ملخص
هل تعني الحرب الهجينة نهاية زمن الحروب التقليدية، وتستخدم فيها أدوات غير الحديد والنار؟ أم أنها مزيج من هذا وذاك، لا سيما في ظل نوازل عصرانية في زمن الذكاءات الاصطناعية قد تتمكن ذات مرة من أن تقوم بإزاحة كل ما هو قديم وتقليدي في ساحات الوغى على البر ونقل المعارك إلى البحر والجو؟
ذات مرة تحدث المنظر العسكري الألماني الأشهر كارل فون كلاوزفيتز، قائلاً "لكل عصر نوعه الخاص من الحروب وظروفه المحددة ومفاهيمه المنسقة الخاصة"، وهو ما يعني أن كل حقبة زمنية في تاريخ البشرية، كانت لها أدواتها في الحروب، بدءاً من العصى والحجارة، في زمن الإنسان البدائي، مروراً بالأسلحة المعدنية من سيوف ورماح لاحقاً، وصولاً إلى اكتشاف البارود، وحتى القنبلة الذرية. غير أن العقدين الأولين في القرن الـ21، ومع ثورة التكنولوجيا على الأصعدة الحياتية كافة، أفرزت الحروب مفاهيم جديدة ترتكن إلى مكتشفات آنية، آخذة في التطور، لتخلق لنا أنماطاً مختلفة من الصراعات البشرية. ولعله من بين التعبيرات التي تبدو غامضة، يأتي تعبير "الحروب الهجينة"، التي لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً بالنسبة إليها، إذ يدور جدل حول فائدتها وما إذا كانت تشير ببساطة إلى أساليب غير نظامية لمواجهة قوة متفوقة تقليدياً.
يؤدي غموض المصطلح حكماً إلى استخدامه كمصطلح شامل للتهديدات غير الخطية، أي المعروفة مسبقاً في عالم الحروب والصراعات العسكرية.
هل تعني الحرب الهجينة نهاية زمن الحروب التقليدية، وتستخدم فيها أدوات غير الحديد والنار؟ أم أنها مزيج من هذا وذاك، لا سيما في ظل نوازل عصرانية في زمن الذكاءات الاصطناعية قد تتمكن ذات مرة من أن تقوم بإزاحة كل ما هو قديم وتقليدي في ساحات الوغى على البر ونقل المعارك إلى البحر والجو؟
الحروب الهجينة والتعريف الملتبس
عرف الاستراتيجي الألماني فرانك هوفمان الحرب الهجينة في عام 2007 بأنها الاستخدام المتزامن الناشئ لأنواع متعددة من الحرب من الخصوم المرنين والمتطورين، الذين يدركون أن الصراع الناجح يتطلب مجموعة متنوعة من الأشكال المصممة لتناسب الأهداف في ذلك الوقت.
في هذا السياق، يمكن القطع بأن الصراعات الحديثة باتت تتسم بمزيد هجين من التكتيكات القديمة وغير النظامية، والتخطيط والتنفيذ اللامركزي والجهات الفاعلة غير الحكومية التي تستخدم التقنيات البسيطة والمتطورة بطرق مبتكرة.
وفي حين لا يوجد تعريف واضح ومقبول، فإن الأساليب تشكل الحرب السياسية، وتجمع بين الحرب التقليدية والحرب غير النظامية والحرب الإلكترونية، مع أساليب مؤثرة أخرى، مثل الأخبار المزيفة والدبلوماسية الماكرة، والألاعيب القانونية، ومحاولات تغيير الأنظمة، عطفاً على التدخل الانتخابي الأجنبي.
وتبدو هذه الحرب خليطاً من العمليات الحركية والجهود التخريبية، لا سيما أن المعتدي يتجنب الإسناد أو الانتقام.
وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن الحرب الهجينة هي التي تشمل بعضاً أو أجزاء أو كلاً من الجوانب التالية:
خصم غير قياسي ومعقد ومتغير
يمكن أن يكون الخصم الهجين دولة أو غير دولة، على سبيل المثال في حرب إسرائيل و"حزب الله" عام 2006، كان الخصوم الرئيسون كيانات غير حكومية داخل نظام الدولة.
