Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عقدة السرديات العسكرية

ما دورالسرديات في زمن الصراعات؟

 النصب التذكاري لحرب مشاة البحرية الأميركية، أرلينغتون، فرجينيا، مارس (كيفن لامارك/ رويترز)

ملخص

تغدو الحروب امتداداً للخيال البشري بقدر ما هي نتيجة لحسابات القوة، إذ تصوغها الأمم كقصص بطولية تبرر العنف وتمنح المجد الوهمي معنى، فيما يهيمن السرد على الفهم السياسي حتى بات يبرر الصراع ويعيد إنتاجه. فالحرب تبدأ حكاية وتنتهي أخرى، وما لم يُكسر هذا الإغواء السردي ستظل البشرية تكتب فصول حربها المقبلة.

منذ عام 1989 قُتل نحو4 ملايين إنسان نتيجة الصراعات المسلحة حول العالم، منهم 740 ألفاً بين عامي 2021 و2024 فقط.

إن فهم هذه العقود العنيفة وما يلازم عصرنا من تقلبات جيوسياسية مستمرة يتطلب بطبيعة الحال خبرة في السياسات العامة، لكنه يحتاج أيضاً منظوراً يتجاوز حدود علم السياسة، الذي وعلى رغم دقته لا يأخذ دائماً في الحسبان عناصر بشرية من قبيل التوق إلى المجد، والظمأ إلى الانتقام، وغيرها من الأهواء غير العقلانية التي تصوغ نزعة العدوان لدى المحاربين والأمم، وبعبارة أخرى العناصر التي تشكل مادة للأدبيات.

تنسج الأمم أساطير من انتصاراتها، وتمحو هزائمها بوعد انتصارات مقبلة، وتميل إلى موازنة "الحروب السيئة" بـ "الحروب الجيدة"، وتُخلد ذكرى الأخيرة بحنين يغري بخوض مغامرات مفعمة بالزهو الزائف والأمجاد الواهية، لا تؤول إلا إلى الخزي والهوان، وهناك أمور عدة ينبغي معرفتها عن القصص:

أولاً، لقد تغذى البشر عليها على مدى آلاف الأعوام، بدءاً من الكتاب المقدس وملاحم العصور القديمة، وصولاً إلى رواية القرن الـ 19 وسلسلة أفلام "مارفل" في القرن الـ 21.

ثانياً، إن الواقعيين المتشددين والنفعيين [الذين يرون أن قيمة الأشياء تقاس بمدى فائدتها العملية] الذين يستخفون بأهمية القصص، ولا سيما الخيالية منها، ويشككون في جدوى دراسة الأدب، هم في الغالب أكثر الناس سذاجة وقابلية للانخداع بالأساطير، إذ تجرفهم قوة الخيال لكنهم يجهلون حدوده وقيوده وقدرته على التضليل.

ثالثاً، أصبحت السردية في أوساط كثيرين الوسيلة الأساس لفهم العالم، وكما يشير منظّر الأدب بيتر بروكس في كتابه الصادر عام 2022 بعنوان "مفتونون بالقصة"، فإن "السرد يبدو اليوم الشكل الوحيد المقبول للمعرفة والخطاب المنظم للشؤون الإنسانية"، وفي هذا السياق يرى بروكس أن السرد قد طغى على الحجة العقلانية بوصفه الوسيلة السائدة لنقل الحقائق الاجتماعية والسياسية والتاريخية.

 

 

نحن نعيش في عالم ينتصر فيه راوي القصة الأبرع على صاحب التحليل العقلي الأوضح، وتبلغ بعض القصص من النجاح ما يجعلها تكتسب طابع الأسطورة، وعند تلك اللحظة، كما يكتب بروكس، "يُنسى أنها مجرد خيالات ويُتعامل معها بوصفها تفسيرات حقيقية للعالم"، وفي مواجهة هذا الاستيلاء السردي يدعو بروكس القرّاء إلى تفعيل الذكاء النقدي والتحليلي في مواجهة السرديات التي تغوينا بقبول الأيديولوجيات السائدة، ويؤكد أن ما يحتاج إليه المستمعون والقراء هو مقاومة الخدر الذهني السلبي الذي يعوق قدرتنا على الاستجابة الواعية.

ونظراً إلى انتشار القصص وضعف مقاومة الإنسان لها فسيكون من الحكمة أن يتدرب مواطنو اليوم على مهارات التحليل الأدبي، وهي نفسها التقنيات التي يُستهزأ بها ويُزدرى شأنها في عالم مهووس بالتكنولوجيا والانتماءات القَبَلية [الولاءات الضيقة للجماعة]، ويبدو أن كثيرين يتوقون إلى التخلص من عناء التفكير والتعبير، وهما ما يجعل الإنسان حراً ومستقلاً، عبر تفويضهما إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي.

يمكن فهم حال العالم الراهنة بتخيله واقفاً عند تقاطع السرد والحرب، أي في نقطة التقاء تتيح النظر إلى هذين البعدين معاً، فقد اكتسب السرد هيمنة بوصفه الوسيلة الأساس لفهم العالم، فيما تضاءلت القدرة على تفسيره، وفي الوقت نفسه نحيا في عصر تستمر فيه الحروب إلى ما لا نهاية، تارة تغلي على نار هادئة وطوراً على نار ملتهبة من دون حسم أو نصر قاطع، وفي غياب النهايات الواضحة والانتصارات الحاسمة نزداد توقاً إلى قصة حرب جيدة.

بالطبع هناك معنى دقيق يجعل القتال والسرد متقابلين بطبيعتهما، فالقصص تُبدِع أما الحروب فتُدمر، ومع ذلك وعند لحظات حاسمة يخضع أحدهما للآخر فتنشأ بينهما علاقة تعاون ملتبسة.

لطالما تباهى الكُتاب بأن الجندي لا يساوي شيئاً من دونهم، فالشاعر والروائي هما من يخلدان بطولاته للأجيال المقبلة، وفي المقابل فمن البديهي أيضاً أن الكاتب لا قيمة له من دون الجندي، فمن دون حرب لا تُستلهم الملاحم ولا تُصنع الأفلام ولا تُكتب رواية "الحرب والسلام" لتولستوي.

إن توقع الحرب والاستعداد لها يقودان بشكل طبيعي إلى تقبل حتميتها

 

في الواقع تُغوي القصص المتنافسة الأفراد والأمم بخوض الحروب، وما إن ينضموا إلى الصراع حتى يبدأ المشاركون والمشاهدون في نسج مزيد من الحكايات لفهم علاقتهم بتلك الفوضى العنيفة، وتوفر مرحلة ما بعد الحرب أرضاً خصبة لسرديات جديدة عن نشأتها وسيرها ونهايتها، فالسرد فعل فردي وجماعي في آن واحد، إذ تمتزج الذكريات الشخصية بـالخيال السياسي والحقائق التاريخية والتحريف الأسطوري، في طوفان من القصص عادة ما يتبع الحروب.

قدّم الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور مفهوم "المجمع الصناعي العسكري" قبل عقود في خطابه الوداعي عام 1961، وحذر قائلاً إنه "في مجالس الحكم يجب أن نحذر من اكتساب المجمع الصناعي العسكري نفوذاً غير مبرر، سواء كان مقصوداً أو غير مقصود"، مضيفاً أن "احتمال الصعود الكارثي لقوة في غير موضعها [أي في يد من لا ينبغي أن يمتلكها] قائم وسيبقى قائماً".

ثمة جدل حول ما إذا كان الرئيس يصف ظاهرة جديدة أو يمنح اسماً لعلاقة قديمة بين الشخصيات العامة التي تُجيز الحروب والجهات الخاصة التي تجني الأرباح منها، لكنه كان أيضاً يروي قصة عن كيفية نشوء الحروب وأسبابها، قصة ربطت صناعة الحرب بحال مرضية، إذ شبّه ذلك المجمع بـ "مجمع للعُقد النفسية الجماعية" [فهو ليس مجرد منظومة مصالح وقوى بل تجسيد لنوع من الاضطراب النفسي الجمعي الذي يدفع الدول إلى الحرب بشكل مرضي ومنهجي لا عقلاني] وكانت تلك السردية متناقضة مع القصة البطولية الكبرى التي شارك أيزنهاور نفسه في صياغتها عن الحرب العالمية الثانية، "الحرب الجيدة" التي صنعت مجده.

وبعد أكثر من ستة عقود تبلور ما يمكن تسميته بـ "المجمع العسكري السردي"، إذ غدت الحرب قصة فاتنة يصعب الامتناع من سردها مراراً وتكراراً، ومنذ الحرب العالمية الثانية دخلت الدول، ومعها اليوم جهات غير حكومية أيضاً، في حروب بأشكال مختلفة، ويبدو في كل مرة أنها تبحث عن قصة تمنحها لذة السرد المرتبطة بتلك الحرب: قضايا عادلة، وحبكات واضحة وقوية عن التحرير والانتقام العادل، وأبطال وأشرار لا لبس فيهم، ونهايات حاسمة، ومع ذلك لم تنجح أي من نسخ الحروب اللاحقة [أي الحروب التي تلت الحرب العالمية الثانية] في منافسة جاذبية القصة الأصلية.

حكايات مشوقة

يواصل البشر اختراع قصص عن الحروب وتنقيحها باستمرار حتى حين لا يخوضونها فعلياً، فهم يروون في الواقع قصصاً يقحمون فيها أنفسهم في أجواء الحرب أو يبررون بها الابتعاد منها، بحسب الموقف والحاجة، وتظهر التجارب أن توقع الحرب والاستعداد لها يقودان في النهاية إلى قبول حتميتها، وهذه النزعة إلى بناء السرديات المسبقة تتجلى بوضوح في التاريخ، كما يبين المؤرخ أود آرنه فيستاد من خلال مثال العداء البريطاني - الألماني الذي مهد لاندلاع الحرب العالمية الأولى.

كتب فيستاد في مقالة نشرت في مجلة "فورين أفيرز" عام 2024 أنه "لم تكن الضغوط البنيوية، مهما بلغت أهميتها، هي الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى، بل اندلعت نتيجة قرارات فردية ظرفية ونقص حاد في الخيال لدى الجانبين"، ويرى فيستاد أيضاً تشابهاً بين تلك الدوامة المأسوية في مطلع القرن الـ 20 والمواقف الراهنة من العلاقات الأميركية - الصينية، إذ يقول "تضيع أي فرصة للتعاون حتى في القضايا الجوهرية، وسط تبادل الاتهامات والمضايقات التافهة وتعاظم انعدام الثقة الإستراتيجية المتبادلة"، وهنا تتجلى المأساة في أوضح صورها، إذ يرى الخصوم المحتملون العمل السياسي بمنطق المعادلة الصفرية [التي لا مكان فيها للمكاسب المشتركة ولا يربح فيها أحد إلا بخسارة الآخر]، فهم يفسرون الأخطاء والصدف على أنها مؤامرات خبيثة، ويعلنون أن للضرورة أحكاماً بدلاً من البحث عن الخيارات الممكنة، وفي الحالات القصوى يختلقون الذرائع أو يعِدون بالمكاسب لتبرير قضايا مشبوهة وجعلها أكثر قبولاً.

في روايته "عمدة كاستربردج" الصادرة عام 1886 التي تروي قصة رجل يحاول تجاوز خطأ فادح في ماضيه، يقدم الكاتب الإنجليزي توماس هاردي مثالاً شخصياً على سوء الفهم بين الخصوم يشبه ما يصفه فيستاد في العلاقات الدولية، ويكتب هاردي أن الأفراد يميلون إلى إساءة فهم دوافع بعضهم بعضاً لأننا "نميل إلى تخيل أعدائنا أكثر عقلانية وتخطيطاً مما نحن عليه في الواقع".

وعندما يتعلق الأمر بالنزاعات العنيفة تكون تكلفة هذا النهج باهظة للغاية، فبسرعة مذهلة يتحول الاحتمال الضعيف إلى احتمال مرجح ثم إلى يقين، فيما يرفض الناس الروايات الهادئة والمعقدة وغير الجذابة التي تتحدث عن التسوية الحكيمة أو الدبلوماسية الغامضة أو التقدم التدريجي، وقد لفت الصحافي والناقد كارلوس لوزادا الانتباه إلى أن الصقور المتشددين في السياسة والحرب يمتلكون "ميزة سردية" تجعل قصصهم أكثر جاذبية وإقناعاً من قصص الحمائم الداعين إلى السلام.

وكتب لوزادا في صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2023 "قد يكون ذلك غير عادل، لكن قصص الحرب عادة ما تكون أكثر إثارة من قصص السلام، فالسيناريوهات القاتمة التي تتحدث عن الأخطار والتصعيد تكون دائماً أكثر جذباً من الأصوات المعارضة التي تشرح كيف يمكن تجنب الصراع"، وغالباً ما يُثير الصقور الحماسة التلويح بـ "قميص ملطخ بالدماء" أو باستحضار خيانة ما، وأحياناً يقدمون حتمية الحرب في إطار من الندم والتردد وكأنهم يبررونها بأسف متعمد، وقد اتبع هذا النمط القائد المتقاعد في سلاح الجو الأميركي الجنرال مايك مينيهان حين استهل مذكرته عام 2023 في شأن الصين، بصفته قائد قيادة النقل الجوي، قائلاً "أتمنى أن أكون مخطئاً"، قبل أن يضيف "حدسي يخبرني أننا سنقاتل عام 2025".

تنجح قصص الحرب لأنها ببساطة تجعل الإنسان يفهم نفسه من خلال عدوه بدلاً من أن ينظر في داخله ويحاول اكتشاف ذاته، وهي تنتصر أيضاً لأن الثقافات التي تقوم على العمل والإنجاز، مثل الثقافة العسكرية، تحتاج إلى أهداف واضحة وتقوم على الإيمان بإمكان تحقيق النصر، وقد أصبحت قصص الحرب أكثر تأثيراً منذ أواخر القرن الـ 19 مع ظهور السكك الحديد والمدارس العسكرية، حين بدأت الدول تتعامل مع الحرب كعملية تخطيط منظمة وجادة، لكنها تتضمن في الوقت نفسه تجارب تحاكي القتال وتخيل سيناريوهات محتملة للمستقبل، فالاستعداد لمواجهة مختلف الاحتمالات يعني في النهاية كتابة خطط وسيناريوهات تتوقع ما قد يحدث لاحقاً.

من الأسهل بكثير أن يُعرّف المرء نفسه من خلال مواجهة العدو بدلاً من النظر إلى أعماق ذاته

 

وقد كشف المؤرخ العسكري البريطاني جون كيغان عن أخطار هذا النوع من التخطيط في تحليله لما يُعرف بـ "خطة شليفن"، وهي الإستراتيجية التي وضعها رئيس الأركان الألماني ألفريد فون شليفن عام 1905 لخوض حرب قارية على جبهتين، فقد بنى شليفن خطته على ما سماه "الحقائق الرياضية" [أي الحسابات الدقيقة والواقعية] التي سادت في أواخر القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ 20، ولكن أيضاً كما يقول كيغان، على "حلم بعيد المنال"، مضيفاً أن "الخطط لا تحدد النتائج".

في الواقع إن هوس شليفن بتكتيكات القائد القرطاجي هنيبعل في تطويق الرومان ببراعة في معركة كاناي، إضافة إلى رغبته في تكرار الانتصارات الألمانية في الحرب الفرنسية - البروسية قد شوه حساباته، وكما يكتب كيغان "كان الحلم المنشود أشبه بعاصفة هوجاء، لكن الحسابات كانت تشير إلى عاصفة تحتضر"، ومع ذلك تجاهلت هيئة الأركان العامة الألمانية التحذير الضمني الكامن في الخطة نفسها والذي يعترف بأن الألمان كانوا أضعف من أن يتمكنوا من تنفيذها، وفي النهاية، كما كتب كيغان، عندما سنحت الفرصة للإمبراطور فيلهلم الثاني كي يوقف التقدم الحتمي لتنفيذ خطة شليفن، لم يفهم الآلية التي كان من المفترض أن يتحكم بها، فدب فيه الذعر وترك ورقة مكتوبة تحدد مجرى الأحداث بدلاً من أن يتحكم بها، وهكذا فما إن وُضعت الخطة على الورق حتى أعمت الطموحات والوعود الخيالية قراءها عن الثغرات القاتلة التي تنطوي عليها.

بمجرد انتهاء أي معركة أو حرب يبدأ كل من المنتصرين والمهزومين في رواية قصص مختلفة عنها، وغالباً ما تكون الروايات الرسمية ذات تصميم مدروس، وإن لم يكن بالضرورة خبيث النية، فعلى سبيل المثال أسهم ظهور ما يعرف بـ "لوحة القصص المصورة" في "برنامج باوربوينت" الذي يستخدمه الجيش الأميركي خلال ما سماه "الحرب العالمية على الإرهاب"، في ضمان تسجيل كل اشتباك بطريقة محددة مسبقاً، وما عليك سوى البحث على الإنترنت عن "قالب لوحة قصص للجيش الأميركي" لترى كيف يمكن للروايات المؤسسية أن توحد التجارب وتخضعها لقالب واحد، من خلال صياغة الأحداث في شكل أو نوع معين يجعل كل المحتوى يبدو متشابهاً.

صحيح أن التاريخ يكتب بأقلام المنتصرين، لكن الخاسرين هم غالباً من يروون القصة الأجمل، تلك أسطورة "لو أن" التي لا تنضب احتمالاتها: لو أن الطقس بقي جميلاً، لو أن جهاز الراديو لم يتعطل، لو أن العقيد لم يكن مريضاً، لو أن الجنرال لم يكن طموحاً إلى هذا الحد، لو أن أيدينا لم تكن مكبلة، لو أننا امتلكنا موارد عدونا أو الإرادة السياسية اللازمة. ومع نهاية كل حرب تظهر رواية جديدة تمجد الشجاعة الجسدية وبطولات ساحة المعركة وتُدين الغرور والغطرسة، لكنها في الوقت نفسه تشوه العلاقة بين الحرب والسياسة وتقلل من شأن فضيلتين عمليتين، وغير رومانسيتين على الإطلاق، يمكنهما منع الحرب: الحكمة وضبط النفس، كما تتجاهل دور الصدفة والفوضى.

وتجسد رواية "القضية الضائعة" التي ابتكرها أنصار الكونفدرالية بعد الحرب الأهلية الأميركية مثالاً واضحاً على ذلك، إذ مجدت أسلوب الحياة الجنوبي قبل الحرب وحولت الصراع إلى مأساة نبيلة أقرب إلى قصص الفروسية، وكذلك كان الهوس خلال إدارتي ريغان وبوش الأب بتحقيق "نصر" في حرب، حتى وإن كانت باردة، للتخلص من متلازمة فيتنام التي طغت على سردية النصر في الحرب العالمية الثانية وحجبتها عن الذاكرة الأميركية.

أصل الحكاية

تُسلط أعمال أدبية متعددة الضوء على أهمية نسج قصص الحرب وسردها، ولكن بالنسبة إلى كثيرين تشكل حرب طروادة البداية الحاسمة، فهي القصة الحربية التأسيسية للأدب الغربي، وبالنسبة إلى بعضهم تمثل أول صراع بين الشرق والغرب (في هذه الحال بين اليونان وآسيا).

إن النسخة التي يرويها هوميروس في ملحمتي الإلياذة والأوديسة عن الحرب وما تلاها على التوالي، تُعد النموذج الذي صاغ الطريقة التي يتخيل بها الناس الحرب والشرف والبطولة وسلسلة كاملة من القيم المرتبطة بها حتى اليوم، ولا تزال هذه القصة تؤثر في الناس إلى حد قد لا يدركه معظمهم، إنها بحق حكاية صقورية بامتياز [أي قصة تعبر عن النزعة الحربية بأقصى درجاتها].

يعتقد كل من قرأ إلياذة هوميروس، وحتى من لم يقرأها، أنه يعرف قصة حرب طروادة، وباختصار يبحر الأمير الطروادي باريس إلى إسبرطة ليختطف هيلين، الزوجة الجميلة لملكها مينلاوس، فيوحد مينلاوس وشقيقه صفوف الإغريق لاستعادة هيلين من طروادة ويقودان حرباً تستمر 10 أعوام، وتروي الإلياذة قصة أعظم محاربي الإغريق، أخيل، الذي ينعزل في خيمته معظم أحداث الملحمة قبل أن يعود للمعركة ويقلب موازينها، وتنتهي الملحمة بمقتل بطل طروادة، هيكتور، لكن الحرب تستمر بعدها.

وتروي مصادر قديمة عدة أنه بعد مقتل أخيل على يد باريس لجأ الإغريق إلى الخداع والمكر، فقد ابتكر أوديسيوس، المحارب الإيثاكي المشهور بدهائه وذكائه كما اشتهر أخيل بقوته وبأسه، خطة بارعة، فوضع الإغريق حصاناً خشبياً عملاقاً خارج أسوار طروادة وتظاهروا بالانسحاب، وما إن أدخل الطرواديون المخدوعون الحصان إلى داخل حصنهم المنيع حتى خرج المحاربون المختبئون في جوفه وشنوا هجومهم الكاسح، فدمر الإغريق المدينة وذبحوا عدداً من سكانها واستعبدوا من بقي على قيد الحياة، وبعد ذلك عادت هيلين مع مينلاوس لإسبرطة.

