ملخص
مئات الآلاف من الإسرائيليين خرجوا في احتجاجات حاشدة نظمتها عائلات الرهائن، متهمين حكومة نتنياهو بخيانة أبنائهم والانشغال بحسابات سياسية على حساب عودتهم. وسط صمود المجتمع وتضحيات الجيش، يتعمق الغضب من حكومة متطرفة تتجاهل المسؤولية، وتعطل الديمقراطية، وتتمسك بالسلطة فيما الحرب بلا نهاية.
يوم الأحد الماضي، توقفت الحياة في إسرائيل. فقد نظم منتدى عائلات الرهائن والمفقودين إضراباً وطنياً واحتجاجات حاشدة، استقطبت أكثر من مليون شخص في مختلف أنحاء البلاد، منهم 500 ألف تجمعوا في "ساحة الرهائن" وسط تل أبيب، واتهمت عائلات المفقودين الحكومة بأنها تخلت عن أحبائها لصالح حسابات سياسية.
وقال عوفير براسلافسكي، والد روم الذي ظهر هزيلاً ويائساً في مقطع فيديو بثته حركة "حماس"، خلال كلمته في التجمع: "إن ابني روم ليس لديه وقت، والرهائن ليس لديهم وقت". وكانت الرسالة واضحة: أعيدوهم لديارهم، أوقفوا الحرب، الآن!
هذه المناشدات اليائسة من العائلات مفهومة، لكنها لا تحظى بإجماع داخل إسرائيل. فبعض أسر الرهائن، إلى جانب بعض عائلات ضحايا هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، ترفض الاحتجاجات والجهود المبذولة لوقف الحرب. وترى أن "الانتصار الكامل" أمر حاسم، وهو السبيل الوحيد لعودة الرهائن، مهما كانت الأخطار.
أنا لست خبيراً عسكرياً، ولا أستطيع الجزم إن كان اجتياح مدينة غزة واحتلال القطاع بأكمله قراراً صائباً أم خاطئاً. وأثق شخصياً بأن الجيش الإسرائيلي سيتصرف بمسؤولية، غير أن ما يثير شكوكي هو ما يسمى بـ"الانتصار الكامل"، الذي يؤكد بنيامين نتنياهو منذ 18 شهراً أنه على بعد أسابيع فقط، كما يكرر حتى اليوم.
يستحق الإسرائيليون حكومة يمكن الوثوق بها لاتخاذ القرارات الصعبة بما يخدم مصالحهم، لكن للأسف لا نملك اليوم مثل هذه الحكومة.
فهذه الحرب لا سابقة لها، لا في حجمها، ولا في هولها، ولا في فداحة إخفاقات قادتها. كثير من الإسرائيليين فقدوا ثقتهم في قدرة ائتلاف بنيامين نتنياهو على تغليب مصلحة البلاد على بقائه السياسي، فلم يعودوا يثقون بدوافعه، ولا بحكمه، ولا بقراراته.
في الساعات الأولى عقب هجمات السابع من أكتوبر، اختفت حكومة "سيد الأمن" عن المشهد، لم يكن المسؤولون مختبئين من الإرهابيين المتقدمين، بل من شعبهم. وكأن وطأة اللحظة فاقت قدرتهم على المواجهة، فغابوا.
وفي أحلك ساعات البلاد، بدت إسرائيل بلا دفة ولا قيادة.
حتى اليوم، لم يجرؤ أي وزير على تحمل المسؤولية بوضوح، لم يقف واحد ليقول: لقد حدث هذا في عهدنا.
لكن الإسرائيليين العاديين هم من ارتقوا إلى مستوى اللحظة، ففي يوم مجزرة "حماس"، اندفع رجال ونساء شجعان إلى الجنوب للقتال والإنقاذ وتقديم العون بكل ما استطاعوا، ولبى جنود الاحتياط الدعوة بأعداد قياسية. وفي الأيام التالية، نظم مواطنون عاديون عمليات إجلاء، ووفروا المأوى، وأطعموا الجنود، ورعوا الناجين، وتولوا الخدمات اللوجستية، بل وشاركوا في تحديد هوية الضحايا، لقد صانوا تماسك البلاد بإرادتهم الصلبة.
