ملخص
يرى مراقبون أن الهجرة الداخلية لم تعد مجرد انتقال ديموغرافي أو استجابة ظرفية لضغوط اقتصادية، بل أصبحت تعبيراً عن تحولات بنيوية في قيم المجتمع المغربي وديناميته الحضرية، كما أن الهجرة الداخلية المكثفة للمغربيات تعزى إلى التحولات الديموغرافية المتسارعة وإلى عوامل التعليم والعمل، والدوافع العائلية.
رصد بحث رسمي تنامي ظاهرة الهجرة الداخلية في المغرب، بنسبة تناهز 40 في المئة من السكان من الذين غيروا مكان إقامتهم مرة واحدة في الأقل، فيما ظهر بصورة لافتة الطابع الأنثوي المتزايد لهذه الهجرة الداخلية بالبلاد، إذ يشكل النساء أكثر من نصف المهاجرين الداخليين (نحو 55 في المئة).
ويرى مراقبون أن الهجرة الداخلية لم تعد مجرد انتقال ديموغرافي أو استجابة ظرفية لضغوط اقتصادية، بل أصبحت تعبيراً عن تحولات بنيوية في قيم المجتمع المغربي وديناميته الحضرية، كما أن الهجرة الداخلية المكثفة للمغربيات تعزى إلى التحولات الديموغرافية المتسارعة وإلى عوامل التعليم والعمل، والدوافع العائلية.
الهجرة بين المدن
عرفت المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة حكومية تعنى بالإحصاءات)، الهجرة الداخلية بكونها "كل انتقال من جماعة ترابية إلى أخرى لمدة إقامة لا تقل عن ستة أشهر"، وبأنها تعد ظاهرة بنيوية في الدينامية الديموغرافية المغربية، وتشكل المحرك الرئيس لتغير أماكن الإقامة.
وأورد المصدر الرسمي ذاته أن الهجرة بين المدن (حضرية - حضرية) تمثل نحو 50 في المئة من إجمال التنقلات، وهي مرتبطة بفرص العمل والخدمات وتحسين ظروف المعيشة، بينما الهجرة القروية - الحضرية (من القرى إلى المدن) لا تزال قوية وتشكل نحو ثلث التحركات، والهجرة الحضرية - القروية محدودة (نحو سبعة في المئة)، وغالباً ما تكون لأسباب عائلية أو تقاعدية (المعاش).
ويعلق المتخصص في علم الاجتماع بجامعة أغادير زهير البحيري على تنامي الهجرة بين المدن المغربية، كونه "أحد أبرز المؤشرات الدالة على تشكل نمط حضري جديد، يقوم على الحركية وإعادة توزيع المواقع الاجتماعية داخل فضاء حضري معولم وغير متكافئ".
وأوضح البحيري أن الهجرة الداخلية لم تعد مجرد انتقال ديموغرافي أو استجابة ظرفية لضغوط اقتصادية، بل أصبحت تعبيراً عن تحولات بنيوية مست قيم المجتمع المغربي وديناميته الحضرية، وعن إعادة تنظيم المجال الحضري وفق منطق السوق والمنافسة والفرص.
واسترسل "تحولت المدن المغربية من فضاءات للاستقرار إلى فضاءات للحركية والاختيار، بفعل اندماجها المتزايد في الاقتصاد العالمي وتطور بنياتها التحتية والخدماتية، مما جعلها مراكز جذب وانتقاء يُعاد فيها ترتيب المواقع الاجتماعية والاقتصادية بحسب درجات الاندماج في دوائر الإنتاج والاستهلاك والخدمات".
تراتبية حضرية
وتبرز المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط وطنجة بوصفها أقطاباً اقتصادية ومعرفية تحتضن مراكز القرار والاستثمار، وتتركز فيها الثروة وفرص الشغل والخدمات الحديثة، بينما تسعى مدن أخرى إلى الارتقاء ضمن الشبكة الحضرية الوطنية من خلال تحسين جاذبيتها الاستثمارية وتطوير بنياتها التحتية، غير أن ذلك يتم في ظل تفاوت في الإمكانات والموارد والفرص.
ومن ثم، يردف الباحث الاجتماعي نفسه "ظهرت تراتبية حضرية جديدة جعلت من الهجرة بين المدن وسيلة لإعادة التموقع داخل النسق الحضري، وآلية للبحث عن الاستقرار في فضاءات أكثر حيوية اقتصادياً ورمزياً".
واستطرد البحيري بأن التفاوت في توزيع التنمية وتركيز الثروات في أقطاب محددة يشكل أحد الدوافع البنيوية الأساس وراء تنامي هذه الحركية، إذ تلعب المدن المتوسطة والصاعدة أدواراً وسيطة بين المراكز الكبرى والهوامش، فتمتص جزءاً من الحراك الاجتماعي لفئات تبحث عن توازن بين كلف العيش وفرص الشغل والاندماج المهني".
ووفق الأستاذ الجامعي، إذا كانت العوامل الاقتصادية والمجالية تفسر جانباً مهماً من هذه الظاهرة، فإن البعد الثقافي والرمزي يضفي عليها دلالات أعمق، فالمغاربة اليوم لا ينظرون إلى المدينة باعتبارها مجرد مكان للإقامة والسكن فحسب، بل فضاء لتحقيق الذات والارتقاء الاجتماعي وإعادة بناء المكانة ضمن مجتمع حضري متغير.
