ملخص
خطة نتنياهو لإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل تدريجاً، تبدأ بمدينة غزة عبر تهجير الفلسطينيين، البالغ عددهم نحو مليون نسمة إلى الجنوب، ثم تطويق المدينة وتنفيذ عمليات توغل في التجمعات السكنية. ويلي ذلك احتلال مخيمات اللاجئين وسط القطاع، حيث دمرت إسرائيل أجزاءً واسعة منها، إذ إن الاحتلال الكامل، بحسب عقلية نتنياهو وزمرته من اليمين المتطرف، يهدف إلى التمركز الدائم في القطاع، واقتلاع حكم "حماس" وبنيتها الأمنية والإدارية والعسكرية عبر زرع سلطة بديلة واحتلال مباشر.
وسط ضغط داخلي إسرائيلي متعاظم بشكل غير مسبوق ومع خروج أكثر من مليون متظاهر إسرائيلي إلى الشوارع مطالبين بوقف الحرب على غزة واستعادة الأسرى، يصر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على خطته في احتلال القطاع وفرض المعادلة العسكرية والسياسية القائمة على استمرار السيطرة الأمنية والتمسك بأجندة اليمين المتطرف والاستعداد لمرحلة لم يعهدها الإسرائيليون ولا الفلسطينيون من قبل، بخاصة أن الشروط التعجيزية التي تضعها حكومة نتنياهو، من نزع سلاح غزة وفرض السيطرة الأمنية الدائمة ورفض أي حكم فلسطيني، تعد بالنسبة لكثر من كلا الجانبين وصفة لإجهاض أي فرصة لمفاوضات مستقبلية.
ووفقاً لاستطلاع رأي حديث أجرته هيئة البث الإسرائيلية فإن 60 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن "نتنياهو لا يدير الحرب بشكل جيد"، وأن 54 في المئة يؤيدون إنهاء الحرب تماماً وانسحاب الجيش من غزة، في المقابل يؤيد 28 في المئة من الإسرائيليين -وفقاً للاستطلاع- توسيع القتال واحتلال مدينة غزة.
حجر عثرة
تاريخياً، شكلت غزة بالنسبة لإسرائيل منذ نشأتها عام 1948 معضلة كبيرة جداً، وعلى رغم قدرتها على الاستمرار في احتلال هذه البقعة الضيقة من المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، التي لا تزيد مساحتها على 360 كيلومتراً مربعاً، إلا أنها عُدت حجر عثرة أمام التوصل لأي اتفاق تسوية، لدرجة أن الرئيس الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين صرح علناً في سبتمبر (أيلول) 1992 بأمنيته أن يستيقظ ذات يوم ويجد أن "غزة غرقت في البحر"، فيما وصف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عشية احتلاله القطاع عام 1967، بأنه المكان "الذي سيجر إسرائيل إلى الموت".
وبما أن مستقبل القطاع كان غامضاً وغير واضح في سبعينيات القرن الماضي وفشلت كل الخطط الحكومية آنذاك التي كانت تحاول إيجاد آلية مناسبة كفيلة بإخلاء القطاع من سكانه لمنطقة العريش المصرية وغيرها من مدن العالم، توجهت إسرائيل نحو البناء الاستيطاني في القطاع واقتطعت مساحات شاسعة من غزة وسلمتها ليهود متطرفين لإقامة المستوطنات فيها، حتى وصل عدد المستوطنات إلى نحو 20 مستوطنة، وحصرت الفلسطينيين في مناطق ضيقة وهو ما فاقم المشكلة الأمنية وزاد من حدة الاحتكاك والمواجهات.
وقاد أريئيل شارون الذي كان مستشاراً أمنياً لإسحاق رابين حينها، واحدةً من أشرس الحملات الأمنية التي استهدفت القطاع، الذي ظل تحت الإدارة العسكرية الإسرائيلية حتى عام 1994، عندما بدأ النقل التدريجي للسلطة الحكومية إلى الفلسطينيين، وفقدت إسرائيل حينها ضمن الاتفاق، سيطرتها عن نحو 80 في المئة من قطاع غزة، فيما اقتصر وجود قواتها على المستوطنات اليهودية التي كانت تسيطر آنذاك على نحو 20 في المئة من مساحة القطاع.
وعلى رغم أن اتفاق غزة-أريحا 1994 أو ما يعرف باتفاق القاهرة، كان مؤلماً لكثير من الإسرائيليين، إلا أن القادة السياسيين عدوه آنذاك الخيار الاستراتيجي الأمثل للتخلص من صداع غزة، لكن اشتعال الانتفاضة الثانية عام 2000 التي كانت أسرع وأكثر شراسة من الانتفاضة الأولى عام 1987 أعادت الإسرائيليين لحسابات جديدة تخص القطاع.
فالمعضلة التي واجت رابين في أوائل التسعينيات في التعامل مع الغزيين والعمليات الفلسطينية المنطلقة منها بكثرة، هي ذاتها التي واجهت شارون رئيس الوزراء بين عام 2001 و2005، بخاصة أن الفلسطينيين في قطاع غزة نفذوا خلال الانتفاضة الثانية التي استمرت من 8 سبتمبر (أيلول) عام 2000 وحتى 8 فبراير (شباط) عام 2005 نحو 14790 هجوماً على أهداف إسرائيلية، أسفرت عن مقتل 199 إسرائيلياً، معظمهم بحسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية ممن كانوا يعيشون في مستوطنات غلاف غزة، تحت حماية الجيش. وقالت الأرقام الإسرائيلية حينها، أن 54 منهم قتلوا على يد فلسطينيين خلال تنقلهم على الطرق والمعابر المؤدية من وإلى المستوطنات عند حدود غزة.
كلف باهظة
بعيداً من الخسائر البشرية، تكبد الجيش الإسرائيلي كلف اقتصادية وعسكرية باهظة في سبيل حماية المستوطنين في غزة الذين كان عددهم عام 2005 لا يتجاوز تسعة آلاف مستوطن، فخلال أحداث الانتفاضة عام 2000 اضطر الجيش الإسرائيلي لإخلاء نحو 400 مستوطن من مستوطنة "نتساريم" بطائرات مروحية، وذلك بعد أن قطع الفلسطينيون الطريق المؤدية إليها. واعتبر عدد من قادة المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية حينها أن تأمين المستوطنات في غلاف غزة كابوس بالنسبة لقوات الجيش، لدرجة أن دوف ويسجلاس الذي كان يشغل رئيس مكتب شارون بين عام 2002 و2005 شبه حماية المستوطنين من وإلى المستوطنات بالعملية العسكرية، في حين وصف إيهود أولمرت الذي عمل كنائب لرئيس الوزراء في الفترة ذاتها، أن حماية 10 آلاف مستوطن في مستوطنات غلاف غزة من قبل 30 ألف جندي بـ"الغباء" مشككاً في جدوى ضخ إسرائيل لكل تلك الموارد العسكرية والأمنية لحماية المستوطنات هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد لمح أولمرت عام 2003 للمرة الأولى بأن إسرائيل تتهيأ لانسحاب وشيك من مناطق كبيرة من قطاع غزة، بخاصة أن الخيار العسكري لشارون، لوقف الانتفاضة باء بالفشل، بعد أن قامت حركة "حماس" مطلع عام 2003 بحفر أنفاق وبناء شبكة عميقة تحت الأرض، شكلت تهديداً خطيراً للجيش الإسرائيلي، الذي لم يتمكن من تدميرها، وفي ظل تلك المعطيات بدا الخيار الأمثل أمام شارون هو الانسحاب الكامل من غزة، وعلى رغم معارضة أعضاء بارزين من حزب "الليكود" ووزراء في الحكومة، وافق مجلس الوزراء في يونيو (حزيران) 2004 على خطة "فك الارتباط" أحادية الجانب، وقبلها البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في أكتوبر (تشرين الأول) من السنة نفسها، وانسحبت إسرائيل بالفعل من 21 مستوطنة في قطاع غزة، إلى جانب أربع مستوطنات من الضفة الغربية، والتي تم في إطارها انسحاب ما يقرب من 11 ألف مستوطن وجندي.
