ملخص
يظل حكم المحكمة ومتابعة التحقيقات في الفاشر تذكيراً صارخاً بأن العدالة مهما كانت متأخرة، يمكن أن تجد طريقها عبر التشابك المعقد بين السياسة والاقتصاد والقانون، لتمثل دعوة لإعادة التفكير في المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، وتحفيز المجتمع الدولي على تحويل كلمات الاعتراف إلى أفعال ملموسة، لا حماية للسلطة ولا صمتاً عن الجرائم، بل حماية للكرامة الإنسانية نفسها.
في الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كسر جدار الصمت القضائي حين دانت هيئة محلفين اتحادية في نيويورك بنك "بي أن بي باريبا"، أكبر مؤسسات فرنسا المصرفية، بمسؤوليته عن تمويل نظام عمر البشير أثناء ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في السودان بين عامي 2002 و2008، وقضت بتعويض قدره 20.5 مليون دولار أميركي لثلاثة ناجين سودانيين يقيمون في الولايات المتحدة، ولم يكن الحكم مجرد إدانة قانونية، بل هو إعلان أخلاقي ضد تواطؤ رأس المال مع آلة الإبادة، وضد تلك اللامبالاة المؤسسية التي طالما أخفتها لغة الأسواق تحت ذرائع "الحياد المالي".
خلصت هيئة المحلفين إلى أن خدمات البنك لم تكن نشاطاً مالياً بريئاً، بل سبباً طبيعياً وكافياً مكن الخرطوم من تمويل حملاتها العسكرية في دارفور. فقد أتاح البنك عبر مكاتبه في جنيف تحويل مليارات الدولارات إلى الحكومة السودانية، على رغم العقوبات الأميركية المفروضة منذ 1997.
وتشير الوثائق إلى أن مسؤولي البنك كانوا يدركون طبيعة ما يحدث في السودان، فقد كتب أحدهم ساخراً في رسالة داخلية عام 2005 "السر الصغير القذر لم يعد سراً"، بين يوليو (تموز) 2006 ويونيو (حزيران) 2007 وحدهما، مر عبر قنوات البنك أكثر من 6.4 مليار دولار لمصلحة مؤسسات حكومية سودانية، بينها بنك السودان المركزي وبنك الشمال الإسلامي، وهما أداتا تمويل رئيستان للحرب.
عام 2004، كانت الولايات المتحدة اعترفت رسمياً بأن ما جرى في السودان إبادة جماعية، وهو توصيف أعلنه وزير الخارجية آنذاك كولن باول بعدما استعرض أمام مجلس الشيوخ شهادات ووثائق أكدت أن "الإبادة الجماعية قد ارتكبت في دارفور، وأن الحكومة لا تزال تمارس أفعالاً فادحة ضد شعبها"، بعد عام واحد، أحال مجلس الأمن القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لتكون أول إحالة في تاريخ المجلس إلى تلك المحكمة، وفي 2009 و2010 صدرت مذكرتا توقيف في حق الرئيس عمر البشير، لكنه بقي طليقاً، وفي تحد لقرار المحكمة، أجرى عدة رحلات خارجية.
تغذية الإبادة
بعدما كشفت الأدلة أن بنك "بي أن بي باريبا" الفرنسي سهل، على مدى عقد كامل، تمويل النظام السوداني وتدفق عائداته النفطية رغم العقوبات، تحول إلى متهم في قضايا الإبادة، واعترف البنك عام 2014 بذنبه في التحايل على العقوبات وغسل مليارات الدولارات لمصلحة كيانات سودانية، ودفع نحو 8 مليارات دولار غرامة للحكومة الأميركية من دون أن تدفع للضحايا.
وفي عام 2016 رفع اللاجئون السودانيون الدعوى الجماعية ضد البنك. وعلى رغم دفوع الدفاع بأن القضية تمس "أفعال دولة"، قضت محكمة الاستئناف بأن الإبادة الجماعية ليست فعلاً سيادياً بل جريمة مطلقة في وجه الإنسانية. ومع امتداد الإجراءات من 2020 إلى 2025، تعاقبت الأحكام التي شددت على أن البنك كان يعلم، أو كان ينبغي أن يعلم، أن أمواله تغذي الإبادة.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، خلصت هيئة المحلفين بعد محاكمة امتدت خمسة أسابيع إلى أن التمويل الذي وفره البنك أسهم مباشرة في مقتل وتهجير المدنيين، وقضت بتعويض قدره 20.75 مليون دولار لثلاثة ناجين من دارفور، وقال أحد المحامين في مرافعته الختامية، "المال قد لا يطلق الرصاص، لكنه يحدد كم طلقة يمكن أن تطلق".