ويرى البحيري أن "الهجرة لم تعد فعلاً اضطرارياً كما في الماضي، بل أصبحت خياراً إرادياً واستراتيجية فردية وجماعية تعبر عن طموح نحو تحسين الوضع الاجتماعي، وتوسيع رأس المال الرمزي والشبكي، والانفتاح على أنماط عيش أكثر تنوعاً، لتصبح الحركية بين المدن سلوكاً حضرياً جديداً يعكس ثقافة اجتماعية قائمة على الدينامية والمرونة والمغامرة".
هجرة "ناعمة"
وضمن التقرير الحكومي ذاته، ورد الطابع النسوي المتزايد لظاهرة الهجرة الداخلية في المغرب، حيث يشكلن أزيد من نصف المهاجرين الداخليين (نحو 55 في المئة)، وهو ما يعكس بحسب التقرير "تحولاً اجتماعياً واقتصادياً، إذ أصبحت النساء أكثر حضوراً في التعليم والعمل، كما أن العوامل العائلية تؤثر بقوة في قرارات الهجرة".
ويقرأ الباحث في علم الاجتماع والمتخصص في الهجرات والتغيرات الاجتماعية محمد حيتومي هذا المعطى اللافت على أنه يعود إلى عوامل عدة رئيسة، منها السياق الاجتماعي المتمثل في التحولات الديموغرافية التي عرفها المجتمع المغربي، سواء على مستوى الارتفاع النسبي للولادات في أوساط الإناث، أو على مستوى الشباب كفئة عمرية واجتماعية تسيطر على الهرم السكاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف حيتومي عاملاً ثانياً يتمثل في المستوى الثقافي التعليمي الذي يحيل على الحركية المجالية في صفوف المتعلمين والمتعلمات"، مشيراً إلى أن "ارتفاع تمدرس الإناث ومتابعتهن لمختلف مستويات الدراسة وصولاً إلى التعليم الجامعي صار واضحاً لا تخطئه العين".
واسترسل الباحث شارحاً "التعليم الثانوي والتعليم الجامعي يستوجبان حركية مجالية إلزامية، ذلك أن مؤسسات التعليم الثانوي ومؤسسات التكوين المهني والمؤسسات الجامعية تتمركز في المدن، وأحياناً كثيرة داخل المدن الكبرى حين يتعلق الأمر بالتخصصات المحدودة".
وأكمل حيتومي أن "هذه الحركية المجالية غالباً ما تتطور إلى هجرة، أي الانتقال المكاني للعيش وليس فقط للذهاب والإياب بين مجالين بصورة يومية، وإنما للعيش لمدة زمنية طويلة لممارسة أنشطة الحياة المتنوعة".
واستحضر المتكلم عاملاً آخر هو ارتفاع الساكنة الحضرية في المغرب، حيث إن المجتمع المغربي يعيش وتيرة تحضر وتمدين كبير، وتجاوزت الساكنة الحضرية وفق الإحصاء العام للسكان والسكنى لعام 2024 نسبة 67 في المئة من مجموع السكان، مما يؤكد ظاهرة الانتقال من الأرياف والبوادي تجاه المدن، وذلك فضلاً عن ارتفاع النمو الديموغرافي الأصلي في المدن".
مجتمع الغرباء
ومضى حيتومي باسطاً عوامل أخرى تفسر ارتفاع ظاهرة الهجرة الداخلية "الناعمة" للنساء، ومنها أن المدينة تُعرف بكونها مجالاً اجتماعياً لمجتمع الغرباء، متحولةً وفضاءاتها العامة إلى فضاءات لممارسة الحريات والحقوق الفردية بدرجة أكبر من التحرر، سواء من سلطة الأفراد أو من سلطة التقاليد الكابحة.
وتوقف حيتومي عند محدد آخر لهجرة الفتيات يتمثل في "العمل المأجور"، باعتبار أن المجتمع المغربي يعد واحداً من المجتمعات النامية الصاعدة، ولا يمكن إغفال "التحول الصناعي والخدماتي للمجتمع"، فالمناطق الصناعية مثلاً توجد داخل المدن ولا توجد في القرى، باستثناء المناجم وبعض الصناعات الفلاحية.
وزاد الباحث ذاته عاملاً محدداً آخر هو تغير الممارسات والأنشطة الفردية والاجتماعية والتي تغيرت معها الحاجات، كما أن الاستهلاك لم يعد محدوداً في المعيشة والسلع وإنما أصبح استهلاكاً مالياً مستمراً لخدمات عدة، منها الخدمات الصحية والإدارية والتعليمية، وخدمات التسوق في المراكز الكبرى والأسواق الممتازة التي تتمركز داخل الحواضر.
وأشار المتحدث عينه إلى محدد آخر لا يقل أهمية عن باقي العوامل، وهو الدافع البيئي المترتب عن توالي مواسم الجفاف في الأرياف والبوادي، وصعوبة مكوث أفراد الأسرة في البادية، خلال وقت يهاجر فيه الأب أو الأخ المعيل للأسرة إلى المدينة.
وأردف حيتومي محدداً رئيساً آخر هو التحول الثقافي والتحول الاجتماعي المرتبط بالتحول الديموغرافي، وتحديداً التأخر في سن الزواج، مما يعني أنه صار للفتاة مدة زمنية طويلة جداً لإمكانية الحركة، إذ يتيح فائض الوقت من العزوبية مدة زمنية إضافية بعد المراهقة وما بعد الحصول على الشهادات الدراسية وإتمام المسار الدراسي.