في الأوديسة يصور هوميروس لقاءهما بالمتوتر الذي شابته الدموع أحياناً بعد أعوام من الفراق، وأثناء استقبالهما الضيوف في قصرهما أضافت هيلين إلى النبيذ عقاراً سحرياً وصفه الشاعر بأنه "سحر يجعلنا ننسى آلامنا جميعاً"، حتى لا يبكي أحد ولو لليلة واحدة على عالم دمرته الحرب.

حبنا لأخيل هو نقطتنا ضعفنا القاتلة

 

لكن هناك أيضاً رواية مختلفة تماماً وأكثر سلمية نسبياً، فوفقاً للمؤرخ اليوناني هيرودوت، الذي ألّف عملاً فذاً يمزج بين الأسطورة والتاريخ في القرن الرابع قبل الميلاد، لم تصل هيلين إلى طروادة قط لأن سفينة باريس انحرفت عن مسارها بفعل العاصفة، وبدلاً من ذلك رست السفينة في مصر حيث وبخها ملك محلي يُدعى بروتيوس، مؤنباً باريس على كونه ضيفاً ناكراً للجميل، ثم طرده واحتفظ بهيلين والكنز المسروق أمانة لديه إلى أن يعود بهما لمينلاوس، وقد استنتج هيرودوت أنه لو كانت هيلين حقاً داخل أسوار طروادة لا في مصر، لكان الطرواديون قد سلموها إلى الإغريق بدلاً من السماح بتدمير مدينتهم، ويستشهد هيرودوت بمقاطع من الإلياذة والأوديسة ليُظهر أن هوميروس نفسه كان يعرف في الأقل أجزاء من هذه القصة، لكنه اختار أن يروي قصة أخرى أكثر إثارة.

إن القيم التي مجدها هوميروس، وبخاصة شرف الرجال ومكر النساء، أرست المعايير التي ستقوم عليها سرديات الحرب (بل وسرديات أخرى) لقرون مقبلة، غير أن النسخة الأقل شهرة من القصة تظهر أن الإغريق لم يكن لديهم أي سبب مشروع للقتال في طروادة، بينما كان الطرواديون يحاولون صد معتدين غير عقلانيين لا يدركون أو لا يبالون أو ببساطة يرفضون تصديق أن هيلين لم تكن تعيش مع باريس داخل أسوار طروادة، وعلى حد تعبير أحد النقاد فإن هيرودوت يشكك فعلياً في "وجود سبب للحرب من أساسه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضفى كتّاب يونانيون آخرون مزيداً من التفاصيل على القصة، ففي مسرحية "هيلين" للكاتب الأثيني يوريبيدس، على سبيل المثال، يكتشف مينلاوس بعد إبحاره بعيداً من طروادة المدمرة أنه كان يلاحق شبحاً لا هيلين الحقيقية، وعندما يلتقي بهيلين الحقيقية في مصر يكتشف أنه قضى عقداً من الزمان في مطاردة سراب، مجرد صورة زائفة للسبب الحقيقي، لكن ذلك لا يغير من موقفه تجاه حملته على طروادة التي تظل عملاً بطولياً مجيداً في نظره، ويظل الحفاظ على الشرف والمجد اللذين نالهما هناك الموضوع المفضل لدى مينلاوس طوال المسرحية، ولا يفقد انتصاره شيئاً من بريقه على رغم انفصاله عن سببه المعلن، إذ تُعد البسالة في المعركة غاية مرضية في حد ذاتها.

تُزعزع مسرحية يوريبيدس المسلمات الراسخة حول البطولة القتالية ومجد المعارك من خلال الموازنة بين "عالم طروادة الجحيمي"، كما يصفه الباحث الكلاسيكي تشارلز سيغال، وأرض مصر الخيالية التي يفر منها مينلاوس وهيلين عائدَين لإسبرطة، ولا شك في أن الازدواجية العميقة التي تبديها المسرحية تجاه الحرب والبطولة التقليدية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسياقها التاريخي، فقد عُرضت عام 412 قبل الميلاد بعد الحملة الكارثية التي شنها الأثينيون على صقلية، وهي غزو سيئ التخطيط والتنفيذ، كشف لأثينا الكلفة الحقيقية للطموح العسكري المتغطرس، ولم تتعاف منه المدينة أبداً.