لم تكن المحاكمة التي جرت في محكمة المقاطعة الجنوبية لنيويورك مجرد قضية قانونية بين بنك ومجموعة من اللاجئين السودانيين، بل مثلت اختباراً أخلاقياً نادراً لمفهوم العدالة الدولية، حين أقرت هيئة المحلفين بمسؤولية بنك "بي أن بي باريبا" عن تمكين نظام الخرطوم من الوصول إلى مليارات الدولارات خلال ذروة الصراع، كان الاعتراف أعمق من مجرد إدانة مالية، كان إدانة لدور رأس المال في صناعة المأساة الإنسانية.
ثمار العدالة
رغم أن الحكم صدر بتعويضات رمزية، 6.4 مليون دولار لعبدالقاسم عبدالله، و7.3 مليون لانتصار عثمان كاشف، و6.75 مليون لترجمان آدم، لكنها شكلت لحظة فارقة في تاريخ مساءلة المؤسسات العابرة للحدود، قال فريق الادعاء، ومنهم المحامي بوبي دي تشيللو، "هذا الحكم انتصار للعدالة والمساءلة. المؤسسات المالية لا يمكنها أن تغض الطرف عن عواقب أفعالها. موكلونا فقدوا كل شيء في حرب غذاها الدولار الأميركي، والبنك كان إحدى ركائزها المالية".
أما المحامي مايكل هاوسفيلد، فقال "تعيد هذه القضية إحياء مبادئ محاكمات نورمبرغ التي أرست مسؤولية كل من أسهم في الجرائم ضد الإنسانية، مهما كان موقعه. لقد صمد الضحايا السودانيون لعقود، واليوم يجنون أولى ثمار العدالة".
القضية التي عرفت باسم "كاشف وآخرون" ضد بنك "بي أن بي باريبا" هي امتداد لمسار طويل من محاولات تحويل القانون إلى أداة ذاكرة وعدالة، إذ يصبح المال نفسه شاهداً على الجريمة. وأكدت المحامية كاثرين لي بويد أن الحكم يمثل رسالة قوية للبنوك والمؤسسات المالية عبر العالم "لقد بات واضحاً أن المصارف ليست فوق القانون، من يمكن الأنظمة القمعية من التمويل، عليه أن يتحمل تبعات ما ترتكبه تلك الأنظمة من فظائع"، بينما اختزل أحد الخبراء المعنى العميق للحكم في جملة واحدة "المال يمكن أن يكون سلاحاً قاتلاً مثل الرصاص"، وعلى رغم دفاع البنك الفرنسي بأن عملياته كانت قانونية في أوروبا، فإن المحكمة رأت في تعامله المالي "صلة مباشرة وكافية" بوقود الحرب.
الحكم لم ينه معاناة الضحايا، لكنه أرسى مبدأ جديداً، أن ضحايا الإبادة يمكنهم مقاضاة المؤسسات التي مولت الجلادين، مما يمثل اعترافاً بإنسانيتهم التي حاولت الحرب محوها، وبأن العدالة، وإن جاءت بعد عقود، تظل قادرة على ترميم شيء من الكرامة المهدورة، وبهذا المعنى، تتحول المحكمة من جدار قانوني إلى مساحة أخلاقية تتقاطع فيها الذاكرة مع المساءلة، حيث يُستدعى التاريخ إنذاراً بأن لا أحد، فرداً كان أو مؤسسة، بمنأى عن المحاسبة حين يتواطأ مع الجناة.
لحظة فارقة
يعد هذا الحكم، الأول من نوعه ضد مؤسسة مصرفية عالمية بتهمة المسؤولية المدنية المباشرة عن تمويل الإبادة الجماعية، مما يعيد إلى الواجهة جدلاً أخلاقياً طالما تهربت منه النظم المالية، حول تذرع النظام الاقتصادي العالمي بجهله بما يجري بهذه الحسابات، في مفترق كهذا، يصبح القرار البيروقراطي شريكاً أيضاً في الإبادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما تفتح هذه الإدانة الباب أمام أكثر من 20 ألف لاجئ سوداني للمطالبة بتعويضات مماثلة، لكنها في جوهرها تفتح باباً أوسع، لمحاسبة المؤسسات التي مولت الدمار، وأعادت إنتاجه في صيغ مالية أنيقة، لتشكل لحظة فارقة، لا تبرئ ضمير العالم، لكنها تذكره بأن العدالة، وإن تأخرت، لا تسقط بالتقادم الأخلاقي.
قال الدبلوماسي الأميركي السابق كاميرون هدسون، إنه على مدار الأعوام الثلاثة الماضية عمل مباشرة مع ضحايا دارفور الذين رفعوا هذه القضية، مستعرضاً معهم كيف صممت العقوبات الأميركية لتقييد قدرة النظام السوداني على ارتكاب الانتهاكات، وأوضح أنه أمضى مئات الساعات في مراجعة آلاف الوثائق الأرشيفية، التي أظهرت معرفة بنك "بي أن بي باريبا" بالجرائم التي ارتكبها نظام البشير، وتجاهله المتعمد لكيفية مساهمته في إبقاء النظام قائماً من خلال ضخ أكثر من 90 مليار دولار من عائدات النفط. وقال هدسون، إن هذه الأفعال تمثل "التجسيد الأكثر وضوحاً لسخافة الشر".
