ملخص
تتحول الحوسبة في الخليج إلى "نفط جديد" يعيد تشكيل العلاقة مع أميركا، إذ تدفع الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي نحو شراكة استراتيجية توسع النفوذ الأميركي عالمياً وتزاحم الصين، مقابل شروط صارمة لحماية التكنولوجيا المتقدمة وضمان عدم تسربها.
عندما زار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الخليج العربي في مايو (أيار) الماضي، كان اهتمامه منصباً على التجارة والذكاء الاجتماعي إلى جانب غزة وإيران وغيرها. وأثناء تلك الرحلة، وافق ترمب على بيع رقاقات إلكترونية أميركية متقدمة إلى السعودية والإمارات والاستثمار في منشآت عملاقة للذكاء الاصطناعي في الخليج العربي، ستستضيف الشركات الأميركية. وكذلك تعهدت دول الخليج العربي باستثمار عشرات مليارات الدولارات في الذكاء الاصطناعي داخل الولايات المتحدة. والشهر الماضي، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، حصل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على الموافقة النهائية لاستيراد عشرات آلاف الرقائق الإلكترونية المتطورة التي وُعدت بها الرياض سابقاً.
وبفضل مزيج القوة المالية والطاقة الرخيصة وامتلاك الرقائق الإلكترونية، قد تتجاوز دول الخليج كلاً من أوروبا والهند في بنية الذكاء الاصطناعي التحتية، لتصبح ثالث أكبر مركز عالمي للحوسبة الخاصة بالذكاء الاصطناعي بعد أميركا والصين. وهكذا، أصبحت طاقة الحوسبة ركناً موازياً للنفط في العلاقة الأميركية - الخليجية، وباتت دول الخليج الشريك الأثير على إدارة ترمب.
ويمكن أن تعود هذه الشراكة بفوائد كبيرة. فاستثمار الأموال الخليجية في الشركات الأميركية سيسمح لهذه الشركات بالتوسع في مناطق لا تعاني عقبات الطاقة أو التعطيلات الإدارية. كما أن موقع الخليج يتيح وصول منظومة الذكاء الاصطناعي الأميركية إلى مليارات المستخدمين في أفريقيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. وتمهد هذه الصفقات أيضاً لإزاحة الصين من موقع الشريك التكنولوجي الأول في المنطقة هذه، وهو مكسب كبير لواشنطن.
لكن تصدير التكنولوجيا المتقدمة ينطوي على أخطار، من احتمال تسربها إلى جهات غير مرغوب فيها إلى الإضرار بعمليات الشركات الأميركية في الداخل. وهنا تبدأ التفاصيل الدقيقة. فإدارة ترمب أعلنت عن هذه الصفقات قبل إتمام صياغتها النهائية، وهي بحاجة ماسة إلى ضبط الشروط. ويجب على واشنطن أن تفرض ضمانات صارمة مقابل هذه التقنيات التحويلية، وأن تكون مستعدة لتطبيق بنود الاتفاق عند اللزوم.
التشدد في التصدير
قبل نحو عقد من الزمن، أي قبل أن يقتحم "تشات جي بي تي" وعي العالم، راهن قادة شباب في الخليج على قدرة الذكاء الاصطناعي على تنويع اقتصادات الخليج بعيداً من النفط.
لكن الصين لم تقف موقف المتفرج بل تدخلت، وقدمت حزمة خدمات رخيصة تشمل تقنية اتصالات الجيل الخامس والحوسبة السحابية، غالباً عبر شرائح "هواوي"، حتى بدا أن الذكاء الاصطناعي الصيني سيهيمن على المنطقة.
ولكن في أواخر عام 2022، برهن نجاح "تشات جي بي تي" للعالم على أن الولايات المتحدة تتصدر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مما أعادها مرة أخرى لموقع الشريك الأكثر جاذبية. وعام 2023، صاغت واشنطن شروطاً جديدة على تصدير رقاقاتها الإلكترونية المتقدمة. وبات لزاماً على كل دولة ترغب في شرائها التزام الابتعاد من الكيانات الصينية الموضوعة على قائمة العقوبات الأميركية، بما في ذلك "هواوي". والتقطت دول الخليج العربي الرسالة. وبدأت شركة "جي 42" التي نسجت ذات مرة شبكة علاقات مع شركات صينية، تقطع خيوط تلك الشبكة وتجري عملية استبدال لمعدات "هواوي".
وأعادت صفقات ترمب مع الخليج إشعال الجدل داخل واشنطن حول كيفية الحفاظ على التفوق التكنولوجي الأميركي. فأنصار التشدد في تصدير الرقائق الإلكترونية يدعون إلى قصر تصدير أشباه الموصلات على الحلفاء الموثوقين فقط، لمنع تسرب التكنولوجيا إلى خصوم الولايات المتحدة. وهم يعارضون بيع الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى الخليج بسبب الروابط التكنولوجية والعسكرية القائمة مع الصين، ويرون أن أميركا قادرة على أن تكون انتقائية لأن الصين لا تزال عاجزة عن توفير بديل منافس على نطاق واسع.
في المقابل، يرى "المنفتحون" على بيع التكنولوجيا أن الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي يعتمد على نشر الأنظمة الأميركية في الحوسبة والخدمات الرقمية السحابية وبرامج وكلاء الذكاء الاصطناعي وتوسيع استخدامها عالمياً. وهم يحذرون من أن القيود الزائدة ستضعف الشركات الأميركية، ويعدون توسع التكنولوجيا الأميركية أمراً حتمياً ومفيداً، ويقللون من أخطار سرقة تقنيات الرقائق الإلكترونية. وتمثل صفقات ترمب مع الخليج انتصاراً كبيراً لهذا التيار. وعلى رغم أن صفقات الذكاء الاصطناعي مع دول الخليج العربي، استهلت إبان ولاية إدارة بايدن، فإن إدارة ترمب عملت على تضخيمها وتوسيعها، وأطاحت بقيود مرحلة بايدن على تصدير أشباه الموصلات.
الشيطان يكمن في التفاصيل
في هذه الحال، تبدو مكاسب تعزيز التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي مع دول الخليج أكبر من الأخطار التي تبدو في معظمها قابلة للإدارة. فهذه الاتفاقات يمكن أن تدعم جهود التنويع الاقتصادي في السعودية والإمارات، وتمنح الولايات المتحدة أفضلية في صراع القوى الكبرى من خلال إزاحة الصين كشريك تكنولوجي مفضل في الخليج.
وتتمثل فرصة أخرى مهمة للولايات المتحدة في توسيع حضورها العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي. فالشبكات الخليجية في أفريقيا وآسيا، سواء بالشراكة مع شركات أميركية أو بالاعتماد على المنظومة التقنية الأميركية، تتيح الوصول إلى مناطق نادراً ما تعمل فيها الشركات الأميركية منفردة، ويشوبها ضعف الاتصال بالإنترنت، وتقبل في العادة على الخدمات الصينية الأرخص، حتى إن كانت أقل تطوراً. لكن خطر التسرب التكنولوجي واقعي، ويجب التعامل معه الآن - قبل الانتهاء من التفاصيل النهائية للصفقات وقبل حصول كثير من الرقائق الإلكترونية على موافقة وزارة التجارة الأميركية لشحنها إلى الخليج. وينبغي أن تشمل الاتفاقات بنوداً تلزم المشترين إبقاء التكنولوجيا الأميركية الحساسة بعيداً من معدات أو موظفي الشركات المثيرة للقلق مثل "هواوي". وتكتسب هذه الشروط أهمية خاصة مع الشركات غير الأميركية التي تملك واشنطن سلطة تنظيمية أقل عليها. وعلى رغم إعلان إدارة ترمب في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري السماح ببيع بعض أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، فإن الرقائق الإلكترونية المقرر إرسالها إلى الخليج أكثر قوة. ويجب أن توضح واشنطن أيضاً أن أي تقارب عسكري أو تكنولوجي أعمق مع الصين سيعرض هذا التعاون المتقدم للخطر.وتحوز الولايات المتحدة تبريرات كافية كي تطلب من شركائها نبذ التعاون في الذكاء الاصطناعي مع منافسي أميركا بالنسبة إلى التقنيات المزدوجة الاستعمال، بمعنى أنها تلك المنظومات التقنية التي تخدم أهدافاً مدنية وعسكرية معاً (على غرار المسيّرات والأقمار الاصطناعية). وفي النهاية، لا ترغب الولايات المتحدة في أن توظف تقنياتها المتقدمة ضد قوات أميركية في صراعات مستقبلية. لكن هذه القيود الحصرية يجب أن تصاغ بدقة، وأن تركز فقط على المجالات الأكثر حساسية - تلك التي يمكن أن تضعف التفوق العسكري الأميركي - وأن تكون واضحة للطرفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويجب على واشنطن مراقبة احتمال إساءة استخدام الحوسبة السحابية عن كثب. فذلك يحدث عندما تستأجر جهات خاضعة للعقوبات الأميركية وصولاً عن بعد إلى قوة حوسبة الذكاء الاصطناعي عبر السحابة، وأحياناً بطرق غير مباشرة تخفي هوية المستخدم الفعلي، مما يسمح لهم باستخدام الرقائق الإلكترونية من دون حيازتها فعلياً. وهذه مشكلة عالمية، ويجب على واشنطن تصميم الاتفاقات على نحو يضمن أن الشركات والمراكز الخليجية التي تستخدم شرائح أميركية تراقب وتبلغ عن أي نشاط مشبوه بالجدية نفسها التي تعمل بها الشركات الأميركية.
وتملك الولايات المتحدة النفوذ اللازم لفرض هذه الشروط، ويجب أن تكون مستعدة لاستخدامه. فالرقائق التي تدعم الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى استبدال وتحديث كل بضعة أعوام.
ومن خلال ملء الشواغر في المواقع القنصلية بأبو ظبي والرياض، تستطيع إدارة ترمب ضمان الحفاظ على قنوات الاتصال ومنع تصاعد الخلافات التكنولوجية. وينبغي كذلك توسيع "مكتب الصناعة والأمن" التابع لوزارة التجارة الذي يشرف على صادرات الرقاقات الإلكترونية. ويلزم الأمر أيضاً نسج تعاون وطيد ولصيق بين وكالات الاستخبارات الأميركية وشركات التكنولوجيا الأميركية والأجنبية بغية التثبت من مدى التزام الشركاء الدوليين.
أكثر من مجرد دول نفطية
حتى تعود الاتفاقات الدولية الخاصة بالذكاء الاصطناعي بالنفع على الولايات المتحدة على المدى الطويل، يجب أن تصمم بما يكمل الصناعة الأميركية بدلاً من أن ينتقص منها. ويعني أيضاً أن على واشنطن التحرك بجدية لبناء بنية تحتية محلية للذكاء الاصطناعي، عبر إزالة عقبات التصاريح وزيادة القدرة الكهربائية. فالمشاريع الخليجية تستفيد حالياً من الطاقة الأرخص والأنظمة الأكثر مرونة. وسيحدد مدى قدرة الولايات المتحدة على توليد كميات كبيرة من الكهرباء للذكاء الاصطناعي سقف الطلب العالمي الذي يمكن تلبيته من الأراضي الأميركية.
وتبقى هناك عقبات أخرى. فدول الخليج مطالبة بإثبات قدرتها على بناء مراكز بيانات عملاقة وتقديم أسعار تنافسية لخدمات الذكاء الاصطناعي والعثور على الطلب الكافي على القدرات التي تبنيها، وعليها أيضاً تجاوز التقلبات السوقية التي قد تبطئ موجة الاستثمار والبناء الحالية. لكن إذا نجح التعاون بين واشنطن والعواصم الخليجية في الارتقاء إلى مستوى التوقعات، فمن المرجح أن يشكل نقطة تحول في تحول الخليج من دول ريعية إلى أطراف دولية فاعلة. وفي الوقت نفسه، يمكن للولايات المتحدة استعادة موقعها كشريك مفضل للمنطقة في التقنيات الحاسمة لعصرنا.
دانيال بنايم هو زميل مشارك في "معهد الشرق الأوسط"، وشغل أثناء إدارة بايدن منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون شبه الجزيرة العربية.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 9 ديسمبر (كانون الأول) 2025