وعندما عاد وزراء الحكومة للواجهة أخيراً، كان المشهد مخزياً. لا تواضع، ولا تغيير. فقط لعبة تبادل اللوم خدمة لمصالحهم الشخصية، ومنذ البداية كانت أولويتهم البقاء في السلطة.
فعل الإسرائيليون كل ما طلب منهم، بل وأكثر. فقد جرى إرسال الجنود النظاميين والاحتياط مراراً إلى ساحات القتال حتى بلغوا حد الإرهاق، وتحملت العائلات والعلاقات والأعمال التجارية والمجتمعات بأكملها العبء القاسي لهذه الحرب التي تبدو بلا نهاية.
وأظهرت عائلات الرهائن قوة وصموداً استثنائيين، فيما أحباؤهم ما زالوا يقبعون في أنفاق "حماس". الآباء الثكالى، والناجون، والمجتمعات النازحة، وأبناء الشعب من مختلف أطياف المجتمع في إسرائيل - يهوداً وغير يهود - حملوا الأمة على أكتافهم.
ومع ذلك، تمعن حكومتهم في خيانتهم. فعلى رغم إعلان الجيش الإسرائيلي نقصاً في عديد قواته يصل إلى 20 ألف جندي، يسعى الائتلاف الحاكم إلى تمرير مشروع قانون يعفي عشرات الآلاف من الرجال الحريديم الأصحاء من الخدمة العسكرية، فقط لاسترضاء الأحزاب الدينية والحفاظ على بقاء الائتلاف. إنه عار وطني، وطعنة في ظهر من يضحون بكل شيء دفاعاً عن البلاد.
وتدرك عائلات الرهائن أنه بالنسبة إلى هذه الحكومة لم يعد أحباؤهم أولوية، ولم تعد عودتهم الهدف الأساس للحرب، مهما ادعى نتنياهو عكس ذلك.
فما الذي يوجه عملية صنع القرار اليوم، التي أذهلت العالم وكثيراً من الإسرائيليين؟ إن المتطرفين في الحكومة، بقيادة بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية) وإيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي)، يطالبون بالغزو الشامل لغزة وإعادة التوطين فيها. بالنسبة إليهم، يشكل ملف الرهائن مجرد عبء، ولا حاجة لإعادتهم إن كان ذلك سيعني إنهاء الحرب. أما بنيامين نتنياهو، الذي اشتهر بقدرته على المناورة السياسية، فلا يتردد في مجاراتهم. وما دام بقاء الائتلاف مضموناً، فإن الثمن - أياً كان - بلا قيمة. لقد باع بالفعل روحه، ومعها روح البلاد.
يفترض بإسرائيل أن تتحرك وفق مصالحها الأمنية الذاتية، لا بدافع الضغوط الدولية أو البحث عن الشرعية الخارجية. غير أن نتنياهو، بانصياعه للمتطرفين، يخاطر بتحويل الانتصارات والتضحيات إلى انتكاسات دبلوماسية وعزلة دولية. وهو يبدو منفصلاً تماماً عن الواقع: يتحدث عن "نصر كامل" من دون أن يكلف نفسه عناء تحديد معناه، ويرفض تحمل المسؤولية عن أعظم إخفاق أمني في تاريخ إسرائيل، بينما يسارع إلى نسب كل نجاح عسكري لنفسه.
لكن هذه النجاحات تنسب بالدرجة الأولى إلى "الجيش الإسرائيلي" والأجهزة الأمنية الأخرى، التي اعترف قادتها علناً بأن إخفاقاتهم مهدت الطريق لهجمات السابع من أكتوبر، فقبلوا تحمل المسؤولية وتعهدوا بالإصلاح ثم بالاستقالة، وقد استقال بالفعل كل من رئيس الأركان ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يمكن لنتنياهو أن يجمع بين الأمرين: فإذا كان نال الفضل عندما سارت الأمور على ما يرام، فعليه أيضاً أن يتحمل المسؤولية عند الفشل. لقد كانت هناك إخفاقات كارثية قادت إلى هذه الحرب، لكن، كما الحال دائماً، لدى نتنياهو خطة: حملة لإسكات المعارضة والنأي بنفسه عن كارثة السابع من أكتوبر.
قبل الحرب، حذر وزير الدفاع يوآف غالانت من أن "الإصلاح القضائي" يقوض الأمن، ولم يمنع نتنياهو من إقالته حينها إلا الضغط الشعبي، لكن لاحقاً عندما عارض غالانت إعفاء الحريديم، خصوصاً أثناء الحرب، أقاله نتنياهو، واستبدله بشخص ضعيف الكفاءة ومتبجح ومقرب منه.
ربما كان يمكن لطوني سوبرانو، زعيم المافيا في المسلسل الأميركي The Sopranos، أن يتعلم درساً أو اثنين من بنيامين نتنياهو: السلطة بأي ثمن، والقسوة، وقمع المعارضة، ومكافأة الطاعة، وتقديم السلطة على المبادئ، والسياسة على الناس.
يشار إلى أن رئيس الأركان السابق هيرتسي هاليفي كان عارض قانون الإعفاء، فدفع ثمن موقفه بخسارة منصبه. ورفض مدير جهاز "شين بيت" رونين بار الانصياع للأوامر، وكان في ذلك الوقت يجري أيضاً تحقيقاً مع الدائرة المقربة من نتنياهو في شأن مدفوعات غير قانونية من قطر. لكن بار لم ينج من حملة التطهير، فيما يستمر التحقيق مع مستشاري نتنياهو.
أما يولي إدلشتاين، رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، فرفض بإصرار دعم مشروع قانون التهرب من الخدمة العسكرية، ليستبدل بموال لنتنياهو كلف بتمرير القانون عبر اللجنة.
وعندما تسند مهمة الإشراف على الشرطة إلى متطرف يميني مدان في قضايا جنائية عدة مثل إيتمار بن غفير، فلا عجب أن تسود الفوضى. فالجريمة في ارتفاع، والثقة في تراجع، والجهاز الشرطي يسيس ويطهر من كل من يجرؤ على تحدي السلطة أو التصرف بنزاهة، والنتيجة أن البلاد بأكملها باتت أقل أمناً.
في الوقت نفسه، يشن مستوطنون متطرفون أعمال شغب في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية)، ويهاجمون الجيش والشرطة في اعتداء صارخ على القانون والنظام. ومع ذلك، تمنع أجهزة الأمن من التدخل. والمفارقة أن هذه الحكومة، على رغم استمرار الحرب ووجود نحو 50 رهينة في غزة، تمضي قدماً في انقلابها القضائي.
إنها تسعى إلى تقويض ركائز الديمقراطية الإسرائيلية نفسها: القضاء والشرطة والصحافة الحرة، وتهدم بذلك كل ضمانة وحد ورادع يقيد سلطتها.
إنها حكومة من المجرمين والمجانين، وتحالف من المحتالين، والمتعصبين، والجبناء، والمتملقين. لا تخدم البلاد، ولا تخدم الشعب، بل تتغذى عليهم.
هذه الحرب لا تشبه أية حرب عرفناها من قبل، وكذلك الخيانة. إنها خيانة للصهيونية، ولليهودية، ولما تمثله إسرائيل، وللإنجازات التي تحققت على مدى 77 عاماً. واجه الإسرائيليون أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها بشجاعة وصمود وتصميم استثنائي، كنت أتمنى أن أضيف كلمة "الوحدة"، لكن بينما ترفع حكومتنا شعار الوحدة علناً، فإنها - ولعارها - تعمل بلا كلل على سياسة "فرق تسد".
لقد طالب نحو مليون إسرائيلي بقيادة حقيقية، وناشدوا حكومتهم أن تضع مصلحة البلاد والشعب أولاً. فيما الرهائن يقبعون في زنزانات "حماس"، والجنود ما زالوا يستدعون إلى القتال والموت، والعائلات تعيش حالة توتر، والإسرائيليون يعانون صدمة جماعية ستستمر لأجيال.
ومع ذلك، تواصل هذه الحكومة لعب السياسة، تتقوقع، وتناور، وتتشبث بالسلطة بيأس.
غاري كوهين مخرج إسرائيلي مقيم في تل أبيب
© The Independent