وأضاف هدسون أن الحكم الحالي يشمل ثلاث ضحايا فحسب، لكنه يفتح الطريق أمام دعوى جماعية أوسع قد تضم عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين في الولايات المتحدة، مما قد يكبد البنك مليارات الدولارات كتعويضات. وأورد أن هذا الحكم يرسخ سابقة قانونية مهمة، إذ يبرز أن المؤسسات المالية ليست فوق القانون، وأن تمويل الأنظمة القمعية يحمل تبعات مباشرة على تلك المؤسسات.
وأوضح أن العمل مع الضحايا كان محورياً لفهم أثر التمويل المصرفي على الجرائم المرتكبة، مشيراً إلى أن البنك لم يكن مجرد وسيط مالي، بل كان جزءاً من آلة إبادة جماعية كبيرة، أسهمت في تمويل عمليات القتل والتشريد والإذلال المنهجي للسكان المدنيين في دارفور، وأكد أن القضية تسلط الضوء على التفاعل بين السياسة والاقتصاد والعدالة الدولية، وكيف يمكن للمال أن يكون أداة فعالة للفظائع الإنسانية إذا لم تمسك به ضوابط قانونية وأخلاقية.
وتابع هدسون، "هذه التجربة تعلم أن العدالة ليست دائماً مباشرة أو فورية، لكنها يمكن أن تجد مسارات غير متوقعة، مثل استخدام القانون المدني والتمويل الدولي للضغط على الجهات المسؤولة، وأن الحكم يشكل رسالة قوية للبنوك والشركات حول مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية تجاه العواقب الإنسانية لأعمالها".
سابقة قضائية
تظل دارفور، في سجل المآسي الإنسانية، علامة على الإخفاقات المتكررة للنظام الدولي حين تتقاطع السياسة مع الاقتصاد، وحين تتحول الموارد المالية إلى وقود للقتل الجماعي، والقرار الأخير يوضح أن مؤسسات مالية ضخمة لا يمكنها أن تظل بمعزل عن العواقب الأخلاقية لأفعالها، وأن الأموال قد تصبح أدوات للهيمنة والقتل بمقدار ما هي وسيلة للربح.
يمثل هذا القرار القضائي منعطفاً جوهرياً في تاريخ العدالة الدولية، إذ يؤكد أن الاعتراف بالمسؤولية، حتى بعد عقود من الصمت والمعاناة، ليس مجرد رمزية، بل خطوة عملية نحو مساءلة من أسهموا في تمويل آلة الحرب وإدامة الفظائع.
كما يمثل سابقة قضائية، ترسم معالم الطريق للمساءلة القانونية والأخلاقية، ففي أحدث التطورات المتعلقة بمجازر الفاشر، أوضح ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، أنهم بصدد جمع أدلة على أعمال قتل جماعي واغتصاب قد ترقى إلى جرائم حرب، بعد استيلاء قوات "الدعم السريع" على آخر معاقل الجيش في غرب دارفور، هذه التحقيقات تؤكد استمرارية العنف وتكشف عن أن الدورة المأسوية للانتهاكات لم تتوقف، وأن المحكمة تعمل على جمع الأدلة الضرورية لضمان ملاحقة المسؤولين في المستقبل.
في هذا السياق، فإن التحقيقات الحالية تحمل درساً عميقاً، وهو أن العدالة ليست محض محاكمات، بل عملية تراكمية تشمل التوثيق والحفظ والمساءلة، وإعادة النظر في دور جميع الأطراف، بما في ذلك الشركات والمؤسسات التي قد تسهم في استمرار النزاعات، كما تبرز أن حماية الضحايا لا تقتصر على العقوبات المباشرة، بل تشمل ضمان عدم إفلات المسؤولين والممولين من المساءلة، وإرساء سابقة تمنع تكرار الفظائع.
وهكذا، يظل حكم المحكمة ومتابعة التحقيقات في الفاشر تذكيراً صارخاً بأن العدالة، مهما كانت متأخرة، يمكن أن تجد طريقها عبر التشابك المعقد بين السياسة والاقتصاد والقانون، لتمثل دعوة لإعادة التفكير في المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، وتحفيز المجتمع الدولي على تحويل كلمات الاعتراف إلى أفعال ملموسة، لا حماية للسلطة ولا صمتاً عن الجرائم، بل حماية للكرامة الإنسانية نفسها.