أن تجد "الحرب والسلام" رائعة الأديب العالمي ليف تولستوي ودرة إبداعاته، من يتجاسر على تقديمها كمسرحية غنائية، وللكبار فقط، فهذه مسألة مهمة في سياق العلاقة بين الرواية عموماً والفن المسرحي. هذه الرواية تبدو في معظم جوانبها، تسجيلاً جمع بين الحقيقة والخيال لحقبة فارقة في تاريخ البشرية مع مطلع القرن التاسع عشر، بكل ما شهدته من حروب دامية، ومنها غزو نابليون لروسيا في عام 1812، وما نجم عنه من أحداث ووقائع. وكان تولستوي عبر شخصيات الرواية التي تجاوز عددها الخمسمائة، استعرض أنماط حياة ذلك الزمان، مدنية كانت أو عسكرية، بمختلف أطيافها الاجتماعية والنفسية، وبكل تناقضاتها الإنسانية من الحب إلى الكراهية، ومن الزواج إلى الطلاق، وما بينهما من خيانة وفراق ومشاعر متباينة الأطياف. ولعل ذلك كله وإضافة إلى ما أراده الأديب العالمي لرائعته من تعرجات في أحداثها، ودرامية في موضوعاتها، وتشابك في علاقات شخوصها وأبطالها عبر أحداث امتدت، كان كافياً ليجعل "الحرب والسلام" عصية على أن تكون فكرة لمخرج طليعي فاجأ موسكو بتحويلها إلى "مسرحية غنائية"، يندر فيها الحوار، وتفترض حبكتها الدرامية ما يجعلها "للكبار فقط"!
مسرح "مودرن"
وعلى الرغم مما تناثر من عقبات تحول دون تحويل مثل هذا النص إلى مسرحية غنائية، فقد أقر واعترف نقاد العاصمة الروسية بما حققه المخرج المسرحي يوري غريموف من نجاح، يبدو إضافة معتبرة إلى "ريبورتوار" مسرح "مودرن" أحد أهم المسارح الطليعية التي أضفت على الحياة المسرحية في موسكو مذاقاً خاصاً، وهي التي طالما خضعت للرقابة الذاتية ربما قبل الحكومية. وكان العرض المسرحي الذي امتد لما يزيد عن الثلاث ساعات ودارت أحداثه في ثلاثة فصول، تناول أحداث القصة الرئيسة "الحرب والسلام"، وما تضمنته من مشاهد الحياة اليومية التي جرت في سياق ما رسمه مخرج العرض من خطوط درامية تستمد إيحاءاتها من واقع ذلك الزمان، على وقع ترانيم كنسية تارة وموسيقى الروك تارة أخرى والأغاني الفولكلورية تارة ثالثة.
وقال غريموف مخرج العرض والمدير الفني للفرقة، إنه استقطب لهذا العرض كل أعضاء فرقته المسرحية البالغ عددهم ما يزيد على سبعين فناناً وفنانة، أضاف إليهم بعض الضيوف من ممثلي الحركة المسرحية الروسية. فضلاً عما نجح فيه من الاستفادة من جمهور المشاهدين الذين شاركوا دون قصد مباشر من جانبهم في هذا العرض المسرحي الشديد الإبهار. أما عن إعلان العرض المسرحي "للكبار فقط"، فيعود وعلى غير ما كان من الممكن أن يتوقعه المتفرج، مرتبطاً بمشاهد إروسية جريئة أو تجاوزات لفظية شأن تلك التي يعج بها كثير من العروض المسرحية "المودرن" لكثير من الفرق المسرحية الغربية الهوى والتوجه. وحسب اعتقاد الكثيرين، فإن ما حفل به الفصل الثالث من مشاهد "ثقيلة"، يصعب على الصغار تحمل مشاهدتها، وتتعلق في معظمها بتشوهات الحرب وآثارها المدمرة!
4 سنوات إعداداً
وحول هذا العرض المسرحي قال مخرجه يوري غريموف، إن فترة إعداده استغرقت ما يقرب من الأربع سنوات، وبلغ عدد ما جرى تصميمه من أزياء أعادت الممثل والمُشَاهد إلى أجواء القرن التاسع عشر، ما يزيد على الأربعمائة. ولم تكن الأزياء سوى المدخل الذي يأخذ بيد المشاهد ليسلمه إلى ما نسجه المخرج من أحداث انسابت سلسة هادئة في بعض مشاهدها، لتتحول إلى عاصفة جارفة في مشاهد أخرى على وقع موسيقى كنسية رافقت الأناشيد الروحية الأرثوذكسية تارة، وأداء كورس الأغاني الشعبية تارة أخرى، وموسيقى الروك الغربية تارة ثالثة كما أشرنا عاليه.