في الوقت نفسه يمكن للجهات الفاعلة غير الحكومية أن تعمل كوكلاء للدول، ولكن لديها أجندات مستقلة أيضاً. وتتسم الحروب الهجينة باستخدام مزيج من الأساليب التقليدية وغير التقليدية، قد تشمل الأساليب والتكتيكات والقدرات التقليدية، والتكتيكات غير التقليدية، والتشكيلات غير النظامية، والدبلوماسية، والسياسة، والأعمال الإرهابية، والعنف العشوائي، والنشاط الإجرامي، وقد يلجأ الخصم الهجين أيضاً إلى أعمال سرية لتجنب نسب التهم إليه أو الانتقام منه، وتستخدم هذه الأساليب في آن واحد عبر طيف واسع من الصراعات باستراتيجية موحدة.
ومن الأمثلة التي خبرتها البشرية أخيراً على ذلك، تطلعات تنظيم "داعش" العابرة للحدود الوطنية، وتكتيكاته المختلطة، وتشكيلاته المنظمة، واستخدامه القاسي للإرهاب كجزء من أدواته الرسائلية والقتالية، على أن علامة استفهام تتصاعد في طريق البحث عن هذه الحرب الهجينة، وهل هي الوجه المقابل لما يعرف بـ"المنطقة الرمادية"؟ أم أنهما صنوان لمفهوم واحد؟
المنطقة الرمادية والحرب الهجينة
من المؤكد أن طبيعة الحرب تتغير مع وجود مزيد من الخيارات لتحقيق أهداف استراتيجية تقع أسفل عتبة الصراع المسلح التقليدي، مما يحلو لبعض الخبراء تسميته بتكتيكات المنطقة الرمادية أو الحرب الهجينة. ويمكن القول إن مفهومي "الحرب الهجينة" و"المنطقة الرمادية" يستندان إلى استراتيجيات عسكرية راسخة، أما الجديد نسبياً فهو استغلال الخصوم لثغرات تكنولوجيا المعلومات لتحقيق أهدافهم. والشاهد إن كنا قدمنا تعبيراً عابراً للحرب الهجينة، فإنه يبقى مشاغبة مصطلح المنطقة الرمادية وما يومئ إليه.
باختصار تشن الحروب الهجينة في تلك المنطقة التي تعرف بالمنطقة الرمادية للصراعات، مما يعني أن العمليات قد لا تتجاوز عتبة الحرب بوضوح. قد يعزى ذلك إلى غموض القانون الدولي، أو غموض الأفعال ونسبها، أو لأن تأثير الأنشطة لا يبرر الرد. من هنا يبدو واضحاً أن تزايد الاتصال والاعتماد على تكنولوجيا المعلومات، يمثل نقطة ضعف مستهدفة من تهديدين رئيسين، الهجمات الإلكترونية، وتقويض المؤسسات الديمقراطية، وأيضاً اللعب في مقدرات التماسك الاجتماعي، مما يشكل تحدياً معترفاً به للأمن الوطني لأية دولة فوق سطح البسيطة.
تعتبر هذه التهديدات الهجينة أدوات قابلة للاستخدام في حروب غير معلنة، جزءاً من حملات أوسع نطاقاً تشمل أنشطة غامضة، ولهذا تسمى المنطقة الرمادية، لأنها مهيأة تماماً لتحقيق نتائج سياسية من دون اللجوء إلى الصراعات التقليدية. على أن علامة الاستفهام "هل من مجال محدد بعينه للمنطقة الرمادية يبدو، في الوقت الراهن، أنه الأكثر ضراوة في عالم الحرب الهجينة؟".
المؤكد أن الصراع الإلكتروني وما بات يعرف بالحروب السيبرانية، هي العالم الواسع والفسيح للحرب الهجينة في المنطقة الرمادية، ففي حين تنفذ هجمات إلكترونية من جهات متنوعة، هناك صراع إلكتروني منخفض الشدة مستمر بين الدول. ويشمل ذلك هجمات وهجمات مضادة على بنى تحتية حيوية مثل شبكات الكهرباء، أبلغ عنها بين الولايات المتحدة وروسيا. ويمكن لنا هنا أن نتساءل كذلك، هل يمكن أن تقدم الحروب الهجينة في المنطقة الرمادية بديلاً عن الحروب التقليدية؟ بمعنى هل يمكن، في إطار زمني منظور، أن تتوقف المدافع انطلاقاً من حلول وإبدال أدوات حرب عصرانية آخر ميكانيزماتها النار والدمار؟
المنطقة الرمادية والصراعات المركبة
في تقرير أخير لها، تشير مجلة "ذا جورنالست ريفيو" إلى أن أصحاب القرار حول العالم، بدأوا، بالفعل، في العقدين الأخيرين عقد المقاربات بين أكلاف الحروب التقليدية، وتلك الهجينة.
يقول التقرير إن الدراسات الحديثة حول الحروب في أفغانستان والعراق، أظهرت مدى كلفة الحروب الشاملة من حيث الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بغض النظر عن تباين قدرات الأطراف المتصارعة أو الخصوم.
ونظراً إلى التقدم التكنولوجي السريع وظهور الحروب غير المتكافئة، قد تكون الحروب الشاملة غير فعالة حتى مع القوى الأقل موارد ونفوذاً نسبياً، وبالتالي قد يصبح النصر هدفاً صعب المنال. هنا ومع تزايد تكاليف الحرب وتوافر أدوات جديدة للدول، قد تتضاءل الرغبة في خوض حروب شاملة، ومع ذلك لا ينذر هذا بتراجع الصراعات، بل يغير من ديناميكيات الحرب.
في ظل هذه الحقيقة، تلجأ الدول، بصورة متزايدة، إلى حروب هجينة دون مستوى الصراع المسلح، سعياً إلى تحقيق أهدافها الأمنية الصفرية. باختصار، تشهد البيئة الأمنية العامة تغيراً جذرياً على رغم بقاء طبيعة الصراع على حالها.
في هذا السياق، نسترجع، مرة جديدة، ما قاله الخبير الاستراتيجي الألماني الأشهر كلاوزفيتز (1780-1831) من أن "الحرب ليست سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى". وبينما قد يكون هذا صحيحاً، فقد توسعت وسائل الحرب بصورة ملاحظة في ظل الحرب الهجينة المعاصرة، وهذا يعني أن مصفوفة السياسة والحرب أصبحت أكثر تعقيداً، نظراً إلى أن ديناميكيات الحرب في حال تغير مستمر.
تعني الحرب الآن مجموعة من الاحتمالات، ففي بعض الأحيان، قد لا تنطوي على عمليات حركية بالتزامن مع استخدام جهات فاعلة من غير الدول. وفي أحيان أخرى، قد تتضمن شن هجمات إلكترونية تستهدف البنية التحتية الحيوية إلى جانب حملات التضليل، وتتسع هذه السبل، وكذلك الطرق التي يمكن من خلالها دمجها أو مقارنتها.
وفي كل الأحوال، تضفي الحرب الهجينة غموضاً على ديناميكيات الصراع، ليس فقط لأنها توفر أدوات واسعة ومتنامية لتقويض الخصم، بل أيضاً لأنها تضعف أمنه على جبهتين في آن واحد. ويرتبط هذا بالأهداف الشاملة للحرب الهجينة، فعلى صعيد القدرات تستغل نقاط ضعف الدول المستهدفة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية والبنية التحتية، بقدر ما تضعفها بصورة ملموسة ووظيفية.
هل من جانب آخر خفي وخطر في الحرب الهجينة يجرى بالفعل في المنطقة الرمادية؟
الشاهد أن هناك جبهة ثانية يقوض من خلالها أمن الدولة، وهي جبهة ذات طابع فكري، وتتعلق بشرعية الدولة، وكما يشير تقرير صادر عن الوكالة النرويجية للتعاون الإنمائي، فإن "شرعية الدولة تتعلق بالأساس الذي تربط به الدولة والمجتمع، والذي تبرز به سلطتها"، وبالتالي تشكل الشرعية في جوهرها أساس سلطة الدولة أو سلطتها.
وفي محاولة لإضعاف العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بمواطنيها، يسعى طرف هجين إلى تقويض الثقة بين مؤسسات الدولة والشعب. ويؤدي هذا إلى فقدان الدولة شرعيتها، التي تعزى، إلى حد كبير، إلى ثقة الجمهور بها في العصر الحديث، وبالتالي قدرتها على العمل كقوة عظمى في المجال المحلي، ونتيجة لذلك تلحق الهجمات الهجينة الضرر بالأسس الفكرية للدولة وقدرتها على العمل بسلاسة.
عن أخطر أدوات الحرب الهجينة
ربما يضحي من الصعب الإحاطة الكاملة بأدوات الحرب الهجينة كافة، لكن هذه في الأقل عينة منها، وفي مقدمها:
- التخريب الإلكتروني: في الأعوام الماضية حذر كثير من الجهات الاستخبارية من خطر الأنشطة الخبيثة في الفضاء الإلكتروني، فالتجسس والتخريب عبر الإنترنت حاضران على الدوام.
- التضليل والدعاية: من بين الأهداف الأخرى للحرب الهجينة محاولة التأثير في الرأي العام في بلد مستهدف معين، ويجري نشر الأكاذيب والروايات لتحقيق هذه الغاية، سواء على منصات التواصل الاجتماعي من خلال مصانع التصيد، أم عبر منافذ الإعلام المختلفة.
- التدخل في الانتخابات والعملية السياسية: أحد أهم أهداف حملات التضليل هو تقويض الدعم الشعبي لأية حكومة وطنية داخلية، وزعزعة الاستقرار السياسي الداخلي من خلال تعزيز، وربما دعم الأحزاب والمرشحين المتطرفين، من خلال الأموال السوداء أو القذرة، أو الحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتشكل هجمات الاختراق والتسريب أيضاً جزءاً من ذخيرة الحرب الهجينة، كما تتضمن هذه الهجمات اختراق السياسيين أو الأحزاب السياسية والمؤسسات الأخرى لسرقة ونشر معلومات سرية، وأحياناً دس وثائق مزورة قبل الانتخابات على العوام، وهو ما حدث بالفعل في الفترة التي سبقت الانتخابات الأميركية عام 2016، والانتخابات الرئاسية الفرنسية في عام 2017.
- عمليات القتل المستهدفة: وتعني اغتيال الشخصيات المؤثرة، وهو جانب آخر من الحرب الهجينة، وهناك اتهامات واسعة موجهة لدول من أوروبا الشرقية مفادها بارتكاب سلطاتها جرائم قتل معارضين سياسيين بهدف إضعاف المعارضة في الداخل.
- تخريب البنية التحتية: وتعد هذه واحدة من أخطر الآليات التي تجرى بها هذه الحرب، ذلك أن الأمر يمكن أن يؤثر في حياة الناس بصورة مباشرة. خذ على سبيل المثال: ماذا يمكن أن يحدث حال تعطل شبكات الكهرباء في مدينة مزدحمة بالسكان وفي أجواء حارة، والخسائر البشرية التي يمكن أن تنتج من مثل هذه الأفعال.
- التجسس الداخلي: عادة ما تعتبر السفارات والقنصليات الأجنبية مراكز تجسس تختبئ وراء الستار الدبلوماسي، وعادة ما تكون أدوات متقدمة في عالم الحروب الهجينة.
على سبيل المثال، طردت الدول الأوروبية نحو 500 دبلوماسي روسي منذ أوائل عام 2022، إذ أفادت هيئة الاستخبارات البريطانية MI5 بأن 400 منهم في الأقل جواسيس، ويقال إن عدداً من السفارات والقنصليات مجهزة بتقنيات اتصالات وتجسس متطورة. على أن هناك نوعاً خاصاً، أداة من أدوات تلك الحرب تستحق التوقف أمامها، بتؤدة وقراءة عميقة، نظراً إلى تأثيرها الكبير والخطر في أية حرب حقيقية عسكرية لا سيما بين الدول ذات الأوزان العسكرية الثقيلة، ماذا عن هذا الفرع؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المعلومات الزائفة سلاح استراتيجي
يمكن القطع أن هناك أحد أهم الأسلحة المستخدمة في الحرب الهجينة، التي لم تستخدم إلا في العقود الحديثة، سلاح معنوي، لكنه فتاك، بأشد قوة وحدة ربما من الأسلحة التقليدية المعروفة منذ زمان وزمانين. في أوائل يناير (كانون الثاني) الماضي، نشر موقع "فورميكي" تقريراً سلط فيه الضوء على دور روسيا والصين وإيران في استخدام الحرب الهجينة، إذ أصبح التضليل المعلوماتي عنصراً محورياً في استراتيجياتها الجيوسياسية والعسكرية، وتقوم الدول باستغلال الأدوات الرقمية لتعزيز نفوذها وزعزعة الاستقرار في الغرب، والعهدة هنا على التقرير.
يقول التقرير إن أجهزة الاستخبارات والأمن في روسيا والصين وإيران تملك أقساماً متخصصة ووحدات مكرسة للهجوم في المجال المعلوماتي، بدءاً من مصانع الترويج الروسية للتلاعب بالمعلومات، ووصولاً إلى مفهوم "تقارب وسائل الإعلام، أي الدمج التدريجي بين الدعاية الداخلية والخارجية، الذي أقرته توجيهات الحزب الشيوعي الصيني، وتظهر هذه المؤسسات بنية مؤسسية وعسكرية تعكس وجود خطة استراتيجية واضحة"، وفق ما قالته ماتيا كانيغليا كبيرة محللي الاستخبارات والسياسات في مؤشر التضليل العالمي.
ويوضح الموقع أن الصراع في أوكرانيا، والتوترات الأخيرة في الشرق الأوسط، والتنافس الجيوسياسي على النفوذ في الجنوب العالمي، بجانب الأحداث الانتخابية في دول استراتيجية في أوروبا الشرقية مثل رومانيا، تظهر أن التمييز التقليدي بين الحرب التقليدية وعمليات التضليل الإعلامي، أصبح متجاوزاً، إذ تتلاشى الحدود بين الصراع المادي والرقمي، وأصبحت المعلومات المضللة التي تعد عنصراً رئيساً في الحرب الهجينة، ليست جانباً ثانوياً فحسب، بل إنها محور مركزي في الاستراتيجيات العسكرية الجيوسياسية.
وبعيداً من تقرير موقع "فورميكي" يبدو من المؤكد أن عمليات "الاختراق والتسريب" تتزايد جنباً إلى جنب مع التنسيق بين التكتيكات الهجينة، كما أنه يزداد استخدام الشركات الخاصة المؤجرة، وتجنيد المؤثرين، والاستغلال المنهجي لقنوات الاتصال الحكومية والدبلوماسية، وتوظيف ما يعرف بـ"الإجراءات النشطة"، واستهداف المجتمعات والجمهور المحدد بدقة. وتستغل عمليات التضليل بصورة متزايدة الفرص المتاحة من خلال النقاشات العامة أو دورة الأخبار حول القضايا المثيرة للانقسام والاستقطاب في البلدان المستهدفة.
ولعله بات من المؤكد القول إن استراتيجيات المعلومات الزائفة والمكذوبة لم تعد مجرد أدوات للتلاعب، بل هي وسائل حقيقة لإعادة تعريف التصورات والتوازنات العالمية، فلا تقتصر حملات التأثير في نشر الفوضى، بل إنها تخلق سيناريوهات تزدهر فيها حال انعدام الثقة، وتزداد الاستقطابات وتتفاقم الاحتجاجات، ويصبح اتخاذ القرار في المؤسسات أكثر بطئاً وتعقيداً، ولا تقتصر التأثيرات المزعزعة في مناطق الصراع فقط، بل تمتد إلى حكومات الدول المستهدفة، مما يقوض الثقة في المؤسسات ويجعل التعاون الدولي أكثر صعوبة.
هنا يتساءل بعضهم هل قصة المعلومات المضللة تجذر لأزمة المواجهة بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية؟
المؤكد جداً هو أن المواجهة بين الجانبين تمر حكماً عبر التهديدات الهجينة الغامضة، وأن هذا التنسيق المتزايد في مجال التضليل لا يشكل فقط تهديداً حتمياً في المشهد الجيوسياسي الحالي، لكنه يحدد خريطة طريق لتحالفات دولية يمكنها أن تفقد العالم سلامه واتزانه في المدى الزمني المنظور.
هل من أمثلة عن عمليات هجينة جرت بها المقادير في الفترة الأخيرة؟
أميركا وروسيا في المناطق الرمادية
ولأن الولايات المتحدة الأميركية، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فلهذا ربما أضحت بالفعل في عين إعصار الحرب الهجينة، بخاصة إذا اعتبرناها الباب الخلفي للصراعات الجيوسياسية في العقدين الأخيرين.
على سبيل المثال، في مايو (أيار) الماضي كشف تقرير لوكالة "رويترز" عن تحقيق أجرته وزارة الطاقة الأميركية كشف عن استخدام محولات جهد عالي عدة مصنعة في الصين، عبر شبكة الكهرباء الأميركية واحتوائها على إمكانات اتصال خفية. وأفادت التقارير بأن هذه الأجهزة توفر "ثغرات" تتيح الوصول عن بعد إلى الشبكة، مما يتيح إمكان تعطيل الخدمات في أية لحظة. ومن الناحية النظرية، سيسمح هذا للصين بتدبير أزمة بنية تحتية واسعة النطاق، وفي الوقت نفسه يؤخر قدرة الحكومة الأميركية أو الجيش الأميركي على الاستجابة للتهديدات أو بدء التعبئة.
هل كان الأمر مجرد مفاجأة للجانب الأميركي؟
غالب الظن لا، إذ أشار تقييم التهديدات السنوية لعام 2024 الصادر عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، إلى أن هذه الثغرات الأمنية كانت على الأرجح نتيجة عمليات معادية متعمدة، وتمثل قدرة حربية متنامية للصين.
تظهر هذه الحادثة أن الخصوم لا يحتاجون إلى مواجهة عسكرية مباشرة لتقويض هيمنة الولايات المتحدة أو جاهزيتها الدفاعية، بل يمكنهم تحقيق ذلك من خلال تكامل البنية التحتية الذي يبدو روتينياً، الذي هو، في حد ذاته، نتيجة تشريعات فضفاضة.
غير أن ذلك لا يعني أن أميركا فقط المستهدفة من الحرب الهجينة، فروسيا بدورها كانت ضحية في الأول من يونيو (حزيران) الماضي، بعد أن أطلقت أوكرانيا عملية "شبكة العنكبوت"، وهي حملة حرب هجينة واسعة النطاق استهدفت قوة القاذفات الاستراتيجية الروسية، وشهدت العملية نشر طائرات مسيرة هجومية أحادية الاتجاه، انطلاقاً من مواقع مخفية داخل روسيا، استهدفت هذه الطائرات، التي نشرت من صناديق على شاحنات نصبت بالقرب من القواعد الروسية طائرات استراتيجية، مثل قاذفات "توبوليف-95" في خمس قواعد جوية روسية.
من أميركا إلى روسيا وصولاً إلى إيران، ففي الـ12 من يونيو، نفذت القوات الإسرائيلية "عملية الأسد" الصاعد لضرب البنية التحتية الإيرانية والأفراد الرئيسين والمواقع العسكرية والمنشآت النووية.
وعلى غرار عملية العنكبوت الإيرانية، تضمنت عملية إسرائيل نشر الموساد طائرات من دون طيار وقاذفات صواريخ من مواقع سرية داخل إيران. وتم التحكم في الذخائر عند نشرها بواسطة عملاء مدمجين، وتسليمها إلى أهداف استراتيجية مثل مصانع الذخيرة وبطاريات الدفاع الجوي، والجانب الرئيس هو أنها كانت كلها مخططة ومنظمة ومنتشرة داخل إيران، وضمن نطاق ضربات أهداف الجيش الإسرائيلي، مما سهل ضربات دقيقة وسريعة وفعالة للأهداف من سلاح الجو الإسرائيلي، وهذا يوضح كيف يمكن لتكتيكات الحرب الجديدة أن تسفر عن آثار استراتيجية خاصة عند استخدامها في تشكيل العمليات للقوات التقليدية.
فما الذي يتبقى في حديث الحروب الهجينة والمنطقة الرمادية؟
الذكاء الاصطناعي وتغذية الحروب الهجينة
هل يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً متقدماً في عالم الحرب الهجينة؟
الجواب نجده عند الأميرال المتقاعد ديمتريوس تسايلاس من البحرية اليونانية، الذي يقطع بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة دعم في الحروب الحديثة، بل أصبح عاملاً حاسماً في إبراز القوة العالمية، ومع دمج القوات العسكرية حول العالم للذكاء الاصطناعي في أنظمة المراقبة والأسلحة ذاتية التشغيل وعمليات صنع القرار، تشهد طبيعة الصراع تحولاً جذرياً. وبينما لا يزال المشهد الجيوسياسي يتميز بصراعات القوة التنفيذية والتوازن الاستراتيجي، فقد تطورت أدوات الحرب تطوراً جذرياً، لا سيما على صعيد الحرب الهجينة والهجمات في المناطق الرمادية.
والمقطوع به أن الذكاء الاصطناعي، في شقه العسكري، يجعل عالم الحرب الهجينة، مليئاً بالفرص والأخطار الجسيمة، فمن جهة يعد بدقة محسنة وكفاءة عملية، وربما تقليل الخسائر البشرية، ومن جهة أخرى يثير شبح التصعيد الخوارزمي، إذ تحدد الآلات وليس البشر وتيرة الصراع وحجمه، ويتحدى الاستقلال المتزايد لأنظمة الذكاء الاصطناعي مبادئ القيادة العسكرية، والحكم البشري والمعايير الدلية الراسخة.
الذكاء الاصطناعي، هو الطبعة الأحدث في عالم الحرب الهجينة، مما يمثل نقلة جبارة من عالم كلاوزفيتز إلى حاضرات عصرنا.
الحرب كما لاحظ كارل فون كلاوزفيتز، تتشكل من خلال مثلث متقلب من العاطفة والصدفة والعقل ضمن إطار يرتكز على الحالة الإنسانية.
أقر كلاوزفيتز بأن العقلانية غالباً ما يطغى عليها الخوف أو الكراهية أو ضباب الحرب، وبالمثل صن تزو على السلطة الأخلاقية والحدس للقائد كقوى حاسمة في المعركة.
لكن مفهوم كلاوزفيتز للحرب، كمسعى إنساني في جوهره، يواجه الآن تحدياً وجودياً، ففي العقود المقبلة، قد تشن الصراعات، بصورة متزايدة، من أنظمة خالية من المشاعر، محصنة ضد التعب، وغير متأثرة بالعوامل النفسية، وقد يفسح الغموض، الذي ميز فن الحرب يوماً ما، المجال للدقة السريرية لمنطق الآلة، وقد تصبح القيادة كما فهمت سابقاً، التي صاغتها الكاريزما والحدس والوضوح الأخلاقي عتيقة الطراز.
وعلى رغم أن الآلات تستطيع الخداع والتكيف، فإنها تفعل ذلك من خلال التفكير الاحتمالي، لا الغريزة، فيما يستمر ضباب ساحة المعركة، لكنه سيكون معلوماتياً لا عاطفياً، مما يعني إمكان انكسار مثلث كلاوزفيتز، ومعه يتلاشى الجوهر الإنساني للحرب.
هل من كارثة محدقة بالبشرية حال تسرب عالم الذكاء الاصطناعي من الباب الدوار للحرب الهجينة؟
بكل وضوح، من دون تنسيق عالمي، يخاطر العالم بدخول عصر لم تعد فيه الحروب قراراً بشرياً، بل نتيجة آلية، مما يعني أنه حان وقت التحرك، قبل أن تسيطر الآلات على عالم الحرب الهجينة لتجد البشرية نفسها في مواجهة الكارثة لا الحادثة وقد تكون القارعة بعينها.