ملخص
حتى لو كان القرن الماضي فضل يوليسيس على كل الشخصيات التي حدثنا شاعر اليونان الأكبر عنها في ملحمتيه، فإن ثمة من الشخصيات المتعلق ذكرها أصلاً بالحروب الطروادية، شخصيتين ظلتا منذ فجر التاريخ الأكثر حضوراً والأقرب إلى أن تكون كل منهما على طريقتها حاضرة وأساسية في هذا العمل الشعري الفذ: هكتور وأخيل
إذا كان يوليسيس قد تحول ليصبح، ولا سيما منذ بدايات القرن الـ20، الشخصية المحورية في ملحمة الإغريقي هوميروس الخالدة الموزعة على جزأين: الإلياذة والأوديسة، حيث بات التركيز في القسم الثاني على عودته إلى دياره في إيثاكا، في مغامرته التي ألهمت كثراً من الشعراء والرسامين والموسيقيين والسينمائيين من بعدهم، فإن الأمور لم تكن دائماً على هذه الشاكلة قبل تلك "اليقظة" التي حملت إلى حد ما اسم جيمس جويس الذي جعل اسم "يوليسيس" عنواناً لرواية الحداثة الكبرى، ومن ثم قد يتساءل المرء بعد قراءتها: لكن أين هو يوليسيس؟ ولماذا يوليسيس؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحتى لو كان القرن الماضي فضل هذه الشخصية على كل الشخصيات التي حدثنا شاعر اليونان الأكبر عنها في ملحمتيه، فإن ثمة من الشخصيات المتعلق ذكرها أصلاً بالحروب الطروادية، شخصيتين ظلتا منذ فجر التاريخ الأكثر حضوراً والأقرب إلى أن تكون كل منهما على طريقتها حاضرة وأساسية في هذا العمل الشعري الفذ: هكتور وأخيل. وهما الشخصيتان اللتان يلعب الصراع بينهما بالواسطة أو بصورة مباشرة، الدور المحوري في الأقل في أولى الملحمتين، ناهيك بأن الصراع النهائي الذي يخوضه واحدهما ضد الآخر كان قد ألهم بدوره أعداداً لا تُحصى من فنانين عبروا عنه شعراً أو رسماً أو من طريق المسرح والموسيقى طوال قرون عديدة، ولا سيما في عصر النهضة الذي جعل معظم البطولات دنيوية بعدما كانت البطولة قبل ذلك للآلهة وأنصاف الآلهة.
الفن المحايد
والحقيقة، إننا ربما لا نقول جديداً هنا، إذ نذكر اسم بيار بول روبنز بوصفه الفنان الذي رسم ما قد يمكننا اعتباره، أقوى لوحة عبرت في عصر النهضة المتأخر عن الصراع الدموي والقاتل بين البطلين المذكورين، وذلك تحت عنوان "مقتل هكتور على يد أخيل"، وهي لوحة رسمها روبنز في عام 1630 بعدما انصرف طوال أشهر لقراءة ترجمة جديدة لملحمتي هوميروس. والحقيقة، إن الثلث الأول من القرن الـ14 الذي اكتمل فيه حضور شعر هوميروس في أوروبا من خلال عشرات الترجمات للملحمتين، كان الحقبة التي باتت فيها شخصيتا هكتور وأخيل معروفتين على النطاق الأوسع، بل باتت كل منهما بخصوصياتها نوعاً من التورية، ليس فقط للترميز حول نماذج إنسانية محددة، بل للتعبير عن أخلاقيات إنسانية ترتبط ببيئتها في انزياح للآداب الكبيرة من العوالم السماوية إلى العوالم الدنيوية الإنسانية بالتناغم التام مع متطلبات عصر النهضة. وهو انزياح كانت لروبنز اليد الطولى فيه على أية حال. وكما سيخبرنا ما تنطق به اللوحة التي نحن في صددها الآن.
نهاية حرب
هنا حتى، وإن كان المشهد الذي رسمه روبنز في هذه اللوحة، الصغيرة حجماً نسبياً في سياق عمله (ما يزيد قليلاً على المتر ارتفاعاً وعن المتر ونصف المتر عرضاً) والمعلقة في متحف بو الوطني في الجنوب الغربي الفرنسي، ينم عن معركة شخصية بين الفارسين الطروادي من جهة، والأثيني من الجهة الثانية، فإن مدلولاتها تتجاوز ذلك المشهد إلى حد كبير. وذلك بالتحديد لأن المعركة "الفردية" التي يخوضها هكتور ضد أخيل، والعكس بالعكس، كانت هي التي وضعت نهاية للحروب الطروادية التي كانت قد اندلعت أصلاً لأسباب شخصية، من جراء خطف باريس لهيلين اليونانية. كانت بحسب الأسطورة حروباً طاحنة دامت سنوات وسنوات وأحدثت من القتل والخراب الكبير والعداوات الدائمة، مما جعلها مضرب الأمثال، ولا سيما منذ أرَّخ لها هوميروس. المهم أن تلك المعركة التي خلدها روبنز في لوحته كانت فاصلة بالنظر إلى أن النهاية التي أسفرت عنها، ستكون هي هي نهاية الحروب نفسها، أي إن مقتل هكتور في المعركة أنهى الحرب، لكنه كان موتاً غير متوقع على الإطلاق. وذلك لأن المعركة نفسها كانت غير متوقعة نتجت من غضب أخيل إزاء قتل الطروادي هكتور لرفيقه الأقرب باتروكل قتلاً أهانه هو نفسه، إذ إن باتروكل كان أصلاً يتمنطق بدروع أخيل، فاعتبر هذا الأخير أن ذل الهزيمة قد أحاق به واندفع حاملاً رمحاً ودرعاً من صنع فولكان الحداد الأسطوري بدوره اندفاعة بدت طائشة لارتباطها بانفعال غير محسوب، غير أنها سرعان ما أسفرت عن كونها رمية من غير رامٍ، إذ إن أخيل وعلى العكس تماماً مما كان متوقعاً، نجح في هجومه مسدداً رمحه إلى عنق هكتور ليرديه قتيلاً.
موضوعية رسام
تلك هي الحكاية التي تتسم في البداية بالبعد الشخصي لتنتهي ذات دلالات تاريخية، ومن ثم كونية، والتي كان من نقاط قوتها أن روبنز إنما ترجمها بصرياً عن أولى وأدق الترجمات اللاتينية التي وضعت لملحمة هوميروس، الأولى للإلياذة في زمن بوكاشيو وبترارك بعدما كانت العادة قد جرت على الرجوع إلى تلخيصات للملحمة قام بها فرجيل وسواه في أزمنة سابقة. ومن هنا يمكن القول إن النزعة الإنسانية التي أسبغتها الترجمات النهضوية على الحكاية، وقد قدمتها مركزة على دور المشاعر الإنسانية في تزيينها، أتت متوافقة مع المرحلة الإنسانية في مسار روبنز الفني. ومن هنا ما يمكن رصده في هذه اللوحة وقبل أي شيء آخر، من موضوعية مطلقة في التعاطي مع الحدث. إذ هنا، وعلى رغم الجذور الأسطورية للحكاية برمتها، حرص الفنان على أن يقدمها في بعد موضوعي وكأنه يروي تاريخاً تم التوافق على حتمية الوقوف منه موقف الحياد بالنسبة إلى ما ينبغي أن يتركه من تأثير في المشاهد. فالتعاطف تجاه المتقاتلين يكاد يكون متقاسماً بالتساوي. ودلالات الخلفيات والعناصر الجانبية تكاد تكون متساوية القيمة في علاقتها بينهما، بل حتى المنحوتتان اللتان تؤطران ميدان القتال المحصور من حول هكتور وأخيل تكادان تكونان متعادلتين في نظرة جوبيتر في أولهما ونظرة جونون في ثانيهما، ناهيك بكون الرسام قد جعل من درع أخيل حيزاً فاصلاً بين الفارسين في منتصف اللوحة تماماً.
ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن ثمة عنصراً أساساً في اللوحة كان يمكن لمن يلتقطه في عمق دلالته أن يتنبه إلى أن الرسام يجعلنا قادرين على أن ندرك منذ البداية لمن سيكون النصر. وهو سيكون لأثينا. بالنظر إلى أن ذلكم هو على أية حال الواقع "التاريخي" كما نعرفه. ولكن أكثر من ذلك لأن ثمة سماء وسمات أثينية تحيط بميدان القتال كله دون أي التباس، وتلك السماء والسمات هي بالتأكيد من أمن الحماية لأخيل ونصره على رغم اندفاعته الطائشة. ومن هنا يمكن لنا أن نختم هذا الكلام بالقول إن هذه اللوحة يمكن أن تخدمنا دائماً في مجال التأشير على الدور الذي يمكن أن يكون للفن فلا يعود الفن درساً في التاريخ، بل في نزاهة الفن نفسه حين يتعامل مع التاريخ.