وعودةً إلى البداية، نقول إنها كانت بعيدة عن الأطر التقليدية التي طالما ألفها المتفرجون. فما أن يلج المشاهد البهو الرئيس للمسرح، حتى يجد نفسه محاطاً بأجواء القرن التاسع عشر، في الوقت الذي يتعالى فيه صوت المذيع الداخلي يدعو إلى توخي الحذر وعدم التلكؤ في الدخول إلى القاعة استعداداً لمشاهدة العرض دون انتظار قرع الأجراس الثلاثة. وما إن تتعالى أصوات الجرس الأول، حتى يبدأ دخول المشاهدين ممن يفضلون عدم انتظار الجرسين الثاني والثالث، لتداهمهم خشبة المسرح وقد اعتلتها مجموعة من الكهنة تمارس بعض الطقوس الكنسية، ما يدفعهم إلى التزام الصمت وسرعة محاولة الوصول إلى مقاعدهم في هدوء استعداداً لبداية العرض. ولم يكن يدور في خلد أي من المشاهدين أن الكهنة الموجودين على خشبة المسرح يلعبون دورهم المرسوم لهم ضمن العرض المسرحي. وإذا كان ذلك ممكناً في بعض العروض المسرحية الحديثة، إلا أنه لم يكن متوقعاً من جانب مُتفرج وفد إلى المسرح لمشاهدة مسرحية مأخوذة عن نص أدبي ذائع الصيت، قلما تجد في روسيا من لم يقرأه، أو يجهل اسم مؤلفه ليف تولستوي.
العرض المسرحي لم يكن قد بدأ بعد، حين وقف الكاهن يمارس طقوساً كنسية على خشبة المسرح. كان كل شيء يبدو أقرب إلى الحقيقي. وراح البعض يتساءل عما إذا كان ذلك يمكن أن يكون في إطار مباركته لهذا العرض. وما أن يدور الكاهن ملوحاً بمبخرته يميناً ويساراً حتى يجنح جمهور الحاضرين نحو اعتقاد أن يكون الأمر بالفعل كذلك. وتأكيداً لهذه التوقعات انطلقت عدد من النسوة في أزيائهن الطويلة السوداء يرسمن علامة الصليب. وما إن يتيقن المخرج من إمساكه بتلابيب المشاهد، وإيقاعه في شباك الدهشة والإثارة، حتى تنطلق الإضاءة المسرحية متباينة الألوان في مختلف الاتجاهات، على نحو يضفي على المكان مزيداً من الغموض، ويدفع المشاهد إلى الاستغراق بحثاً عن تعليق أو تفسير لما يحدث حوله.
طقوس كنسية
ولم يكد المتفرجون يستجمعون قواهم، ويستعيدون توازنهم، حتى يستبدل المخرج طقوسه الكنسية بأخرى ماسونية في شخص بطل العرض بيير بيزوخوف، وهو من الشخصيات الرئيسة في رواية "الحرب والسلام". وتجرى التحركات سريعة على خشبة المسرح التي أرادها مخرج العرض غريموف خالية من الديكورات، مستعيضاً عن ذلك بموفور الإضاءة التي أحسن التلاعب بها، واستخدامها بديلاً في بعض الأحيان لشخصيات أراد أن يكسوها الغموض، في إطار استعراض رحلة تحول بيزوخوف عن انتماءاته الماسونية. وفي هذا الصدد لعب اختيار المخرج للحوارات والجمل القصيرة دوراً رئيساً في إيحاء المشاهد بتدفق المعاني وعميق مضمونها، ما أسهم في تسريع إيقاع الحركة على وقع الترانيم الروحية، والأغاني الشعبية العلمانية، مع الخلفية الموسيقية التي اختارها سبيلاً للإيحاء للمشاهد بما هو ضروري من صور مناسبة تتفق ومجريات التاريخ الروسي، وبما يحدد إيقاع الزمن. ويتفق النقاد والمشاهدون حول أن النهاية المفاجئة للفصل الأول من هذا العرض المسرحي، أصابت جمع الحاضرين بمزيد من الذهول، ليخرج المتفرجون إلى بهو المسرح غير مصدقين أن هذا الفصل استغرق ساعة ونصف الساعة.
