ملخص
من الواضح أن الكاتب المسرحي الفرنسي الفريد دي موسيه، قد فتن بالممثلة المسرحية إليزابيث راشيل فليكس التي اشتهرت باسم "مدموازيل راشيل" على رغم أنها لم تشأ أن تمثل دوراً في أي من مسرحياته
قد تكون الفنانة المسرحية الفرنسية التي اشتهرت باسم "مدموازيل راشيل" رغم أن كل فرنسا كانت تعرف أن اسمها الرسمي هو "إليزابيث راشيل فليكس"، منسية إلى حد كبير اليوم هي التي لم تعش سوى 37 سنة بين 1821 و1858، لكنها في زمانها كانت تعد ملهمة كبار الأدباء بدءاً من فيكتور هوغو الذي كان لا يتوقف عن إبداء أمله في أن تمثل واحدة من مسرحياته على الخشبة، والفنانة التي كانت سارة برنار تعدها أستاذتها الكبرى في الفن التراجيدي، معبرة عن ذلك بقولها، "أملي أنها لن تغضب مني في عالم الآخرة، حين أقول إنني أكمل رسالتها المسرحية".
ولئن ذكرنا هنا هوغو وسارة برنار، فما هذا إلا لأنهما كانا قمتين في مجالهما، لذا فإن شهادتهما في راشيل كانت أساسية. ومع ذلك يمكننا أن نقول إن الفريد دي موسيه، الشاعر والكاتب المسرحي، تفوق على الجميع في "تكريم" راشيل، وذلك حين وضع عنها وهو في قمة مجده ومكانته في الحياة الفنية الفرنسية، ذلك الكتاب الأنيق المعنون "عشاء عند الآنسة راشيل" وكان ذلك في عام 1839 بعد أشهر قليلة من عشاء دعته إليه بالفعل تلك الفنانة التي كانت يومها ملء السمع والبصر في باريس رغم أن سنها لم تكن تزيد على 19 سنة. وكانت راشيل آتية من أسفل دركات الحياة الاجتماعية، لا سيما منها تلك المتاحة للفنانين اليهود الهامشيين، وكان أبوها واحداً منهم، لذا لم يتح لها في طفولتها أكثر من أن تدور في الشوارع مع إخوتها على خطى الأب الذي كان فناناً متشرداً حقيقياً، لكنها وفي زمن قياسي، تمكنت بأعجوبة فنية من فرض نفسها ممثلة تراجيدية لا نظير لها وقد دعمت مواهبها بثقافة رفيعة من الصعب أن ندرك اليوم كيف تمكنت من الحصول عليها.
حكاية سهرة
مهما يكن من أمر، فمن الواضح لمن يقرأ الكتاب الذي أصدره الفريد دي موسيه، أن الكاتب قد فتن بالممثلة على رغم أنها لم تشأ أن تمثل دوراً في أي من مسرحياته. وهو يشير في الكتاب إلى هذا مؤكداً أن راشيل كانت ترى راسين، وربما كورناي إلى جانبه الكاتب الوحيد الذي يملأ عينها وتحب أن تمثل مسرحياته "في انتظار أن يجود الدهر بمثله"، بحسب تعبيرها.
وحتى وإن كنا نعرف أن كتاب دي موسيه عن "المدموازيل" لم يبدل من الأمور شيئاً، فإن الشاعر خرج من سهرته في دارتها ثملاً مفتتناً بالممثلة، كما كتب شارحاً في تقديمه للكتاب وتفسيره الظروف التي كانت خلف كتابته.
ولقد ولد الكتاب، على أية حال، ليلة 29 - 30 مايو (أيار) 1839 حين التقت راشيل دي موسيه، وهي خارجة من غرفتها في مسرح "البور رويال"، حيث كانت تقدم أحد عروضها، فما كان منها إلا أن دعته إلى العشاء في دارتها رفقة عدد من الأصدقاء من علية القوم، وبعض رفيقاتها من سيدات المجتمع. "“كانت النتيجة أن ارتجلنا سهرة من حول بعض الأطعمة وراحت المدموازيل تروي لنا في حضور السيدة أمها، حكايات سنوات بؤسها يوم كانت لا تأكل إلا في صحون من قصدير، ولم تكن تملك سوى زوج من الشرابات الرخيصة، وتضطر إلى أن تسرق كي تشتري نسخاً من مسرحيات لموليير.."، كما يقول الكاتب الشاعر الذي يضيف أن الساهرين وفي لحظة مكرسة للشراب الخفيف، استمتعوا براشيل وهي تعلن "للمرة الألف، تبجيلها راسين، الكاتب التراجيدي الكبير، معلنة أنها قبل فترة أبدت رغبتها في أن تلعب دور فيدرا كما كتبه راسين نفسه قبل زمن طويل، لكنهم قالوا لها إنها أصغر سناً بكثير من أن تقوم بالدور، وهزيلة عليه أكثر من اللازم".
وهنا، وكما يروي دي موسيه، ضحكت الفنانة الصبية ضحكة مجلجلة وقالت إنها صرخت في وجههم: "إنه أجمل دور كتبه راسين في حياته. لقد كتبه لي خصوصاً، طبعاً قبل ولادتها بأكثر من قرنين أو ثلاثة، لذلك سألعبه ولو أمام ثلاثة أو أربعة متفرجين!".
ثقة مفرطة بالنفس
في سياق النص الذي كتبه دي موسيه مستوحياً تلك السهرة، يتحدث عن ثقة راشيل الطائلة بنفسها لكنه يزيد بأنه اكتشف حول طاولة العشاء كيف أن لتلك الثقة ما يبررها، كما أنه فهم من خلال تمسك الفنانة بموقفها من راسين، قوة تأثير هذا الكاتب ليس على راشيل فحسب، بل على أجيال بأسرها من عشاق المسرح.
ولم يكن غريباً أن يثني الكاتب على إصداره الكتاب، بمقال نشره في مجلة "العالمين"، يذكر فيه كيف أن انضمام راشيل إلى مسرح "الكوميدي فرنسيز" قد زاد أضعافاً مضاعفة أعداد جماهير عروض هذا المسرح. وهو أمر أثنى عليه محررو المجلة بالعودة إلى غرابة حياة راشيل ومسارها الإبداعي الفريد، المسار الذي جعل منها واحدة من أشهر ممثلات المسرح الفرنسي في القرن الـ19، ممهدة من دون أن تدري بالطبع، لظهور ساره برنار.
حكاية تراجيدية
ويروي المقال كيف أن راشيل قد ولدت في تلك العائلة اليهودية الألزاسية البائسة. وكانت طفولتها شاقة إذ كانت وهي بعد طفلة، تغني مع أخت لها في الشوارع والساحات العامة لكسب بعض المال. لكن موهبتها المبكرة، وقوة حضورها، دفعتا بعض الأساتذة للاهتمام بها، فتلقت تعليماً مسرحياً جاداً أعاد تشكيل صوتها وطريقة إلقائها ومخارج حروفها. ولقد قيل عنها دائماً إنها كانت مهووسة بمخارج الأصوات وبإتقان الإلقاء إلى درجة أنها كانت تقضي الساعات أمام المرآة تتدرب على أقل الحركات كأنها تنحت شخصيتها نحتاً.
دخلت راشيل "الكوميدي فرانسيز"، وهي في سن مبكرة جداً، لكن صعودها بدأ فعلياً عام 1838 حين أدت شخصية "أرمينيا" في مسرحية كورناي. غير أن شهرتها الكبرى جاءت مع أدائها مسرحيات جان راسين، لا سيما دوري أندروماك وفيدرا، حيث تمكنت كما قال النقاد من "إعادة الحياة إلى اللغة الرصينة الموزونة التي كان الجمهور قد نسيها منذ زمن".
ومن هنا أضاف النقاد أن من فضائلها الكبرى أنها "نفضت الغبار عن راسين"، وذلك عبر تمكنها من أن تجمع بين "صرامة اللغة التراجيدية الكلاسيكية، والانفعالات الإنسانية الحقيقية، مشعرة جمهورها أن الشخصيات ليست تماثيل، بل كائنات من لحم ودم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حالة فريدة
وهو ما يمكن أن نجد إضافات عليه لدى دي موسيه الذي أكد أن ما ميز راشيل، إضافة إلى موهبتها، اقتصادها في الحركة إذ "كانت تقف على الخشبة بثبات يقارب السكون، لكن صوتها وحده، بعمقه وامتداد طبقاته، كان يكفي ليملأ المسرح. وهي كانت تعد أن كل حركة زائدة تقلل من قوة الكلمة. ولقد منح النقاد هذا الأسلوب، المخالف لأسلوب زمانها الميال للمبالغة، صفة "التراجيديا الجديدة" التي تعتمد على النبض الداخلي لا على الانفعال الخارجي.
أما على المستوى الاجتماعي فكانت راشيل حالة فريدة إذ أصبحت شخصية باريس الثقافية الأولى في أربعينيات وخمسينيات القرن الذي عاشت فيه، تتردد على صالونات للنخبة تحضرها شخصيات سياسية كويس نابليون. غير أن حياتها العاطفية، وكما لم يفت دي موسيه أن يؤكد في كتابه، كانت وتبقى مثار جدل واسع إذ ارتبط اسمها بعدد من الشخصيات الرفيعة، مما جعلها شخصية محط فضول الصحافة التي لم تكن تتردد في متابعة أدق تفاصيل حياتها... أما هي فكانت لا تعبأ بمثل "هذه الأمور"، معلنة نفسها "كاهنة المسرح، بل قديسته".