Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 مارغريت أتوود تنتقل من ديستوبيا الخادمة إلى سيرة الذات

تتحول الذاكرة إلى بنية فنية ويصبح الزمن مادة قابلة لإعادة الكتابة

الروائية الكندية مارغريت أتوود (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

ملخص

يأتي كتاب مارغريت أتوود الجديد "كتاب الحيوات، مذكرات من نوع خاص" "Book of Lives: A Memoir of Sorts"، ليعيد رسم حدود العلاقة بين الذات والكتابة. وعبر هذا المشروع العميق، تواصل أتوود استعادة الماضي سردياً، باعتباره نوعاً آخر من أنواع قراءة الذات والعالم، حين تتحول الذاكرة إلى بنية فنية، ويصبح الزمن مادة قابلة لإعادة الكتابة، كما لو أن حياتها، مثل رواياتها، لا تفهم إلا عبر تأملها من جديد.

لا تبدو مارغريت أتوود بعد أكثر من ستة عقود أمضتها في جولات إبداعية، ككاتبة تستعيد حياتها أو تراجع مسيرتها، بل كأنها تعيد اختبار العالم نفسه من خلال الأدب. فمنذ بداياتها في أواخر الخمسينيات، كتبت أتوود كما لو أنها تضع يدها على نبض الزمن، تراقب تحولات الإنسان، وتفكك أوهام التقدم، وتستشعر التوتر بين ما تقوله الحكاية وما يخفيه الواقع. لم تكُن رواياتها مجرد تمارين تخييلية في الديستوبيا أو النقد السياسي، بل مختبراً حياً للأسئلة الكبرى مثل هشاشة الديمقراطية وانكسارات البيئة وتسييس الجسد والحدود القلقة بين الحرية والقسر. لذا وصلت إلى القراء لا بوصفها روائية وحسب، بل بوصفها ضميراً أدبياً يلتقط ما يتداعى في هذا العصر، ويعيد ترتيبه داخل سرديات تفتح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات.

سيرة غير مكتملة

يختلف كتابها الجديد عن السيرة الذاتية التقليدية لأن أتوود لا تقدم سرداً زمنياً عفوياً للذكريات، بل تفاصيل مدروسة من الخواطر والانعكاسات، ورؤية أدبية تفضي إلى علاقتها مع العالم وموضعها فيه، بالتوازي مع سرد كاشف عن مسيرتها المهنية ولحظات محددة من حياتها، فهي على قناعة بأن "داخل كل كاتب يوجد كائنان، في الأقل، الكائن الحي والكاتب. مع أن كل ما كتب لا بد من أن يكون قد مر بذهنهما أو عقلهما معا، إلا أنهما ليسا متشابهين".

والذاكرة هنا لا تقدم في صورة متسلسلة أو تقليدية، بل كوسيلة للتحول، فتُستخدم الصور البلاغية والاستعارات والتناقضات بين الأزمان، لتنظيم الماضي والحاضر على نحو يفتح الأفق لإعادة التفكير في الزمن والشخصية والمجتمع.

وأتوود، بدلاً من السعي وراء التوثيق الجاف للماضي، تقدم لنا سرداً يحتفي بالتفاصيل الحسية والعاطفية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالذكريات ولكنها تتجاوزها، مما يجعل من العمل ليس مجرد "سيرة ذاتية"، بل رواية للذات كجزء من الكل الأدبي. وتقول "ذات مرة تلقيت سؤالاً يقول: ’ماذا لو خُيرت في أي عصر آخر أعيش فيه، أي عصر سوف يكون؟‘ فكرت أن هذا السؤال عام جداً، لكنه جعلني أفكر: أي عمر، أي بلد، أية طبقة اجتماعية؟ أميرة من النبلاء أم حفارة خنادق؟ وحين أمعن في التفكير أجيب لم يكُن لدي أدنى شك في أنني، لولا عصر الطباعة، لكنت أفرك الأرضيات".

الذاكرة والشيخوخة

الكاتبة المولودة عام 1939 التي شهدت وشاركت في أحداث تاريخية وثقافية شيقة، تتتبع نمو حياتها الكتابية، وأعوام الكفاح عبر الستينيات والسبعينيات، ونشأة كل رواياتها وكثير من قصصها، هكذا تتسرب حياتها الشخصية إلى أعمالها والمواضيع والشخصيات ونقاط الحبكة، وثمة تفاصيل ممتعة عن طفولتها الاستثنائية في الغابة وعن أعوامها الجامعية وعن حياتها العاطفية وعن حياتها العائلية وقصة حبها مع غرايم غيبسون. وهي أول من يعترف بأنها بطلة في حفظ الضغينة، ولديها بضعة فؤوس تشحذها، ولا سيما في تصفية حساباتها مع طليقة زوجها وأشخاص آخرين.

 تحقق أتوود ذروة وعيها بحدود اللغة والزمن، فمذكراتها لا تقتصر على استعادة الماضي بقدر ما هي محاولة للتصالح مع التغيرات التي تطرأ على الذات مع تقدم العمر. والكتاب يمثل مواجهة مع الذاكرة، مع ما يمكن أن يتلاشى منها، ومع الواقع الذي يصبح أكثر تعقيداً مع مرور الزمن. وتتعامل أتوود مع مفهوم الشيخوخة والنسيان ليس على أنهما موضوعان منفصلان، بل كجزء من عملية الوعي المستمر بالذات والحياة. ولعله من المهم أن نذكر أن صاحبة "مفاوضات مع الموتى" تُعد من الكاتبات النشيطات اللواتي لم يستسلمن لتقدم العمر، فهي تستيقظ في الخامسة صباحاً، تتفقد بريدها الإلكتروني، ثم تبدأ بالاندماج مع عالمها الإبداعي، سواء عبر القراءة أو الكتابة، أو الاستعداد لتقديم محاضرة واقعية أو افتراضية.

هي تكتب عن نفسها، لكنها في الوقت ذاته تكتب عن كل من يعايش هذه التجارب من صراع مع الذاكرة والتغيير والشيخوخة، فالكتابة هنا تصبح وسيلة للبقاء، لا مجرد تسجيل للحياة.

الحكاية والوصايا

في "حكاية الخادمة" قدمت مارغريت أتوود واحدة من أكثر الصور الدرامية قسوة لهيمنة النظام الأبوي عبر ابتكار عالم ديستوبي مغلق تختزل فيه النساء إلى وظائف جسدية خاضعة لطقوس سياسية ودينية صارمة، وتحول فيه الخصوبة إلى مورد للدولة، والإنجاب إلى واجب مفروض باسم الخلاص الجمعي. وهذا البناء السردي القائم على التطرف الرمزي مكن الرواية من أن تتحول سريعاً إلى نص عالمي قابل للتأويل عبر ثقافات مختلفة، إذ أحس القراء، في الغرب كما الشرق، بأن الطقوس التي تمارس ضد النساء الضعيفات ليست مجرد خيال سوداوي، بل استعارة عن آليات السيطرة على جسد المرأة في مجتمعات شتى. وهكذا أصبحت الرموز مثل اللون الأحمر والطقوس الدينية والمراقبة المستمرة ومصادرة اللغة، أدوات تفكيك لأسئلة تتعلق بالهوية الفردية وحرية الجسد وحق المرأة في تقرير مصيرها، مما جعل من الرواية مرجعاً مركزياً في النقاشات النسوية والحقوقية المعاصرة.

لقد قدمت أتوود في هذا النص مزيجاً مركباً من الاستعارة الاجتماعية والتحذير السياسي، فـ"حكاية الخادمة" ليست فقط تمريناً تخييلياً، بل نقداً حاداً للثقافات التي تعلي من القوانين البطريركية أو الدينية على حساب الحرية الفردية. وبهذا المعنى، أصبحت الرواية رمزاً ثقافياً عالمياً لأنها نجحت في الربط بين التجربة الفردية لامرأة مسلوبة الإرادة وصور أوسع للقمع المؤسسي. لذلك استخدم لباس الخادمات الأحمر في دولة جلعاد الديستوبية والذي يرمز في النص إلى الطاعة والخصوبة القسرية، في تظاهرات "مي تو" وفي احتجاجات نسوية حول العالم، مما حول النص إلى علامة سياسية تتجاوز حدود الأدب.

ومع هذا الإرث الثقيل، عادت أتوود بعد عقود لتكتب "الوصايا"، فتوسع العالم الديستوبي وتعيد تفكيكه من الداخل. وضمن هذا العمل الجديد، لا تكتفي بالعودة لعالم جلعاد، بل تقدم قراءة جديدة لطبيعة السلطة ولآليات القمع عندما تتغلغل عبر الأجيال. ويظهر هذا التوسع عبر تعدد الأصوات السردية، وتمنح السلطة النسائية نفسها مساحة للتأمل، العمات اللواتي يدربن الخادمات والفتيات اللواتي يكبرن تحت النظام والجيل الذي يعيش خارجه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتبين في "الوصايا" أن السلطة ليست كتلة ثابتة، بل هي منظومة تتبدل وتعاد صياغتها، أحياناً بأيدي النساء أنفسهن اللواتي قد يجدن في السلطة ملاذاً للنجاة، أو وسيلة لإعادة تعريف مواقعهن في الهيكل الاجتماعي. وفي مقابل هذا التعقيد، تمنح الرواية مساحة رحبة لصوت المقاومة المتخفي والمتقطع والموروث الذي لا يتوقف عن البحث عن منفذ للحرية. وإذا كان هذان العملان يقدمان رؤية ديستوبية للسلطة، فإن كتابها الجديد يذهب إلى الداخل، إلى سلطة الذات على نفسها.

بين الجنوب والشمال

ويُشار إلى أن وعي أتوود بأزمات العالم ينبع جزئياً من طفولتها المبكرة التي تشكلت في ظل علاقتها القوية مع الطبيعة، فتربت في كنف أب عالم حشرات وأم متمردة، عاشوا كأسرة صغيرة في غابات  شمال أونتاريو صيفاً، حيث كان والدها يجري أبحاثه العلمية، وهناك لا كهرباء ولا وسائل تقنية حديثة، وفي الشتاء يعودون لتورنتو، وهذا التنقل بين الطبيعة الخام والمدنية الحديثة منحها عيناً مراقبة ناقدة، إضافة إلى انتمائها لبلد لم يشهد على أرضه أي نوع من الحروب، لذا راقبت علاقة كندا بالولايات المتحدة، وعلاقة الشمال ككل بالجنوب، وتقاطع القمع الأبوي مع الانهيار البيئي والصراعات الأيديولوجية.

وهذا الإدراك الحر يظهر بوضوح في "الوصايا"، إذ تتخذ الطبيعة، بما فيها من صمت واتساع، دور الخلفية التي تذكر القارئ بأن السلطة السياسية لا تعمل في الفراغ، بل داخل منظومة بيئية وجغرافية تؤثر وتتأثر، ففي الوصايا مثلاً، تمتزج مشاهد الغابات والمناخ المتقلب بالعنف السياسي. لنقرأ هذه الفقرة، حين تتحول ليديا من امرأة حرة، إلى أداة بيد النظام، "كنتُ أعرف أن القانون ليس سوى كلمات على ورق، وأن الكلمات يمكن تغييرها. لقد رأيت ذلك يحدث من قبل، في أماكن أخرى، في أزمنة أخرى. لم أكُن أتوقع أن يحدث هنا، في بلدي، في مدينتي، في غرفة نومي. لكن عندما جاء الرجال يحملون البنادق، لم يسألوا عن رأيي في التفسير القانوني. سألوا فقط: ’هل أنتِ معنا أم ضدنا‘؟ وكنتُ أعرف أن الإجابة الخاطئة تعني الموت، أو شيئاً أسوأ. لذا قلتُ: ’معكم‘. وكانت تلك الكلمة بداية كل شيء".

وبين "حكاية الخادمة" و"الوصايا"، تتداخل أسئلة الحرية بوصفها مشروعاً صعباً يصاغ عبر الزمن. وفي هذا الامتداد السردي، تتعمق رؤية أتوود للسلطة بوصفها بنية متحركة، وللمقاومة بوصفها فعلاً متجدداً، وللمرأة بوصفها ذاتاً قادرة على إدارة صراعاتها مع النظام الأبوي، لا فقط عبر الخضوع له أو الهروب منه.

مرايا متعددة

على الصعيد العربي، رسخت مارغريت أتوود حضوراً لافتاً بفضل ترجمة عدد من أعمالها الأساسية التي أتاحت للقراء الدخول إلى عالمها السردي المركب والمتعدد الطبقات. فقد لقيت كتبها مثل "حكاية خادمة" و"القاتل الأعمى" و"مفاوضات مع الموتى" رواجاً واسعاً، وأصبحت من أكثر النصوص المقروءة في الأوساط الثقافية العربية لما تحمله من كثافة فكرية وقدرة على مساءلة السلطة والجسد والذاكرة والحرية. ولا يقف تفاعل القارئ العربي مع هذه الأعمال عند حدود المتعة السردية أو التماهي مع شخصياتها، بل يتجاوز ذلك إلى قراءة نقدية تضيء تشابكاتها مع القضايا العربية نفسها، من قمع سياسي وظلم اجتماعي ومحدودية الحريات، وصولاً إلى النقاشات النسوية المعاصرة.

يُذكر أيضاً أن بعض القراء في الغرب رأى أن أتوود ضمن مذكراتها، غرقت في ذكر كثير من التفاصيل لا داعي لذكرها، مما جعل المذكرات تتجاوز 600 صفحة، وهناك اعتراض أيضاً على النسخة الصوتية التي سجلتها الكاتبة بنفسها، فقد ظهر صوت مارغريت أتوود مرهقاً ومملاً في كثير من الأحيان، مما يجعل الاستماع مهمة شاقة، لكن أيّاً تكُن هذه التحفظات، يظل الكتاب إضافة جوهرية لفهم مشروعها الأدبي. وهذا الكتاب ليس مجرد مذكرات، بل مرآة قلقة لعصر يبحث عن معنى، ولذات لا تتوقف عن مساءلة العالم ومساءلة نفسها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة