Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صدمة الحرب... نوبات الهلع تطارد أطفال ونساء السودان

خطة لإعادة تأهيل أجنحة ومستشفيات الطب النفسي المغلقة في البلاد مع توفير 5 آلات علاج بالصدمات الكهربائية لعدد من المراكز الرئيسة في الخرطوم والولايات

مبادرات لعلاج أزمة الصحة العقلية في السودان (أ ف ب)

ملخص

بحسب وزير الصحة هيثم محمد إبراهيم، الوضع الراهن للصحة النفسية يتطلب تدخلات عاجلة وموازنة كافية ورؤية شاملة، خصوصاً مع تزايد الحالات النفسية نتيجة الحرب والظروف الراهنة، مشيراً إلى أن حاجات الصحة النفسية أصبحت أكثر وضوحاً بين من تعرضوا لصدمات بسبب الهجمات على المدنيين.

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في منتصف أبريل (نيسان) 2023، يعيش ملايين المواطنين أوضاعاً نفسية قاسية تجاوزت حدود ما يمكن احتماله بسبب النزوح المتكرر وفقدان المأوى وغياب الخدمات الأساسية، فضلاً عن سماع أصوات القصف بصورة يومية، مما خلق بيئة مشبعة بالخوف المستمر والقلق المزمن بخاصة وسط النساء والأطفال.

في ظل هذه الأوضاع أصبحت اضطرابات الأرق ونوبات الهلع والكوابيس جزءاً من الحياة اليومية لدى كثيرين، في وقت تزداد معاناتهم جراء عدم توفر الرعاية المتخصصة مع محدودية الكوادر العاملة في مجال الصحة النفسية وغياب البنية المؤسساتية القادرة على الاستجابة.

سرعة الانفعال

تشير أم محمد، وهي نازحة تقيم في أحد مراكز الإيواء بمدينة عطبرة بولاية نهر النيل منذ أكثر من عام، إلى أن ابنها البالغ تسع سنوات تغير سلوكه تدريجاً بعد مغادرة منزلهم الكائن في ود مدني نتيجة القتال، إذ أصبح سريع الانفعال، ويتجنب اللعب مع أقرانه، ويستيقظ ليلاً مرات عدة من دون أن يتذكر ما رآه في نومه.

وأضافت أنه "بات يخشى الأصوات المرتفعة، ويتوقف عن الكلام عند سماعها، على رغم أنها أصوات اعتيادية داخل المركز. وهذه الأعراض ظهرت على رغم عدم تعرضه لإصابة مباشرة، وإنما نتيجة الانتقال المتكرر من مكان لآخر وفقدان الإحساس بالأمان".

إدارة الخوف

أما عائشة، وهي أم لخمسة أطفال، فتقيم حالياً في أحد مراكز الإيواء بمدينة كسلا شرق البلاد، بعدما فقدت منزلها بالخرطوم في بداية النزاع، وانتقلت مع أسرتها ثلاث مرات قبل وصولهم إلى المركز الحالي.

تقول "أصبحت حياتي اليومية قائمة على إدارة الخوف أكثر من أي شيء آخر، ففي اليوم أجيب عن كثير من الأسئلة التي يطرحها علي أطفالي وتدور حول متى يعودون إلى منزلهم ومعاودة ذهابهم إلى المدرسة مع أقرانهم وغيرها، فضلاً عن قيامي بتأمين ما أمكن من الطعام، والانتباه لأي اضطراب قد يحدث داخل المكان".

ولفتت عائشة إلى أن "الشعور الدائم باليقظة جعل نومها متقطعاً، وزيادة معاناتها من صداع شبه يومي، لكنها لم تجد الوقت لطلب المساعدة الطبية". وكشفت عن أن عديداً من النساء اللاتي يقمن في مركز الإيواء ذاته يواجهن الأعراض نفسها، وأن بعضهن تعرضن لنوبات هلع أو انهيار مفاجئ بعد أسابيع من وصولهن.

صدمة متراكمة

توضح الاختصاصية النفسية إيمان عبدالحليم، التي تعمل ضمن فريق دعم نفسي متنقل في مناطق النزوح، أن المشكلات النفسية لدى الأطفال باتت نمطاً عاماً وليست حالات فردية.

وتابعت "ما نواجهه يومياً ليس مجرد ردود فعل طبيعية نتيجة ظروف صعبة، بل مؤشرات واضحة لاضطرابات نفسية تتطور مع مرور الوقت. فالغالبية يعانون اضطرابات النوم وفرط اليقظة وتشتت الانتباه، وهو ما يظهر مباشرة في سلوكياتهم داخل مراكز الإيواء والمدارس الموقتة".

وواصلت عبدالحليم "جزء كبير من الأطفال يعانون ما يعرف بالصدمة المتراكمة نتيجة التعرض المتكرر لمواقف مهددة، مثل الانتقال المفاجئ وفقدان أحد أفراد الأسرة، أو سماع أصوات الانفجارات بصورة مستمرة، حتى الأطفال الذين لم يشاهدوا أحداث العنف مباشرة تظهر عليهم الأعراض نفسها. فالبيئة المحيطة كافية لتوليد شعور دائم بالخطر، خصوصاً مع غياب الروتين اليومي واستمرار حال عدم اليقين".

وأشارت إلى أن "التآكل الذي أصاب النظام الصحي النفسي في البلاد جعل التعامل مع الحالات أكثر تعقيداً قبل الحرب، إذ كانت هناك خيارات علاجية أفضل نسبياً، سواء في الخرطوم أو المدن الكبرى. لكن اليوم نحن نعمل بأدوات محدودة جداً وأحياناً من دون غرف مهيأة أو مواد تساعد الطفل على التعبير. وكثير من الجلسات تتم في خيام أو فصول مكتظة، وهذا وحده يحد من فعالية العلاج".

وبينت الاختصاصية النفسية أن "بعض الحالات تظهر اضطرابات أكثر تعقيداً مثل نوبات الهلع، والتبول اللاإرادي المزمن، وانسحاب الطفل الكامل من التفاعل الاجتماعي. لذلك إذا لم تعالج هذه المظاهر في وقت مبكر، فستتحول إلى أنماط ثابتة تؤثر في التعلم، والعلاقات الاجتماعية، وحتى قدرة الطفل على التكيف مستقبلاً. فنحن لا نتحدث عن أزمة موقتة، بل عن آثار سترافق جيلاً كاملاً ما لم تتوفر تدخلات حقيقية ومستدامة".

أرق متواصل

فيما أفادت المعالجة النفسية سهى خالد بأن "الضغط النفسي الواقع على النساء في بيئات النزوح لا يرتبط بصدمة الحرب وحدها، بل يتراكم نتيجة الأدوار اليومية التي تفرض عليهن بعد فقدان الاستقرار. فالنساء يتحملن مسؤوليات عدة في الوقت ذاته مثل الاهتمام بالأطفال وتأمين الغذاء ومتابعة الحاجات الأساسية ومواجهة الخوف المستمر من المجهول، وهو ما يجعل مستويات القلق لديهن أعلى مقارنة بغيرهن".

وأردفت خالد أن "معظم الحالات التي تتابعها تعاني أرقاً متواصلاً وصعوبة في الحفاظ على النوم، إلى جانب شعور دائم بالتوتر تظهر معه أعراض جسدية مثل الخفقان أو ضيق التنفس. فبعض النساء يتعرضن لنوبات هلع مفاجئة لا يتمكن من تفسيرها، بينما تعاني أخريات إرهاقاً ذهنياً واضحاً يجعلهن أقل قدرة على اتخاذ القرارات اليومية أو التواصل باستمرار مع من حولهن".

ونوهت إلى أن "كثيراً من النساء لا يطلبن المساعدة في الوقت المناسب، إما بسبب انشغالهن بأعباء أسرهن، أو لعدم معرفتهن بأن ما يمررن به يمثل حالات قابلة للعلاج. لذلك فالتعبير عن الألم النفسي لا يحدث غالباً إلا أثناء جلسات الدعم الجماعي، حيث تكتشف النساء أن تجاربهن متشابهة وأن الضغوط التي يتحملنها ليست فردية".

وأكدت أن "البيئة الحالية في مراكز الإيواء لا تتيح تقديم تدخلات علاجية كاملة، لأن الخدمات المتوافرة محدودة للغاية مقارنة بحجم الاحتياج المتزايد. فالعمل الذي يقدم في الوقت الحالي يقتصر على تدخلات أولية تساعد على تخفيف التوتر، لكنها لا تكفي لمعالجة الاضطرابات المتجذرة التي طاولت عدداً كبيراً من النساء منذ بداية الحرب".

ومضت المعالجة النفسية في القول، "استمرار هذا الوضع من دون توفير دعم متخصص ومنهجي سيترك أثراً طويل الأمد على النساء، وسينعكس بالضرورة على الأطفال والمجتمع بأكمله، لأن الصحة النفسية للمرأة أصبحت اليوم محوراً أساسياً لاستقرار الأسرة في ظروف النزوح".

مسار التعافي

على رغم من اتساع نطاق الأزمات النفسية بين النازحين، تشير بعض المبادرات العاملة في الميدان إلى إمكانية الحد من آثار الصدمة عبر تدخلات تدريجية تعتمد على الدعم النفسي الأولي وتوفير بيئات آمنة للأطفال والنساء. إذ تعمل فرق الدعم المجتمعي في عدد من مراكز الإيواء على تنفيذ أنشطة مصممة لتخفيف التوتر، مثل الجلسات الجماعية وبرامج الترفيه العلاجي للأطفال وتدريب المتطوعين على أساسيات الإسعاف النفسي. وعلى رغم من محدودية الموارد، تسهم هذه الجهود في خلق مساحات تتيح للمتضررين التعبير عن تجاربهم وتقليل مستويات القلق.

ويؤكد المتخصص في الصحة النفسية الرشيد محمد أن "مسار التعافي يتطلب رؤية طويلة المدى تتجاوز التدخلات العاجلة. فغياب الاستقرار واستمرار حركة النزوح يجعلان أي تحسن نفسي هشاً ما لم يدعم بخدمات مستمرة تشمل المتابعة الفردية وتعزيز مهارات التكيف وتوفير برامج لإعادة الدمج المدرسي والاجتماعي للأطفال. لذلك يجب إعادة بناء النظام الصحي النفسي من خلال تدريب كوادر جديد وتوفير أدوات تشخيص وعلاج مناسبة وضمان وصول الخدمات إلى المناطق الأكثر تضرراً".

ويرى محمد أن "التعاون بين المنظمات الدولية والجهات الصحية المحلية يمثل خطوة أساسية لتوسيع نطاق الخدمات، بخاصة في ظل الانخفاض الكبير في عدد المتخصصين مقارنة بحجم الاحتياج. ومع ذلك يبقى توفير الموارد واستقرار الوضع الأمني عاملين حاسمين لتطبيق برامج فعالة يمكنها معالجة الاضطرابات المتراكمة لدى النساء والأطفال والرجال المتأثرين بالحرب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في السياق قالت استشارية الصحة النفسية مي خطاب، التي تعمل ضمن فرق الدعم النفسي المتنقلة داخل مراكز الإيواء، إن "جهود التعافي النفسي في السودان تواجه تحديات كبيرة بسبب محدودية الموارد وغياب الاستقرار. حتى التدخلات البسيطة، مثل جلسات الدعم الجماعي للأطفال أو النساء، تظهر أثراً واضحاً في تخفيف التوتر والقلق على المدى القصير. ومع ذلك هذه البرامج تبقى محدودة، ولا تستطيع أن تعالج الاضطرابات النفسية العميقة أو المتراكمة، خصوصاً لدى من عايشوا فقدان مباشر لعائلاتهم أو منازلهم".

وأضافت، أن "مسار التعافي يتطلب متابعة طويلة المدى تشمل تقييم كل حالة بصورة فردية وتقديم دعم نفسي مستمر ودمج المتضررين في بيئات تعليمية واجتماعية آمنة. كما أن تدريب المتطوعين والمجتمع المحلي على أساسيات الإسعاف النفسي والقدرة على التعرف على علامات الصدمة يمثلان خطوة مهمة إنما غير كافية".

وأكدت خطاب أن "التعاون بين المنظمات الدولية والمحلية ضروري لتوسيع نطاق الدعم، وأنه لا يمكن لأي برنامج أن يحقق نتائج مستدامة من دون استقرار الوضع الأمني وتوفير الموارد الكافية، بيد أن الصحة النفسية للنساء والأطفال هي عنصر أساس لتمكين الأسر والمجتمعات، وأن أي تحسين فيها ينعكس بصورة مباشرة على قدرة المجتمع على التكيف مع الأزمة الطويلة الأمد".

خطة تأهيل

تشير البيانات المتاحة إلى أن النظام الصحي النفسي في السودان يواجه ضغطاً غير مسبوق منذ اندلاع الحرب. فقد أدى انهيار المرافق الصحية في عدد من الولايات ونقص الكوادر المتخصصة وصعوبة إيصال الخدمات إلى مناطق النزوح إلى اتساع الفجوة بين الحاجة الفعلية والعرض المتاح من الرعاية النفسية.

وبحسب وزير الصحة هيثم محمد إبراهيم، فإن الوضع الراهن للصحة النفسية يتطلب تدخلات عاجلة وموازنة كافية ورؤية شاملة، خصوصاً مع تزايد الحالات النفسية نتيجة الحرب والظروف الراهنة. مشيراً إلى أن حاجات الصحة النفسية أصبحت أكثر وضوحاً بين من تعرضوا لصدمات بسبب الهجمات على المدنيين.

وشدد على أهمية دمج دعم الصحة النفسية في خدمات الرعاية الصحية الأساسية، مع الإشارة إلى نقص الكوادر، حيث يوجد حالياً 22 طبيباً نفسياً فقط في السودان.

وأشار إبراهيم إلى أن هناك خطة لإعادة تأهيل أجنحة ومستشفيات الطب النفسي المغلقة في البلاد، وعلى رأسها مستشفى التجاني الماحي بأم درمان، مع توفير خمس آلات علاج بالصدمات الكهربائية (ECT) لعدد من المستشفيات الرئيسة في الخرطوم والولايات.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير