قبل شهر من زواجها، حُجبت جميلة في غرفة مظلمة بمنزل والدها في مدنين جنوب شرقي تونس، لمدة شهر بالتمام والكمال، لا يُسمح لها أن ترى نور الشمس ولا أن تلامس جسدها لفحات الرياح الصحراوية الحارة، يُفتح الباب بين الفينة والأخرى من أجل تقديم ما لذّ وطاب من الطعام أشكالاً وأنواعاً، حتى يمتلئ جسمها وتصبح أكثر بياضاً ونضارة. وطيلة هذا الشهر، تدهن جميلة جسدها بمساحيق طبيعية على غرار دقيق الحلبة بالعسل ودقيق الحمص ومسحوق مبيض مع ماء الورد والطين وغيرها من الوصفات التقليدية، غالبيتها تهدف إلى جعل بشرتها أكثر بياضاً.
أسيرة الزواج
يبدو أن طقس الجنوب القاسي وتأثيره في البشرة جعلا مرحلة حجب العروس ضرورية لتكون ليلة زفافها في قمة جمالها، بحسب مقومات الجمال لدى أهالي الجنوب والذي يرتكز على امتلاء الجسم وبياضه.
عند المساء، تحضر صديقات جميلة وقريباتها لتسليتها وتقصير الوقت عليها، بالغناء والرقص والضحك وتجاذب الأحاديث التي تدور بمعظمها حول تجارب الزواج السابقة وكيف تكسب رضا زوجها وحبّه.
تقول جميلة وهي ضاحكة "لن أنسى هذه التجربة على الرغم من صعوبتها، فهي جعلتني أسيرة الزواج، فحدّت من حريتي وكأنني مسجونة وأرغمتني على الزيادة في الوزن، ما جعلني أدخل في نظام غذائي صارم بعد الزواج بأمر من الطبيب لتسهيل الحمل"، وتضيف جميلة بعد 20 عاماً من زواجها، "أتذكّر كل ما يحيط بهذه المرحلة من تفاصيل جعلت منها تجربة لن تُنسى"، مردفةً "لكن لو تعود بنا السنوات إلى الماضي لن أعيدها لأنها مرهقة نفسياً وجسدياً".
أما في منطقة قابس، فيختلف الأمر. فالفتاة المقبلة على الزواج لا تُحجب لكنها تذهب إلى الإقامة مع إحدى صديقاتها أو أقاربها قبل ثلاثة أيام من الزفاف وتسّمى العادة بـ"الهروب". حتى تتعود الفتاة على العيش بعيداً من العائلة، لتعود بالغناء والطبل في موكب مزخرف ومزيّن إلى منزل العائلة.
طرد الأرواح الشريرة
هذه عادة من بين عشرات العادات والتقاليد التي تختلف من منطقة إلى أخرى في مناطق تونس، لا يزال بعضها موجوداً والبعض الآخر لم يعُد يثير اهتمام شباب اليوم، فاستغنى عنه.
وتبدأ تحضيرات الاحتفال التي تتحمّلها الفتاة بغرابتها قبل أشهر من الزواج، ويقتصر تحضير زوج المستقبل الذي عادة ما يكون منشغلاً بتجهيز بيت الزوجية، على عدم حلق لحيته قبل أيام قليلة من حفل الزفاف، ليظهر بكامل أناقته خلاله. لكن العروس التونسية وفي غالبية المناطق، تنطلق في "طقوسها" قبل زفافها بأشهر، من خلال ارتداء أبشع وأسوأ ما لديها من ثياب وتتعمّد الظهور بمظهر سيّء وغير أنيق، وعليها ألا تضع مساحيق تجميل وتتجنب تعريض نفسها لأشعة الشمس من خلال ارتداء غطاء رأس وقفازات، وتكاد تكون هذه العادة أكثر تجذّراً في الجنوب التونسي، نظراً إلى قساوة الطقس وارتفاع درجات الحرارة في مواسم الأعراس. وتُسمّى هذه العادة في تونس بـ"لم السول" أي جمع الجمال، وذلك بهدف الظهور بكامل جمالها وأناقتها في اليوم الموعود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تقتصر العادات في الأفراح التونسية على تحضير العروس، بل تتعدى ذلك لممارسات أخرى أكثر غرابة تصل إحداها إلى العنصرية. ففي جزيرة جربة، جنوب شرقي البلاد، ترافق العروس خلال أيام الاحتفال بالزواج، امرأة سوداء البشرة يطلق عليها اسم "الخادم"، تقوم عادة بالغناء والضرب على الدف والاعتناء بالعروس من خلال الاغتسال ومساعدتها في ارتداء ملابسها وغيرها، إذ يعتقد أهالي الجنوب أن "سود البشرة" يجلبون الحظ ويحمون العروس وأهلها من الحسد.
وتقول سعدية مصباح، رئيسة جمعية مناهضة الميّز العنصري، إنه "على الرغم من الطابع الاحتفالي وأجواء البهجة في حفلات الزواج، إلا أن بعض العادات العنصرية محزنة ومخجلة للبعض"، مفسّرة "إذ لا يحلو الفرح عند بعض العائلات الميسورة في جزيرة جربة مثلاً، إلا بجلب خدم سود البشرة من أجل التبرّك بهم وطرد الأرواح الشريرة"، وموضحة "حتى إن بعض الوظائف التي تتعلق بحفلات الأفراح، لا يمكن أن يمارسها إلا سود البشرة على غرار من يضرب على الطبل ومن ينفخ على المزمار".
وتضيف أن "هذة العادة للأسف انتشرت في الفترة الأخيرة في تونس العاصمة، فبعض العائلات الميسورة تجلب خدماً من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء من أجل التباهي والاعتناء بعروستهم وجلب الحظ".
عين الحسود
من العادات الأخرى التي انفردت بها صفاقس الجنوبية، التي تُعرف أساساً بوفرة إنتاجها السمكي، هي عادة القفز على السمكة، التي يجب أن تكون كبيرة الحجم ويتم تزيينها بأشرطة ملونة، وتوضع أمام العروسين في طبق ويقومان بالقفز فوقها سبع خطوات. وقد حرص الأهالي على ممارستها إلى اليوم في سبيل طرد العين والحسد وحماية العروسين. أما في مدينة بنزرت شمال تونس، فلا تختلف العادة كثيراً، إذ تربط السمكة حول ساق العروس لتجرّها بضعة أمتار ثم تقفز فوقها سبع مرات، لتطبخ السمكة في ما بعد على أن يكون النصيب الأول منها للعروس. هذه العادة أخذها التونسيون من يهود بلدهم، والهدف منها حماية الناس من عين الحسود.
ومن الطرائف الغريبة الأخرى التي يتميّز بها بعض التحضيرات للزواج، تخلّي العروس عن ملابسها القديمة لصديقاتها وقريباتها لارتدائها، اعتقاداً منهن بأن ذلك يعجّل زواجهن.
وتقول إيمان العامري إن "مثل هذه العادات تدخل البهجة على أجواء الأعراس. أتذكّر جيداً كيف تخاطفت صديقاتي ملابسي القديمة في ما بينهن في أجواء احتفالية ميّزها الضحك حدّ الهستيريا".
جيل اليوم لم تعُد تستهويه هذه العادات وأصبح يتندّر بها ويرفضها، وفي بعض الأحيان يسهم بعض العادات القديمة، خصوصاً المتعلقة منها بالهدايا على غرار العجل وملازم عشاء الزفاف، التي من واجب العريس تقديمها إلى أهل العروس، في توتير العلاقات، ما قد يصل إلى حد إبطال الزواج.