ملخص
كانت "نابوكو"، حين ظهورها، حدثاً تاريخياً وثقافياً وسياسياً أغنى الشعور الوطني الإيطالي في بلد كان يعاني تحت الاحتلال النمسوي، وشكل إلى ذلك هوية فنية جديدة للأوبرا في القرن الـ19.
ظهرت هذه الأوبرا للمرة الأولى في "لاسكالا" في ميلانو عام 1842، في لحظة كان الموسيقي الشاب جوزيبي فيردي يعاني فيها الانكسار والاكتئاب بعد وفاة زوجته وأولاده، وصدمته بإخفاق عمله السابق.
يروي الكاتب النمسوي فرانتز فرفل في تقديمه للكتاب الذي جمع فيه رسائل ووثائق أخرى تتعلق بالموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي وأصدره بعد رحيل الأخير، ما حدث خلال الجنازة الضخمة الثانية، التي أقيمت في ميلانو لهذا الموسيقي الأوبرالي الكبير - وكانت الثانية، إذ إن فيردي كان قد أوصى بأن تقام له في المدينة نفسها جنازة صغيرة وحميمة أولى أكثر بساطة بكثير-. وكانت كما هو معروف جنازة وطنية ضخمة تليق بمقام ذاك الذي مكن شعبه الإيطالي خلال حياته ومسيرته الفنية، من مقارعة الألمان في فن كان هؤلاء قد اقتنصوه منهم، ولو بفضل "فاغنر" الذي انتهى الأمر بالفنان الإيطالي إلى التفوق عليه، في رأيهم في الأقل.
ودار ما يرويه فرفل على الشكل التالي "في الوقت الذي انطلقت فيه الجنازة، حدث ذلك الشيء النادر الذي لا يمكنه أن يحدث عادة إلا حين يمتزج الشعب بالموسيقى ويصبحان شيئاً واحداً. ففي لحظة ما ومن دون أن يكون ثمة تجهيز مسبق، أي تبعاً لاستلهامات عفوية لا يمكن تفسيرها، انطلق في الأجواء ذلك النشيد الجماعي الذي يرد عادة على لسان الكورس في أوبرا ’نابوكو‘، أي النشيد نفسه الذي يجسد فيه فيردي مزيجاً من العزاء والأمل في ذهن مواطنيه حين ينطلقون معاً على الخشبة منشدين بصوت مدو واحد: الا انطلق أيها الفكر في ممراتك الذهبية".
أوبرا للنضال الوطني
صحيح أن فيردي كتب أوبراتين أو ثلاثة قبل "نابوكو"، لكن المؤرخين والنقاد يعتبرون هذه أوبراه الكبيرة الأولى و"بداية التألق الحقيقي لهذا الموسيقي الذي اختار التلحين الأوبرالي خط حياة مهني لمسيرته، ولكن متواز مع كون معظم ما أنتج من أوبرات بعدها لا تبتعد من خط يشي بإيمانه بوطنه". ونعرف على أية حال أن "نابوكو" بالذات، كانت حين ظهورها، حدثاً تاريخياً وثقافياً وسياسياً أغنى الشعور الوطني الإيطالي في بلد كان يعاني تحت الاحتلال النمسوي، وشكل إلى ذلك هوية فنية جديدة للأوبرا في القرن الـ19.
ظهرت هذه الأوبرا للمرة الأولى في "لاسكالا" في ميلانو عام 1842 في لحظة كان الموسيقي الشاب يعاني فيها الانكسار والاكتئاب بعد وفاة زوجته وأولاده، وصدمته بإخفاق عمله السابق. لكن القدر قدم له نصاً عن الملك البابلي نبوخذ نصر (نابوكو) وسبي العبرانيين في بابل. وكان نصاً بدا وكأنه، كما سيقول النقاد "انعكاس رمزي لمعاناته هو ممتزجة مع معاناة بلده". وسيقال لاحقاً إن فيردي ما أن قرأ الكلمات ووجد الصفحة التي تضم النشيد الكورالي، حتى استحوذ عليه العمل كله وهزه من داخله فمضى من فوره إلى كتابة الموسيقى لأوبرا ستصنع له شهرته وتضحي علامة فارقة في تاريخ الموسيقى الإيطالية.
فعل درامي يتطور
واضح أن "نابوكو" لا تقوم على خط درامي واضح وحسب، أي خط يروي صراع الملك البابلي مع شعب أسير لديه ويتطلع إلى الحرية، بل ثمة خط درامي هنا يتطور ليغدو نوعاً من مواجهة بين قوة غاشمة وحق روحي.
فنبوخذ نصر، وهو الشخصية المحورية بالطبع، يبدأ ملكاً متغطرساً يرى نفسه أقرب إلى أن يكون إلهاً. ولكن ذلك يكون قبل أن يسقط في هاوية الجنون لينهض مجدداً إنما بعد أن يدرك حدود سلطته البشرية. إن هذا القوس الدرامي الذي يجمع بين التراجيديا الشخصية والبعد السياسي، هو الذي يتيح للموسيقى أن تتصاعد منطلقة من كونها تعبيراً عن الجبروت العسكري، وصولاً إلى لحظة كشفها عن أعلى درجات السمو. غير أن العنصر المعبر عن هذا الانتقال، لن يكون الملك نفسه، بل أبيغاييل التي يعتبرها النقاد من أكثر الشخصيات تطلباً في ريبرتوار صوت السوبرانو الدرامي. فهي تجمع بين الطموح الشخصي والعاطفة المكبوتة والغيرة، مما يجعل من أداء هذا الدور واحداً من أصعب الامتحانات التي قد تجابه مغنية من المغنيات.
ومن المؤكد أن لحنها الأشهر "... وأنا ايضاً أختم نهاراً آخر" هو ما يكشف عن انتقالها من الألم الداخلي إلى العاصفة النفسية التي تقودها إلى السقوط الدرامي، مما يجعل النقاد يرون أن فيردي يبدو هنا، وكأنه أراد أن يجعل من أبيغاييل نداً للملك لا مجرد عنصر ثانوي يدور من حوله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نشيد مركزي
ومع ذلك لا بد من العودة هنا لذلك النشيد المركزي في هذه الأوبرا، الذي لا شك أنه يفوق في أهميته فيها ما تعبر عنه شخصيتا الملك وابيغاييل معاً. وهو بالطبع النشيد الكورالي الذي روى لنا فرانتز فرفل تحوله، ولو منذ لحظة جنازة فيردي إلى ما يشبه النشيد الوطني الإيطالي، مما يجعل من الجمهور الإيطالي نفسه، في القرن الـ19 وفي كل عرض لاحق لأي عمل من أعمال فيردي، وليس لهذه الأوبرا وحدها، طرفاً في المشهد برمته، فحتى لئن كان النشيد يعبر عن حنين الأسرى العبرانيين إلى الحرية، فإنه أبداً لم يقرأ بوصفه حكاية توراتية، بل كمجاز حي لتشوق الإيطاليين أنفسهم إلى الوحدة والتحرر من السيطرة الأجنبية (النمسوية هنا).
ومن هنا لم يكن غريباً أن يطالب الجمهور بإعادته من جديد بأصوات الكورس حتى خلال عروض أوبرات أخرى لفيردي! أما من الناحية الموسيقية وفي ما عدا ذلك، فإن "نابوكو" تكشف عن موهبة فيردي المبكرة التي تلامس العبقرية على أية حال، في التعامل مع الكورس، لا كعنصر تزييني بل كفاعل درامي. ففي الواقع إن الجموع في هذه الأوبرا ليست خلفية للأحداث بل هي بطل أساس، إنها صوت الشعب في مقابل صوت السلطة. وبهذا تصبح الموسيقى ساحة لصناعة الأفكار، لا مجرد تراصف ألحان وأصوات.
مرحلة أوبرالية جديدة
ومن هنا ما يقال عادة، من أن "نابوكو" قد دشنت مرحلة جديدة في تاريخ الأوبرا الإيطالية، إذ انتقلت بها من رومانطيقية بلليني ودونيتزيتي إلى أسلوب أكثر مباشرة وقوة، يدعمه إيقاع مسرحي سريع، وحضور متعدد الأصوات للكورس، ناهيك بقدرة لافتة على بناء لحظات إنسانية تتجاوز النص التاريخي للإمساك بالتجربة البشرية بوصفها تجربة مقاومة وذاكرة وأمل.
ومن هنا لم تكن أوبرا جوزيبي فيردي المبكرة هذه، مجرد خطوة أولى في مسيرة هذا الفنان، بل كانت إعلاناً عن ظهور صوت جديد في أوروبا، صوت مسرحي، سياسي، عاطفي، يمزج بين الألم والقوة، واليأس بالشرف والحياة بالحرية. وبالتالي هي أوبرا لا تزال حية تدور من حول أسئلة بالغة الأهمية من أبرزها: ماذا يفعل الإنسان حين يفقد وطنه؟ وما معنى السلطة إذا لم تسيرها الأخلاق؟ وهل يمكن للشعوب، ومهما طالت غربتها، أن تحلم بعد بعالم جديد؟