ملخص
مع غياب الاستقرار النقدي وتراجع دور المؤسسات الرسمية، أصبح المواطن العادي في مواجهة مباشرة مع سوق متقلبة تحكمها العملة المنهارة واقتصاد الظل.
لم يعد الجنيه السوداني مجرد ورقة نقدية تتداول بين الأيدي، بل أصبح مرآة لانهيار اقتصادي واسع فرضته الحرب. فمنذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في منتصف أبريل (نيسان) 2023، دخلت العملة السودانية في مسار هبوطي متسارع، أفقدها جزءاً كبيراً من قيمتها، وفتح الباب أمام تضخم غير مسبوق التهم دخول الأسر وحول أبسط متطلبات الحياة إلى عبء يومي ثقيل. والارتفاع المتواصل في أسعار الغذاء، والوقود، والدواء لم يكن مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل أصبح واقعاً معاشاً دفع ملايين السودانيين إلى إعادة تعريف حاجاتهم الأساسية، والتخلي قسراً عن أنماط حياة كانت تعد طبيعية قبل الحرب. ومع غياب الاستقرار النقدي وتراجع دور المؤسسات الرسمية، أصبح المواطن العادي في مواجهة مباشرة مع سوق متقلبة تحكمها العملة المنهارة واقتصاد الظل.
خلل كبير
المحلل الاقتصادي هيثم فتحي أكد أن "سعر الدولار كان في حدود 570 جنيهاً سودانياً عند اندلاع الحرب، في ظل سياسات نقدية هدفت للحفاظ على استقرار العملة. غير أن استمرار الحرب أضعف هذه السياسات، ليبدأ الجنيه في التدهور التدريجي، ويشهد انخفاضاً حاداً منذ نهاية مايو (أيار) عاك 2024، إذ قفز سعر الدولار الواحد إلى نحو 2500 جنيه، ثم إلى قرابة 3500 جنيه خلال العام الحالي"، وتابع فتحي "هذا الانهيار أدى إلى إنهاك الاقتصاد بسبب توجيه الموارد للمجهود الحربي، وضعف الإيرادات، وتباطؤ الحكومة في اتخاذ معالجات حاسمة للحد من التضخم، أبرزها عدم اكتمال عملية تبديل العملة بعد نهب البنوك. والتوقعات كانت تتجه لاعتماد التعاملات الإلكترونية وإيداع النقد لجعل الأموال المنهوبة خارج التداول، فهذه الخطوة لم تنفذ بالكامل، بخاصة في ولايات الخرطوم، والجزيرة، والنيل الأبيض، وهو ما يعتبر خللاً كبيراً"، وأوضح أن "استمرار تداول الكتلة النقدية المنهوبة فاقم التضخم، وأدى إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، مع قفزات كبيرة في أسعار السلع والخدمات. وتغيير سعر الصرف كان العامل الرئيس في ارتفاع التضخم، إلا أن غياب السيطرة على الأسواق جعل الأعباء تقع بصورة أكبر على الشرائح محدودة الدخل، ووسع فجوة الفقر"، ولفت إلى أن "غياب الإنتاج المحلي، وتراجع الصادرات، وارتفاع كلف الاستيراد والضرائب، أدخل الاقتصاد في دائرة مغلقة عبارة عن تضخم مرتفع، وتدهور مستمر في قيمة الجنيه، وانكماش في الدخول الحقيقية، إلى جانب تدمير البنية التحتية، وشبه توقف الإنتاج الزراعي والصناعي، وتمدد اقتصاد الظل".
في ما خص الحلول شدد المحلل الاقتصادي على "ضرورة توجيه الاقتصاد نحو الإنتاج الزراعي والصناعي، وضبط عرض النقود، والتوقف عن التمويل بالعجز عبر الطباعة النقدية من دون غطاء إنتاجي، مع تطبيق سياسات تقشف مالي تشمل إصلاح النظام الضريبي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وخفض الإنفاق العام غير الضروري، مع مراعاة الفئات الفقيرة"، ودعا إلى دعم المزارعين بمدخلات إنتاج أقل كلفة، وتشجيع الزراعة التعاقدية، وإعادة هيكلة ودعم الصناعات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة للحد من البطالة، وزيادة المعروض السلعي، وتحسين الخدمات الأساسية المرتبطة بالصحة والتعليم والمياه لضمان حد أدنى من الحياة الكريمة.
تآكل المعيشة
في السياق أيضاً رأى الباحث المصرفي لؤي عبدالمنعم أن "السودان يعيش واحدة من أعقد مراحله الاقتصادية، بفعل الحرب الممتدة التي أدت إلى موجات تضخم متتابعة، وانهيار حاد في سعر صرف الجنيه، وانكماش إنتاجي عميق، ما تسبب في تفكك المنظومة الاقتصادية وتآكل القوة الشرائية للمواطن إلى مستويات غير مسبوقة"، وأضاف "وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء، فإن معدل التضخم السنوي بلغ 83.47 في المئة في سبتمبر (أيلول) الماضي قبل أن يتراجع قليلاً إلى 77.40 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول)، وهو تراجع يعكس تحسناً محدوداً في ظل الإصلاحات المعلنة، على رغم انهيار الطلب وضعف القدرة الشرائية. وتزامن ذلك مع قفزات حادة في سعر الصرف، إذ بلغ الدولار في السوق الموازية نحو 3665 جنيهاً للشراء و3750 جنيهاً للبيع، مقابل أسعار رسمية أقل بنحو 30 في المئة، مما يعكس استمرار أزمة الجهاز النقدي وابتعاد السعر الرسمي عن واقع السوق"، وأرجع عبدالمنعم جذور التضخم الحالي إلى أربعة عوامل رئيسة هي "التوسع النقدي لتمويل العجز في ظل تراجع الإيرادات، والانهيار الكبير في سعر الصرف، وتراجع الإنتاج وتعطل سلاسل الإمداد، وفقدان الثقة في استقرار الجنيه، مما دفع الأفراد والتجار للتحوط بالدولار والذهب، وغذى دوامة التضخم".
وبحسب تقديراته "فقد المواطن السوداني بين 70 و90 في المئة من قوته الشرائية خلال عامين، نتيجة تضخم تجاوز 80 في المئة في معظم الأشهر، وارتفاع الدولار بأكثر من 500 في المئة، إلى جانب جمود الرواتب في القطاعين العام والخاص. وأصبحت الأجور، بخاصة الحكومية، لا تغطي سوى أيام قليلة من الإنفاق الأساسي". وبين أن "الرواتب فقدت وظيفتها الاقتصادية، إذ بات التكيف المعيشي يعتمد على التحويلات والدعم العائلي والعمل غير الرسمي، مع خفض الاستهلاك إلى الحد الأدنى. وأكثر القطاعات تأثراً بارتفاع الأسعار التعليم، ثم السلع الغذائية، والخدمات الصحية، والسكن والطاقة، والنقل، نتيجة الاعتماد الكبير على الاستيراد وارتفاع كلف التشغيل"، وتوقع عبدالمنعم استمرار الضغوط التضخمية خلال الأشهر المقبلة، ما لم تنفذ معالجات حقيقية، وأن التمويلات الدولية التي حصل عليها السودان عام 2025، على رغم أهميتها للخدمات الأساسية، لن تؤثر مباشرة في سعر الصرف أو التضخم على المدى القصير، لأنها لا تدخل الاحتياط النقدي. ونوه بأن "السودان يواجه حال ركود تضخمي حاد، بالتالي فإن كبح التضخم يتطلب إما تدخلاً نقدياً مباشراً لدعم الاحتياط وزيادة الصادرات، أو تحسناً سياسياً وأمنياً يسمح بعودة الإنتاج"، وأشار الباحث المصرفي إلى أهمية إيجاد الجنيه الذهبي الادخاري كحل نوعي يستهدف كسر حلقة المضاربة على الدولار، عبر توفير وعاء ادخاري مغطى بالذهب داخل الجهاز المصرفي، بما يقلل الطلب على الدولار، ويخفف الضغط على السوق الموازية، من دون ضخ نقد جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اقتصاد الظل
من ناحيتها رأت الصحافية الاقتصادية الاستقصائية آلاء محمد أن "السوق الموازية للعملة لم تعد نشاطاً هامشياً، بل تحولت خلال الحرب إلى اقتصاد مُوازٍ كامل يحدد فعلياً سعر الصرف، بعيداً من أي رقابة رسمية"، وأردفت محمد أن "انهيار الجهاز المصرفي، وتوقف عدد كبير من البنوك، دفع الأفراد والتجار للاعتماد على شبكات تحويل غير رسمية تمتد داخل السودان وخارجه، فهذه الشبكات تعمل عبر وسطاء وتجار عملة يتواصلون مباشرة مع الخارج، ويحددون السعر بناءً على الدولار المتاح في السوق الموازية وليس السعر الرسمي، مما جعل الأخير فاقداً للوظيفة الاقتصادية"، وأوضحت أن "معظم المستوردين باتوا يسعرون سلعهم وفق سعر السوق السوداء، مما انعكس مباشرة على الأسعار، ورفع كلفة المعيشة على المواطنين"، وتابعت "اقتصاد الحرب أسهم في تمدد هذه السوق، مع تنامي تجارة الذهب والتهريب، وتدفق عائداتها خارج الجهاز المصرفي، في ظل غياب أدوات رقابية فاعلة، وانقسام السلطة النقدية. وأدى كل ذلك إلى تركز الثروة لدى فئة محدودة، مقابل اتساع دائرة الفقر. فالمواطن العادي أصبح الطرف الأضعف في هذه المعادلة، إذ يدفع ثمن انهيار العملة وارتفاع الأسعار من دون أي حماية". وأكدت الصحافية الاقتصادية أن استمرار السوق الموازية بهذه الصورة يعرقل أي محاولة لاستقرار الجنيه أو كبح التضخم، ما لم تعد الثقة في النظام المصرفي وتغلق منافذ الاقتصاد غير الرسمي.
آثار نفسية
من جهتها قالت الاختصاصية الاجتماعية سارة أسامة إن "انهيار الجنيه وارتفاع الأسعار لم يغيرا فقط نمط الاستهلاك، بل أعادا تشكيل الحياة اليومية بالكامل. فالأسر لم تعد تخطط للشهر، بل لليوم الواحد، وأحياناً للوجبة التالية فقط"، وأضافت أسامة أن "معظم الأسر اضطرت إلى إلغاء سلع أساسية كانت تعد ضرورية، مثل اللحوم، والألبان، وبعض الأدوية، والدروس التعليمية، مع الاعتماد على بدائل أقل جودة أو الاستغناء التام، في حين أصبح التعليم والصحة من أكثر القطاعات تضرراً، إذ لم تعد كلفهما في قدرة عدد كبير من المواطنين"، واستطردت "معظم المواطنين يؤكدون أن الرواتب، إن وُجدت، لا تكفي سوى أيام قليلة، ما دفع كثيرين إلى الاعتماد على التحويلات من الخارج، أو المساعدات العائلية، أو العمل غير الرسمي، مثل البيع الموقت، والأعمال اليومية، أو المقايضة المباشرة بالسلع. فهذا الضغط الاقتصادي المستمر خلف آثاراً نفسية واجتماعية عميقة، من بينها القلق المزمن، والإحباط، وتفكك بعض الأسر، إلى جانب تغير الأدوار داخل الأسرة، إذ اضطرت النساء والأطفال أحياناً للدخول في سوق العمل الهش"، ومضت الاختصاصية الاجتماعية في القول "في مواجهة هذا الواقع ظهرت صور من التكيف المجتمعي، مثل التكافل بين الجيران، والشراء الجماعي، والمطابخ المشتركة، ومبادرات دعم محلية، لكنها تبقى حلولاً موقتة لا تعالج جذور الأزمة. ويتفق الجميع على أن المواطن السوداني يعيش اليوم اقتصاد بقاء حقيقياً تحكمه القدرة على التأقلم لا الاستقرار، لذلك استمرار انهيار العملة وارتفاع التضخم يعنيان مزيداً من الضغط على النسيج الاجتماعي، ما لم تتخذ حلول اقتصادية وسياسية شاملة تعيد الحد الأدنى من الأمان المعيشي".