إعادة انتشار
وفق مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، حققت "خطة الانفصال" لإسرائيل، مكاسب آنية جعلتها تخلي مسؤوليتها المباشرة عن قرابة مليوني إنسان وتتخلص من أزمة ديموغرافية آخذة في التفاقم إضافة إلى إكساب حربها المتكررة على القطاع شرعية سياسية أمام العالم من خلال وضع حد فاصل أو ما يشبه الحدود بينها وبين غزة.
لكن من وجهة نظر اليمين الاستيطاني، فقد خلقت إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة والذي عرف بخطة الانفصال شرخاً عميقاً في إسرائيل، خصوصاً بعد أن انفجر خلاف حاد بين شارون ونتنياهو، مع الشروع في المرحلة الأولى من الخطة، حيث أشار نتنياهو بعد استقالته من رئاسة وزارة المالية آنذاك، إلى أن شارون يعطي للفلسطينيين من دون مقابل وأن غزة ستتحول بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى "قاعدة لحماس وحزب الله".
ويرى محللون أن العقلية الإسرائيلية التي كانت تحكم إسرائيل عام 2005 اعتقدت أن الانسحاب من غزة خطوة استراتيجية، على اعتبار ضمان محاصرة غزة من البحر من جهة ومن الحدود المصرية، التي تربطها مع إسرائيل معاهدات سلام، من جهة أخرى، مع وجود بعض العناصر الداخلية في غزة تابعة للسلطة الفلسطينية كانت على استعداد للتعاون الأمني والاستخباراتي مع إسرائيل، لكن وصول "حماس" إلى السلطة في غزة بعد انتخابات تشريعية فازت فيها فوزاً ساحقاً عام 2006، غير كل الحسابات وأسفر عن إبعاد عناصر السلطة كلياً عن إدارة القطاع، وسيطرت الحركة على غزة بشكل كامل، وهو ما دفع إسرائيل لفرض حصار شامل وكامل على مليوني فلسطيني داخل القطاع.
قبضة نتنياهو
اليوم وبعد 20 عاماً من الانسحاب، يعلن نتنياهو أن حكومته "لن تكتفي بتحييد حماس" وحسب بل تنوي "فرض سيطرة كاملة على قطاع غزة"، ما يعكس في جوهره تغييراً استراتيجياً صادماً، ومنذ عودة نتنياهو لسدة الحكم بقوة أكبر عام 2009 لم يعد يبحث كمن سبقوه عن استراتيجية تسوية سياسية، فالحل المنشود منذ عقود لدولة فلسطينية مستقلة وسط سيطرة اليمين وتفشي أيديولوجيته الرافضة كلياً لمبدأ حل الدولتين أصبح خياراً غير ممكن، بل وأصبحت العقلية الأيديولوجية المتطرفة ترى الفلسطينيين "عدواً وجودياً" لا قيمة له. وصدق رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير الأسبوع الماضي على "الفكرة المركزية" لخطة إعادة احتلال قطاع غزة بعد أن أقر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينت) خطة طرحها نتنياهو.
وخطة نتنياهو لإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل تدريجاً، تبدأ بمدينة غزة عبر تهجير الفلسطينيين، البالغ عددهم نحو مليون نسمة إلى الجنوب، ثم تطويق المدينة وتنفيذ عمليات توغل في التجمعات السكنية. ويلي ذلك احتلال مخيمات اللاجئين وسط القطاع، حيث دمرت إسرائيل أجزاءً واسعة منها، إذ إن الاحتلال الكامل، بحسب عقلية نتنياهو وزمرته من اليمين المتطرف، يهدف إلى التمركز الدائم في القطاع، واقتلاع حكم "حماس" وبنيتها الأمنية والإدارية والعسكرية عبر زرع سلطة بديلة واحتلال مباشر وفرض إدارة إسرائيلية عسكرية أو مدنية على مليوني فلسطيني، تماماً كما كانت الحال قبل انسحاب شارون من غزة عام 2005، لكن هذه المرة ضمن حرب متواصلة منذ 7 أكتوبر 2023، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، أسفرت حتى اليوم عن مقتل أكثر من 62 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 156 ألفاً، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة متعمدة أودت بحياة 263 شخصاً بينهم 112 طفلاً.