وعلى النحو نفسه من التميز والفرادة المفعمين بكثير من الغرابة، ضاعت الفواصل الزمنية بين الفصل الأول والثاني الذي بدأ دون سابق إعلان، ليجد المشاهد نفسه وهو لا يزال بعد في فترة الاستراحة، شاهداً على إضرام النار في موسكو، الأمر الذي كان أقدم عليه أبناء العاصمة، بعد أن دخلها الفرنسيون بقيادة نابليون في عام 1812، بعد معارك ضارية دارت على مشارفها وأسفرت عن كثير من الهزائم. وكان سكان موسكو، وفي إشارة إلى رفضهم لإرادة الغازي وإنكاراً لما طلبه حول تسليمه مفاتيح المدينة اعترافاً منهم بالخضوع لإرادته، قد أضرموا النار في مدينتهم. عاد المشاهد إلى قاعة المسرح ليجد طرقاتها قد اتسخت ببقايا الحريق، ما أراده المخرج إعلاناً عن انفصال بيير بيزوخوف عن قرينته إلينا أو هيلين وتحوله عن الماسونية في اتجاه تغير جذري سوف يشهد ضمناً ارتباطه بناتاشا روستوف الحسناء الفاتنة، بطلة الرواية، وتشابك علاقات بقية أبطال العرض المسرحي، وكثير من المشاهد المريعة لما أسفرت عنه الهزيمة من نتائج، ومنها أرتال النازحين عن المدينة، وفلول عسكريين يجرون أذيال العار، يخيم عليهم ظلام دامس تتزايد حلكته التي سرعان ما تبددها أضواء ساطعة صارخة على وقع انسياب موسيقى تباينت ما بين الهادئة والصاخبة، رافقت ظهور ظلال هائلة لصليب أوحى ظهوره إلى المشاهدين بالأجواء الكنسية. وهو ما فسره بلاتون كاراتايف (من أبطال العمل) بقوله مخاطباً بيير بيزوخوف مع مطلع الفصل الثالث، "ذلك ليس من وحي أفكارنا، بل إنه بإرادة الرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان ذلك حقيقة البداية الواعدة لتحول بيير الماسوني الغربي الهوى، إلى بيتر كيريلوفيتش القومي الروسي الذي انصرف عن الماسونية إلى الإيمان الحقيقي بمباركة الكنيسة الروسية، ما يعني ضمناً أن المخرج لم يغمط المؤلف ليف تولستوي حقه، وهو الذي طالما عُرَف عنه عميق التدين والإيمان.
ومن اللافت في هذا العرض المسرحي الفريد الذي قدمه مسرح "مودرن" لأول مرة في نهاية العام الماضي، ليعيد تقديمه في مايو (أيار) الجاري في إطار حفل خيري جرى تخصيص ريعه بالكامل للمؤسسات الاجتماعية الخيرية الروسية، الذي يعلن عن عروض مقبلة ضمن ريبورتوار المسرح في يونيو(حزيران) من العام الجاري، إنه يعيد المشاهد إلى أجواء مطلع القرن التاسع عشر وأحداثه التي جمعت بين الحرب والسلام، وما عاشته روسيا من انكسارات وانتصارات، الأمر الذي فسره المخرج بقوله، إنه "عندما يقدم مسرحية أو فيلماً سينمائياً، فإن ذلك يكون من واقع تجارب ذاتية. ومن هنا فإن تحول بيير بيزوخوف إلى بيوتر كيريلوفيتش وما أصابه من تغيرات من الماسونية صوب الإيمان العميق والتوجهات الوطنية القومية الروسية، هو قصتي الشخصية. فأنا غربي الهوى، ولطالما كنت مولعاً بالرسم والفن الغربيين، لكن كلما تقدم بي العمر، كلما كانت إعادة تقييمي للثقافة الروسية أكثر وضوحاً".
وقال أيضاً إنه حين يتحدث عن الحرب وويلاتها، فإنه يستهدف بذلك إعلان مدى ما يراود الملايين من أحلام في السلام!