Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رقصة الكدرة المغربية "كتابة بالجسد" تحكي أسرار الصحراء

تعتمد بالأساس خطاب الجسد موضوع الإيماءة ومركز الرؤية ومصدر الحركة في الفضاء

رقصة الكدرة الشعبية والتراثية صارت نادرة لا تظهر سوى في مناسبات قليلة (مواقع التواصل)

ملخص

رقصة الكَدرة هي أشبه بكتابة جسدية في الفضاء، يكون جسد الراقصة فيها محورياً ومتعدداً في حركاته وتعبيراته وانفعالاته أيضاً، وأيضاً يتميز أداء الكَدرة بأن تجلس النساء للرقص داخل شكل دائري متماسك الأطراف، ورجال يصفقون وفق إيقاعات الموسيقى التي يحدثها النقر على الآلة الموسيقية.

تتعدى رقصة الكَدرة كونها تعبيراً راقصاً شعبياً تشتهر في مناطق شاسعة بالصحراء المغربية، إلى كونها "أرشيفاً شفوياً" غير مكتوب للمجتمع الحساني الصحراوي، تدونه جسد المرأة الراقصة بلباسها وغنجها وتمايلاتها، وبالطقوس الاحتفالية التي تختزن ذاكرة القبائل الصحراوية، وتمتح من عادات وذاكرة الفضاء الصحراوي.

وعلى رغم أنها رقصة حظيت بكثير من الاهتمام والعناية والممارسة عبر الحقب الزمنية في المجتمع الصحراوي، غير أن الكَدرة (تنطق بالكاف المثلثة) باتت تتعرض لخطر الاندثار، بسبب غياب حمل مشعل هذا التعبير الشعبي من طرف الأجيال الجديدة، وأيضاً بسبب الهجرة من المدن إلى القرى، وتحول هذه الرقصة إلى "أداة سياحية ترفيهية" أكثر منها ذاكرة تاريخية حية تحمل أرشيفاً صحراوياً غير مكتوب.

توصيف الكدرة

تتوسط امرأة حلقة دائرية تضم مشاركين في رقصة الكدرة الشعبية الصحراوية، وإلى جانبها رجل يسمى "النكار" الذي يكلف بالإيقاع الناجم عن ضرب آلة موسيقية تراثية مشكلة من جرة طينية مغلقة بقطعة من الجلد.

تغلق الراقصة، التي تكون مرتدية في الغالب الملحفة الصحراوية الشهيرة، عينيها بشكل شبه كامل وسط الحلقة الدائرية، وتترك لجسدها حرية التمايل يمنة ويسرة، كما تقوم بحركات معينة بأصابع يديها، وهي جاثية على ركبتيها، مرددة بعض الأهازيج المرتبطة بهذه الرقصة.

يتطرق الباحث في الثقافة والتراث الحساني الصحراوي، إبراهيم الحيسن، إلى تعريف ومقومات رقصة الكدرة، بالتأكيد على أنها "رقصة شعبية تعتمد بالأساس خطاب الجسد موضوع الإيماءة ومركز الرؤية ومصدر الحركة في الفضاء، وتقدمه ضمن سياقات كوريغرافية كثيرة ومتنوعة يتكامل فيها الديني والجمالي والميتافيزيقي والأسطوري، بل تقوم على سيميائية الرقص الفردي داخل حوار جماعي يعج بالكلمة والنغمة والحركة والقول الشعري".

 

وفق الحيسن "تقوم رقصة الكَدرة على مكونات جمالية وتعبيرية أساسية، مثل الإيقاع الذي تنتظم وفقه الإنشاد والأشعار (الحمَّايات) وآلة النقر المستعارة من عالم المطبخ واللباس التقليدي والحلي، فضلاً عن فضاء اللعب المستدير الذي يسمى (الكَارة)".

ويسجل الباحث أن رقص الكَدرة يعد من اختصاص الفتيات العازبات والنساء المطلقات، وفي حالات نادرة المتزوجات منهن، لكن من دون أن يكشفن عن جوانب من أجسادهن، واللواتي تتكلف بإحضارهن وصيفة (خَادَمْ أو مْعَلْمَة) بعد توصيتهن بعدم فتـح الأعين إلا وفق القدر اللازم الذي يمكنهن من رؤية ما بحولهن، علاوة على تحريك الأصابع انسجاماً مع حركات الأذرع والتلويح بالضفائر.

وتبعاً للمصدر ذاته، فإن رقصة الكَدرة هي أشبه بكتابة جسدية في الفضاء، يكون جسد الراقصة فيها محورياً ومتعدداً في حركاته وتعبيراته وانفعالاته أيضاً، وأيضاً يتميز أداء الكَدرة بأن تجلس النساء للرقص داخل شكل دائري متماسك الأطراف، ورجال يصفقون وفق إيقاعات الموسيقى التي يحدثها النقر على الآلة الموسيقية.

أكبر من استعراض فاتن

ليست رقصة الكدرة فقط إيقاعات وتموجات جسدية للمرأة الراقصة أو نقراً على القِدر وسط الحلقة الدائرية، بل هي -وفق باحثين ومهتمين، تراث صحراوي شفوي غير مكتوب، يستحضر تقاليد القبائل الصحراوية وشيم الشجاعة والإقدام والبطولة.

في هذا السياق تقول منيفة بنت ركاب، سيدة مطلقة تنحدر من إحدى قبائل طاطا الصحراوية، امتهنت رقصة الكدرة طيلة سنوات في محافل أسرية وفي حفلات الزواج، قد تظهر للبعض أنها مجرد استعراض لمفاتن المرأة أو لحركاتها المتمايلة فقط.

وتابعت المتكلمة بأن "هناك أيضاً من قد يرى الكدرة رقصة شعبية تروم البحث عن الإيقاعات وخلق نوع من الانتشاء لدى الحاضرين أو الجمهور، غير أن حقيقة هذه الرقصة أكبر من ذلك بكثير، فهي تحكي الكثير من أسرار القبائل الصحراوية، وتمجد قيم الشهامة والبطولة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن أمثلة سرد قصص البطولة الصحراوية، وفق الراقصة السابقة للكدرة، القول عن الفارس المقدام الذي يدافع عن الحق ويواجه الظلم والباطل: "سَرْجُه مشدود... ما يرهب لو عاد الحدّ حدود... سيفه يشهد يوم الهيبة وطعنته ما فيها مردود".

ومعنى هذه المقاطع التي يتم تردادها في بعض وصلات الكدرة الصحراوية أن السرج الذي يضعه الفارس على صهوة الحصان يبقى مشدوداً طالما أنه يصول في المعارك، وأن السيف يشهد بشجاعة هذا الفارس وإقدامه حتى أن طعنته لا راد لها".

توثيق ذاكرة

يلتقط خيط الحديث من راقصة الكدرة السابقة الباحث المحلي في التراث الصحراوي محمد لرباس، ليؤكد أن "هذه الرقصة توثق لذاكرة القبائل الصحراوية في العديد من مناطق الجنوب المغربي، توثيقاً شفوياً يتم تناقله عبر الألسن وترديد الأهازيج وذكر المناقب والملاحم"، مستدركاً أنه يبقى تراثاً غير مكتوب بسبب الطبيعة الخاصة للمجتمع الصحراوي القائم على التواصل والتناقل الشفوي بين الأجيال".

واستطرد المتكلم بأن رقصة الكدرة تتجاوز الحيز الضيق الذي يرغب البعض حشرها فيه، سواء الحيز المكاني أو الزمني أو الدلالي أيضاً، فهي لا تنحصر في مجرد حلقة دائرية بل جغرافيتها الصحراء وما تحبل به من قصص وحكايات سردية لبطولات وأمجاد وأحداث تاريخية أيضاً.

وزاد الباحث بأن "هذه الرقصة أيضاً تتجاوز الحيز الزمني بكونها تمتد عبر الزمن منذ حقب سابقة إلى اليوم على رغم تراجع إشعاعها في السنوات الأخيرة"، مكملاً بأن "الكدرة وثيقة بصرية للزي الصحراوي والتراث الحساني".

 

وختم الباحث كلامه بالقول إن دلالات الكدرة وأبعادها تتجاوز أيضا كل ما هو فرجوي أو طقوسي لإمتاع العين، كما تتجاوز ما يسميه البعض غواية الجسد الأنثوي، إذ هي رقصة تعبر عن مكنونات الإنسان الصحراوي، خصوصاً المرأة، باعتبارها كائناً لا تستقيم الحياة في الصحراء من دونه، مع الارتباط بماضي وتاريخ القبيلة الصحراوية وما تعنيه من كرم وسخاء وحفاوة وشجاعة وفروسية في سابق الزمان.

تحولات عميقة

وإذا كانت رقصة الكدرة تحظى بكل هذا الزخم من الدلالات الاجتماعية والنفسية لساكنة وقبائل الصحراء، فإنها لم تعد بذلك الانتشار الكثيف الذي كانت عليه في سنوات وأزمان سابقة، بسبب العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية، منها الهجرات من المدن إلى البوادي، وعدم تسلم الأجيال الجديدة مشعل هذه الرقصة من يد الأجيال الرائدة في هذا الرق التراثي الشعبي.

في السياق، يرى الباحث إبراهيم الحيسن أن هذه الرقصة التقليدية شهدت تحولات كثيرة في الأداء والمحتوى نتيجة توقف نشاطات مجموعة من الفرق الموسيقية المتخصصة والجمعيات التراثية التي أخذت على عاتقها الحفاظ على هذا الموروث الغنائي المحلي، إلى جانب تفكك أعضائها في غياب الخلف.

وعزا الباحث أيضاً هذا الانحسار والتراجع في إشعاع الكدرة إلى "التحولات السوسيو ثقافية الكثيرة التي أثرت في مظاهر الأفراح والاحتفاليات الاجتماعية ومناسبات الزواج المحلية التي كانت رقصة الكدرة تقام بمناسبتها لعدة أيام"، مضيفاً عاملاً آخر هو ندرة المهرجانات الموسيقية الشعبية في الآونة الأخيرة.

وخلص الحيسن إلى أن هذه الرقصة الشعبية والتراثية صارت نادرة لا تظهر سوى في مناسبات قليلة، لكن بشكل مختلف يبتعد من خصائصها التعبيرية والجمالية التي تميزها، مسجلاً بالمقابل وجود مبادرات لبعض شباب المنطقة الغيورين تمثلت في محاولات إحيائها، "لكن الجهود التي قاموا بها تظل محدودة وبحاجة إلى الدعم والتشجيع".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات