب شات" و"إنستغرام" و"فيسبوك" في المناسبات الممتعة.
ترسخ وسائل التواصل الاجتماعي ثقافة الاهتمام بما يجري في حياة الآخرين، هذه الثقافة التي تعتبر جديدة في غالبية المجتمعات، تدفع الإنسان لعمل مقارنات سلبية مع الآخرين وبالتالي تدهور الصحة النفسية. فكثيراً ما يقارن الناس أنفسهم بالآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي ويتمنون لو كانت حياتهم أفضل، أو تشبه إلى حد ما حياة الآخرين الظاهرة على صفحاتهم، وأن يعيشوا تجاربهم نفسها.
إبداع بالإكراه
تنشر 95 مليون صورة وفيديو على "إنستغرام" يومياً، وهذه مجرد منصة واحدة فقط، فكيف من الممكن أن تحدث إحدى هذه الصور فرقاً في ذاكرة الناس بينما الجميع غارق في عدد منها على مدار الوقت؟ إذ يمكن للمصور أو الهاوي التقاط أعظم صورة، لكن احتمالية أن تأخذ مكانتها في ذاكرة المجتمع ضئيلة للغاية، إذ تنافس هذه الصورة 95 مليون صورة أخرى جرى تداولها في اليوم نفسه، ثم 95 مليون صورة أخرى في اليوم الذي يليه، مع الأخذ في الاعتبار أن الشيء الذي لا يتذكره الإنسان لا يحدث فرقاً في حياته.
وهذا تؤكده إحدى المقولات أن "لكل فنان عدداً محدوداً من الأعمال العظيمة"، ويستطيع الجميع بلوغها، لكن بحسب المراقبين فإن توقع حدوثها يومياً هو أمر مستحيل، لذا فالفنان الحقيقي هو من يركز على إنتاج كمية أقل من الأعمال العظيمة.
لكن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تجبر مستخدميها وبخاصة الفنانين على الإبداع، إذ تكافئ خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي الأشخاص الذين ينشرون باستمرار، إذ يتمثل نموذج أعمالهم بالحفاظ على المتابعين على منصاتهم. ولتحقيق ذلك فإنهم يحتاجون إلى محتوى من دون التركيز إن كان جيداً أم لا، بل يحتاجون إلى مزيد منه ليتمكن الناس من الاطلاع على الجديد باستمرار.
وهذا ما يضع الفنان وبخاصة المصورون تحت ضغط يدفعهم إلى الانجراف وراء خوارزميات هذه المنصات، فينشرون صورة تلو الأخرى لأن النشر المنتظم جزء أساس من العمل، وهذا ما يضع الفنان أمام معضلة حقيقة الفن ومتطلبات وسائل التواصل وقواعدها المستهلكة.
من صورة إلى محتوى
وبسبب شيوعها وانتشارها الساحق أصبحت الصور الفوتوغرافية في نظر فنانيها ودارسيها "مبتذلة وتفقد قيمتها في كثير من الأحيان"، وبرأيهم فقدت الصورة ميزتها، فما كان يوصف سابقاً "صوراً" أصبح يعتبر الآن "محتوى"، وهذا يعني بالنسبة إليهم أن عدداً من الصور لم تعد تعتبر فناً، بل شيئاً يملأ مساحة على شاشاتنا وفي وعينا، وهو محتوى مبتكر ليس للتقدير والتذوق والتفكر بل للاستهلاك. فالفنان برأيهم لا يبدع وليس موجوداً لمجرد خلق محتوى بلا معنى، بل يبدع من خلال عمل فريد لا يمكن لأحد غيره صنعه، فجوهر الفن بنظرهم هو ابتكار منتجات فريدة ذات قيمة تتجاوز ضرورتها العملية.
وما يميز وسائل التواصل الاجتماعي هو ردود الفعل، فما على الشخص إلا نشر صورة، وفي غضون ثوان يحصل على إعجابات وتعليقات، ولفترة وجيزة يشعر بالتقدير والاهتمام ليكون لسان حاله "أنا أنشر، إذاً أنا موجود".
صحيح أن أصدقاءه وعائلته يميلون للإعجاب والتعليق بصورة إيجابية، لذا قد لا يكون هذا التقييم حيادياً، إذ إن معظم الناس لديهم ثقافة تصويرية ضئيلة ولغة بصرية بدائية أو منعدمة على رغم انتشار الصور في كل مكان، لكن الغالبية لا تعرف المبادئ والقواعد والتاريخ الطويل للتصوير، لذلك فالحجة التي تتحدث عن أن بعضاً منهم يقوم بالتصوير الفوتوغرافي خصيصاً للحصول على "الإعجابات" على وسائل التواصل الاجتماعي، هو "بمثابة الانغماس في الرداءة"، بحسب متخصصين.
لا نشر من دون تحرير للصورة
وقبل نشر أية صورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تجرى تعديلات تناسب هوى من التقطها من مصورين وهواة عاديين، فعلى رغم أن تحرير الصور كان يعتبر في السابق حاجة إلى التصحيح إلى حد ما، إذ وجدت إحدى الدراسات أن ما يصل إلى 71 في المئة من الأشخاص الذين يقومون بتحميل صور لأنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي، يقومون بتحرير مظهرهم قبل النشر اليوم.
ومع استمرار المشاهير والمؤثرين في نشر نسخ معدلة ومحسنة من أنفسهم على منصات مثل "إنستغرام" و"سناب شات"، يشعر 72 في المئة من الرجال وأكثر من 50 في المئة من النساء بضغط هائل يدفعهم للسير على خطاهم ونشر ما يعتبرونه أفضل نسخة من أنفسهم، وهذا ما أدى إلى شكوك كبيرة حول ما هو حقيقي وما هو مزيف في عالم الإنترنت.
ومع تزايد عدد الأشخاص الذين يلجأون إلى تطبيقات تحرير الصور قبل نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، لوحظت زيادة في عدد الأشخاص الذين يعانون نقص احترام الذات وانخفاض الثقة بالنفس، كما غير تعديل الصور تصورات كثير عن شكل "الشخص المثالي"، وهذا ما نتج منه ارتفاع حاد في عدد الرجال والنساء الذين يعانون عدم الرضا عن أجسامهم، إضافة إلى اضطرابات أخرى متعددة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصورة في مقابل الكلمة
وبدأ كثيرون يستبدلون الكلمات بالصور من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، منشئين بذلك لغة بصرية جديدة، ففي السابق كان وصف لحظة أو وجبة أو تجربة يجري لفظياً، لكن رد الفعل الآن هو التقاط صورة لها.
لذا تمثل منشورات التواصل الاجتماعي المرئية بصورة متزايدة نوعاً جديداً من اللغة التصويرية التي تعبر عن مشاعر مثل "أنا سعيد" أو "أنا حزين" أو "أنا محظوظ" وغيرها كثير، إذ من خلال هذه الوسائط يروي عدد قصصهم ليس بالكلمات، أو في الأقل ليس بالكلمات الكثيرة، بل بالصور.
وعلى رغم شيوع العبارة السائدة "صورة واحدة تساوي 1000 كلمة"، فإن كثيرين اليوم يعتبرون أنه تجب إعادة صياغة هذه الجملة لتصبح، "مليار صورة تحل محل الكلمات".
لذا فإن حياة البشر اليوم أصبحت مليئة بما يمكن أن نطلق عليه "الفوضى البصرية الصاخبة"، فالرؤية مشوشة بسيل من الصور، إذ يصعب على الجميع تمييز الفن، فالعيون بلغت مستوى التخدير لتفقد معه الإحساس بقوة الصورة وفرادتها، مما يصعب على المصورين الصحافيين والمبدعين البصريين إثارة اهتمام المتلقي، فلقد رأى كل شيء وبكل بساطة.
وهذا ما يهدد اللغة البصرية العامية أن تصبح من أدنى القواسم المشتركة، إذ يتلاشى التعقيد وتسود أبسط الصور وأكثرها تأثيراً وسهولة في الفهم، وتضيع الفروق الدقيقة والفن في خضم هذه الفوضى، وبخاصة إذا عرفنا أن المساحة التي كانت تشغلها سابقاً قلة من حاملي الكاميرات، الذين اتخذها بعضهم مهنة لهم، أصبح الآن يشغلها 6.84 مليار شخص (84 في المئة من سكان العالم) ممن يمتلكون هواتف ذكية.