الدرب المنسي

ما كان لكل ذلك أن يترك أثراً كبيراً في حروب اليوم لولا أن المحاربين الحقيقيين، وعلى مدى آلاف الأعوام استلهموا من النسخة الهوميرية العدوانية للأحداث لا من النسخة البديلة الداعية إلى السلام، فقد اعتبر الجنود، سواء رأوا في تلك القصة حقيقة أم أسطورة، عالم هوميروس نموذجاً يحتذى في السلوك الحربي، وقد شكلت شخصية أخيل، المحارب الذي سد نهراً بجثث أعدائه قبل أن يتحدى إله النهر نفسه، مثالاً يحتذيه الإسكندر الأكبر، ولا تزال حاضرة في الترفيه الشعبي الحديث والخطاب السياسي والثقافة العسكرية وفي الاحتفالات التي تمجد الصدمة والترويع، ولا يزال نموذج المحارب أخيل مرجعاً أساساً لكل من يحاول فهم الثقافة العسكرية أو إعادة صياغتها، فلقد انتصرت الرواية الأفضل منذ زمن بعيد وتحولت إلى أسطورة ذات تداعيات حاضرة، فحبنا لأخيل هو كعب أخيل بالنسبة إلينا [أي أنه نقطتنا الأضعف].

أما الرواية البديلة التي تروي رحلة هيلين إلى مصر فإنها تدعو إلى تأمل أعمق في العلاقة بين الحرب والسرد، إذ تكشف إلى أي مدى تأثر البشر بسرد قديم يصور الحرب على أنها المسرح الأمثل لتحقيق المجد الشخصي والوطني، ولقد صمدت هذه القصة القديمة أمام المراجعات النقدية التي طاولت مفهوم الحرب في عصر التنوير، ثم أمام التحولات العميقة التي شهدتها ساحة المعركة الحديثة مع بروز التعبئة الجماهيرية والموت الجماعي المنظم والواسع النطاق خلال القرن الـ 20، بل إنها لا تزال صامدة حتى اليوم على رغم المسافة التي خلقتها التكنولوجيا بين القاتل والضحية.

ماذا يعني هذا بالنسبة إلى الفاعل في الميدان وصانع السياسات والمتنبئ بالمستقبل، لكل أولئك الذين ينتجون قصص الحرب أو يشاركون فيها أو يتابعونها بشغف؟

يشير بيتر بروكس إلى أن الروائيين "أدركوا أن الحياة تحتاج إلى أن تصاغ وتفهم من خلال السرد، لكنهم أدركوا أيضاً أن للخيال حدوداً في ما يتعلق بتنظيم الحياة"، فالروائيون، وهم النظراء المعاصرون لشعراء الملاحم، لديهم ما يعلمونه لجميع هذه الفئات، فالسرد يتمتع بزخم لا هوادة فيه يبدو عصياً على الضبط، لكن البشر يحتفظون بقدر من السيطرة على قصص الحرب، وهي سيطرة لا يمتلكونها على الحرب نفسها، فالحرب ميدان للصدف والحوادث والتقلبات لا يستطيع المشاركون فيه إلا أن يأملوا بالتأثير فيه بدرجة محدودة، وهو ما تذكرنا به رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، لذا فإن الطريق الحكيم للمضي قدماً هو أن نقرأ قصص الحرب الكثيرة والمتشابكة الدائرة اليوم ببصيرة أعمق، أو أن نتعلم كيف نكتب قصة مختلفة تماماً.

في الواقع يرصد "مجلس العلاقات الخارجية الأميركي" حالياً قرابة 30 منطقة نزاع حول العالم تشمل الصراعات الداخلية والدولية، وفي الوقت نفسه من المؤكد أن هناك من يعمل فعلاً على صياغة قصة الحرب المقبلة، وقد يدرك القراء الحصيفون أن قصة تلك الحرب المرتقبة ليست واقعاً محتوماً بعد، بل هي حتى الآن مجرد قصة.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2025

إليزابيث د. ساميت هي مؤلفة كتاب "البحث عن الحرب الجيدة: النسيان الأميركي والسعي العنيف وراء السعادة"، وأستاذة اللغة الإنجليزية في الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت، والآراء المعبر عنها هنا هي آراؤها الشخصية ولا تمثل السياسة الرسمية أو مواقف وزارة الجيش أو وزارة الدفاع أو الحكومة الأميركية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل