Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موقف متأخر من صاحب "كارمينا بورانا" ضد النازيين بحكاية للصغار

عندما نفض كارل أورف عن نفسه عباءة الصمت المخجل ولحن أوبرا ذات رسالة

كارل أورف (1895 - 1982) (موقع الموسيقى الألمانية)

ملخص

المرأة الذكية أو "الذكية" فقط، هو العمل الموسيقي الذي يعتبر واحداً من أهم أعمال الموسيقي الألماني كارل أورف المسرحية بعد "كارمينا بورانا" بالطبع، وفيها سجل أول موقف معاد للنازية بعدما اتهم أنه ممالئ لها

أمران كانا يثيران استياء كبيراً تجاه الموسيقي الألماني كارل أورف المعروف عالمياً بعمله "العلماني" الموسيقي الكبير "كارمينا بورانا" إلى جانب بعض الأعمال الثانوية، التي لم يتمكن أي منها من مضاهاة تلك المقطوعات الرائعة التي استقاها أورف من موسيقى وغناء الحانات عند نهايات القرون الوسطى، وأسبغ عليها نكهة أوركسترالية معاصرة حين أطلقها خلال النصف الأول من القرن الـ20 فغزت العالم.

أول الأمرين هو أنه بقي يعتبر صاحب عمل كبير واحد خيل للجمهور العريض معه أنه لم يكتب غيره من أعمال كبيرة خالدة طوال حياته، أما الثاني فكونه قد مالأ النازيين الهتلريين ولو بالسكوت عن جرائمهم، والسكوت في هذا المجال علامة على الرضا، بل حتى على التواطؤ. غير أن في هذا الاستنتاج، بل في الأمرين معاً، ظلماً لذلك المبدع المتفرد، وكان عليه هو نفسه أن ينتظر عام 1943، وبدء نكوص القوة النازية الغاشمة قبل أن يتمكن من تبديده.

كان عنوان ذلك الانتظار الطويل بالغ البساطة: "المرأة الذكية"، ولكن لم تكن المرأة الذكية هذه سيدة حقيقية ظهرت في حياة أورف وغيرت النظرة إليه، بل أوبرا اقتبسها بالتحديد من حكاية للأخوة غريم كتبت أصلاً للصغار، لكن استخدامها من قبل أورف هنا حولها إلى فعل سياسي من الغريب أن النازيين الذين كانوا لا يزالون يسيطرون على الحكم في برلين ويرعبون العالم، غفلوا عنه.

"تودد" على الطرقة الغربية

المرأة الذكية أو "الذكية" فقط، في هذا العمل الموسيقي الذي يعتبر واحداً من أهم أعمال أورف المسرحية بعد "كارمينا بورانا" بالطبع، هي كما صاغها الأخوان غريم فتاة تبدو أقرب إلى تلك الجارية، تودد، المعروفة في حكايات ألف ليلة وليلة بذكائها الشديد الذي مكنها من أن تعرف كل شيء تقريباً في هذا العالم ناهيك بتمتعها بالحكمة وحسن التصرف. ولقد لفتت هذه الشخصية نظر أورف فيما كان يقلب يوماً صفحات حكايات الأخوين المعروفين، وقرر بسرعة أن يحولها إلى عمل أوبرالي يجمع بين ما كان يتوخاه حينها من جمع بين البساطة الفردية والإنجازات الموسيقية المتوهجة والصياغة المسرحية ذات الطابع الاحتفالي من جهة ثالثة. ولقد تمكن المبدع من ذلك مقدماً نموذجاً إضافياً على أسلوبه القائم على الارتجال الإيقاعي والبنية الغنائية التي تميل إلى القص الشفهي على الطريقة الحكواتية، أكثر مما على الطريقة الأوبرالية التقليدية.

والأوبرا التي تنطلق من حكاية بطلتها المعروفة بلقب "كلوغي" (الذكية)، تروي لنا في مقدمها وقبل دخولها في الحكاية نفسها، قصة تلك الفتاة التي تقع في مواقف تمكنها من إظهار حكمة غير مألوفة. أما حكايتها فتبدأ حين يعثر فلاح بائس، على كيس مليء بالقطع الذهبية، فيتكالب عليه الجميع طمعاً ما يدفعه إلى استشارة ابنته التي تنصحه بإعادة الكيس لصاحبه الحقيقي الذي يتبين أنه ملك البلاد. وهنا كما يحدث عادة في هذا النوع من القصص، يعجب الملك بسلوك الفتاة وحكمتها ناهيك بجمالها فيقترن بها. وهكذا ينشر صفاتها الحميدة في القصر والبلد، لتصبح قانوناً أخلاقياً يتضافر مع الحكم السديد للملك.

بين غضب الملك ودهاء المرأة

بذلك تنتقل الفتاة من عالم البؤس إلى عالم الحكم، مظهرة مزيداً من الفطنة حتى في حل النزاعات وإحراج المتآمرين حين تلتقطها الأوبرا عبر حكاية نزاع تصل إلى القصر الملكي حين يتم إدخال صاحب حمير وصاحب بغال، إلى السجن فيما كان الملك منهمكاً في لعبة شطرنج مع امرأته. وهو يوقف اللعبة مستاء، بناء على طلب السجينين المتخاصمين من حول ملكية حمار صغير ولد لتوه وراح كل منهما يدعي ملكيته، ويحدث هنا أن الملك يعطي الحمار الوليد لصاحب البغال الذي يغادر فرحاً بحصوله على ما ستعتبره الملكة غير ذي حق به. وهكذا تتدخل الملكة وقد رأت أن المطلوب الآن حسم الأمور، فتستدعي الحمار المظلوم سراً، وتعلمه كيف يطرح أمام الملك شبكة صيد كبيرة، فيفعل أمام دهشة الملك الذي يسأله عم يفعل وصيد السمك لا يمكنه أن يكون على أرض يابسة، فيقول له الحمار: "إذا كان في إمكان البغل أن يلد حماراً، سيكون في إمكان الشبكة أن تصطاد سمكاً على أرض يابسة خارج البحر والأنهار".

هنا يدرك الملك من فوره كيف أن الجواب إنما هو في الحقيقة من عنديات زوجته، ولا سيما إذ يسبق ذلك حوارات حول أي عدل هذا الذي يحكم في البلاد والعباد في ظل وضعية تموت فيها العدالة والإيمان والرأفة والتواضع والحقيقة، وهو حوار لم يكن الباحث ويليام مان مغالياً، حين أشار لاحقاً إلى أنه كان صرخة واضحة، بل فاقعة ضد النازيين في وقت كان حصارهم للعقول يتجذر.

المهم أن الملك ما إن رأى صنيع صاحب الحمير حتى أدرك خطأه، لكنه لم يكن مستعداً للتنازل عن موقفه فقرر طرد زوجته، إذ أدرك أن ما يقوله الحمار المظلوم إنما هو من صياغتها في موقف اعتبره ضده هو شخصياً وتألباً على حكمه. وهكذا أعطاها صندوقاً كبيراً سمح لها أن تضع فيه أغلى ما تملك من موجودات القصر، ثم ذهب لينام، إذ أحس بنعاس غريب على أن تكون الملكة قد اختفت في صبيحة اليوم التالي، وعند الصباح حين يستيقظ الملك من نومه، يجد نفسه مكوماً داخل الصندوق، فيدرك أن زوجته قد وضعت مخدراً في شرابه ثم جعلته في الصندوق بوصفه أثمن ما تملك في هذا القصر، كما في الوجود.

وهكذا تنتهي الحكاية على تحرير الحمار واسترجاعه حقه، وإيمان الملك بالذكاء الفطري لدى زوجته، وفحوى الرسالة التي أطلقتها عملياً في مواجهة خبث البشر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

موسيقى مميزة

على المستوى الموسيقي البحت، يعد عمل أورف هذا مثالاً واضحاً، بل متقدماً على أسلوب هذا المبدع في بناء موسيقاه على الإيقاع أكثر مما على الميلودية. فكالعادة لديه، تحضر الآلات الإيقاعية بكثافة مانحة العمل طابعاً احتفالياً يشبه الطقوس القديمة. كما تتسم الجمل اللحنية بالاقتصاد والوضوح، مما يجعل الحوار المغنى يبدو قريباً من الكلام المنغم، والتراتيل الأوراتورية.

ومن المعروف أن هذه البنية تساعد في إبراز الحكاية نفسها وتقرب المتفرج / المستمع من التفاصيل الدرامية، من دون أن تغرقه في الزخرفة الأوبرالية المعتادة.

ولعل من اللافت والجدير بالذكر إلى ذلك، حضور الكورس بطريقة درامية، فهو ليس مجرد خلفية موسيقية، بل وكما حاله في المسرح الإغريقي القديم، عنصر يعلق على الأحداث ويشارك في توجيه الإيقاع العام للاوبرا. وقد رأى بعض النقاد عن حق، أن في الإمكان النظر إلى أوبرا "داي كلوغي" هذه باعتبارها تمثل جسراً بين المسرح الغنائي التقليدي، وبين مفهوم أورف الطقوسي الذي سيبلغ ذروة جديدة من ذراه في أعماله اللاحقة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة