Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خامنئي يعيد ترتيب البيت الإيراني تمهيدا لخليفته

حرب الأيام الـ12 مع إسرائيل وضعت النظام في طهران أمام تحد حقيقي غير مسبوق قد ينتهي بإطاحته

الإجراءات التي اتخذتها منظومة السلطة والقيادة العليا للنظام ممثلة بالمرشد قد تكون إعادة إنتاج للنظام أو ولادة جديدة له (أ ف ب)

ملخص

اللافت أو الذي يستحق التوقف عنده في جهود النظام الإيراني لاستعادة توازنه أنها لم تقتصر على محاولة استنقاذ قوة الردع التي تشكل الدرع الحامية له ولاستمراريته، بل في الإجراءات التي تلت عملية الرد العسكري في إعادة ترتيب المشهد الداخلي وتوزيع موازين القوى ومهام ودور مراكز القرار.

في قراءة سريعة لأهم التحديات والأحداث والاضطرابات التي واجهها النظام الإيراني على مدى العقود الأربعة الماضية من عمره، يمكن القول إن معظمها لم يصل إلى مستوى التحدي الوجودي، باستثناء ما واجهه من أحداث بداية الثورة ومرحلة التأسيس للنظام الإسلامي خلال الصراع بينه وبين القوى العلمانية واليسارية، وتحديداً جماعة مجاهدي خلق، إلى جانب الحركات الانفصالية، وبخاصة الكردية، التي وضعت إيران في مواجهة حروب أهلية وداخلية.

أما التحدي الأخطر فيتمثل في الحراك الشعبي الذي اندلع بعد مقتل الفتاة مهسا أميني، وتحول إلى حال من الانقسام العمودي في الثقافة والاجتماع والدين، بين الجماعة أو الكتلة المؤدية للنظام الإسلامي والديني، والجماعة الكبرى المطالبة بالحريات الشخصية والاجتماعية والثقافية. في حين أن الصراعات والأحداث التي واجهها النظام سواء مع حركة تحرير إيران أو الحركة الإصلاحية والتعددية الحزبية والاعتراضات المطلبية لم تكن تشكل تهديداً وجودياً، إذ كان يتمتع بالقدر الكبير من القدرة على تفكيكها وإفراغها من أدواتها، إما باستخدام العنف والقسوة أو من خلال التشتيت والمحاصرة.

ما كشفته الحرب التي شنتها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة، أو العكس يصح أيضاً، على إيران في يونيو (حزيران) الماضي، وما أدت إليه من توجيه ضربة سريعة لأهم مفاصل القيادة والمؤسسات العسكرية والنووية والاقتصادية، جعلت النظام يترنح ويجد نفسه أمام تحد حقيقي غير مسبوق قد ينتهي بإطاحته والقضاء عليه، قبل أن يستطيع استعادة توازنه وينتقل إلى استيعاب ما يحدث ويبدأ عملية الرد على الاعتداء.

إلا أن اللافت أو الذي يستحق التوقف عنده في جهود النظام لاستعادة توازنه، أنها لم تقتصر على محاولة استنقاذ قوة الردع التي تشكل الدرع الحامية له ولاستمراريته، بل في الإجراءات التي تلت عملية الرد العسكري في إعادة ترتيب المشهد الداخلي وتوزيع موازين القوى ومهام ودور مراكز القرار.

فالإجراءات التي اتخذتها منظومة السلطة والقيادة العليا للنظام ممثلة بالمرشد الأعلى، قد تكون بمثابة إعادة إنتاج للنظام الإيراني أو ولادة جديدة له، تقوم على مفاهيم لم تكن في حسابات قيادات هذا النظام في العقود السابقة، بخاصة ما يتعلق أو يرتبط بمفهوم الدولة ودورها ومهامها ومجالات سلطتها، وأيضاً في مفهوم المواطن ودور المواطن في بناء قدرات وقوة إيران وحماية سيادتها باعتبارها وطناً لجميع أبنائه في وجه الأخطار والتهديدات الخارجية ومحاولات النيل من وحدة الأراضي والسيادة.

هذه الولادة أو إعادة الإنتاج للدولة والنظام جاءت أولاً نتيجة تنامي الهواجس بين الجهات المعنية باستمرارية وبقاء النظام والدولة، وتحولها إلى مخاوف حقيقية أمام ما تراه من استنفار أميركي وأوروبي وإقليمي يحاول التوظيف في الضربة التي تعرض لها النظام والدفع باتجاه فرض مزيد من التنازلات القاسية عليه من النوع الذي يمس بماهيته وجوهره العقائدي والأيديولوجي، في حال لم تذهب هذه الجهات لتفعيل عملية التخلص منه والقضاء عليه نهائياً وإحلال نظام وسلطة بديلة عنه تكون أكثر تجاوباً مع الشروط التي يريدونها.

وما أسهم في التمهيد لهذه الولادة الثانية ذلك الفشل الذي تعرضت له كل الجهود التي بذلتها الجماعات الراديكالية خلال ثلاثة عقود على المستويين التنفيذي والنظري، لتكريس فكرة إسلامية الحكم والسلطة على حساب المبادئ المؤسسة للنظام منذ البداية التي قامت على المزج بين ثنائية الجمهورية والإسلامية، وبين الديمقراطية التي تتولى مهمة تهذيب طموحات الثيوقراطية التي يمثلها مبدأ ولاية الفقيه.

التغييرات في المواقع القيادية المتقدمة داخل هرمية القرار الاستراتيجي للنظام والدولة الإيرانيين، لا يمكن اعتبارها حصراً كرد فعل على الحرب الإسرائيلية وترميم الخسائر والفجوات التي حصلت جراء الخسائر التي سقطت في صفوف القيادات العسكرية لقوات حرس الثورة، بل شكلت فرصة للعودة إلى إعادة إحياء مبدأ التوازن بين مؤسسات القرار السياسي والعسكري والأمني، التي لا بد من أن تظهر نتائجها وتنضج ثمارها في المستقبل الذي قد يكون قريباً جداً.

الضربة الإسرائيلية وحجم الخسائر التي ألحقتها بالمنظومة القيادية في السلطة والصدوع التي تركتها على جسد السيادة الوطنية والقومية، وضعت القيادة أمام إلزامية إعادة النظر في المفاهيم العسكرية والأمنية التي عملت على تكريسها في الأعوام الماضية، والتي تضخم فيها نفوذ مؤسسة حرس الثورة بحيث تعدت حدود دورها الذي حدده الدستور بحماية الثورة والنظام من أعداء الداخل، وأن يكون قوة رديفة للمؤسسة العسكرية الرسمية (الجيش) في الدفاع عن الحدود والاعتداءات الخارجية.

وتغول حرس الثورة وصل إلى مستويات متقدمة في كل المجالات الثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية وغيرها من المجالات التي ترتبط بالحياة اليومية للمواطن الإيراني، وصولاً إلى الدبلوماسية التي تحولت إلى إدارة لتنفيذ ما يريده في ما يتعلق بالطموحات الإقليمية والسياسات الدولية من دون مراعاة حساسية هذا الإدارة وضرورة أن تؤدي دوراً متوازناً يحفظ مصالح إيران الدولية ويبعد عنها أخطار العزلة الدولية.

والانغماس الذي مارسته مؤسسة الحرس في تفاصيل الدولة ومؤسساتها أصابها بنوع من الترهل في التعامل مع التحديات الجدية التي تتعرض لها إيران والنظام، وأصابها الغرور جراء تضخيم قدراتها وقدرتها على مواجهة جميع الأخطار من أي جهة جاءت وإلحاق الهزيمة الماحقة بها.

تعيين جنرال من الجيش على رأس القيادة المشتركة للقوات العسكرية (التي تضم الجيش والحرس التعبئة) هو الإجراء الأول الذي يحصل منذ عقود، بعدما استأثرت بها شخصيات من الحرس كان آخرها الفريق محمد باقري الذي قتل في الغارات الإسرائيلية الأولى على طهران فجر الـ13 من يونيو (حزيران) الماضي، وهذا أيضاً إلى جانب اختيار رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان للمرة الأولى منذ الثورة وزيراً للدفاع من هذه المؤسسة "الجيش" مما يدفع إلى الاعتقاد بأن النظام قد وصل إلى قناعة بعدم صوابية الإجراءات التي كان يعتمدها في التعامل مع هذه المؤسسة، التي كانت مبنية على تراجع الثقة بها والتشكيك بولائها للسلطة الدينية وولاية الفقيه، الذي كانت تغذيه سياسات قيادات في حرس الثورة بحيث أخرجتها من دائرة القرار أو المشاركة فيه.

من هنا، يكمن فهم قرار عودة علي لاريجاني إلى موقع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يستكمل الصورة الجديدة لإعادة إنتاج النظام، الذي يعبر عن تغليب العقلانية والدبلوماسية وتراكم التجربة، والتخلي عن مبدأ عسكرة مواقع القرار الذي عمل عليها الحرس لإحكام قبضته على السلطة بكل مفاصلها. وعلى رغم أن لاريجاني سبق أن كان عضواً في الحرس خلال الحرب العراقية، فإنه يوصف بالمعتدل بين المحافظين، لذا يشكل الجزء الآخر من السلطة التنفيذية مع بزشكيان المحافظ بين الإصلاحيين، إذ يلتقيان في نقطة الاعتدال من أجل الدولة والنظام وإيران المنفتحة على الداخل والخارج في الوقت نفسه.

لعل إعادة تعريف دور ومسؤولية المؤسسات التي تعنى بالأمن القومي، العسكرية والأمنية والسياسية، تفترض إعادة تعريف أيضاً لدور وموقع ومسؤولية الإدارة الدبلوماسية، بخاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي يقف فيها على عتبة التردد بين العودة إلى طاولة التفاوض أو الانسحاب منها، وأن كلا الخيارين لهما أثمانهما التي يجب دفعها، لذلك فإن ما كشفه وزير الخارجية السابق علي أكبر صالحي عن تشكيل مجلس خاص لمتابعة قرارات السياسة الخارجية، يعيد إلى هذه الإدارة موقعها ويخرجها من التجاذب بين ضرورات الدبلوماسية وخيارات الميدان، ويمنحها حرية الحركة واتخاذ القرار السريع بالتنسيق مع المرشد مباشرة بما يتوافق مع المصالح الاستراتيجية لإيران من دون المرور بالآليات المعطلة والمعوقة التي كانت تفرضها المؤسسة العسكرية للحرس، لذا فإن قبضة مؤسسة الحرس على السياسة الخارجية والدبلوماسية من المفترض أن تتراجع، هذه المرة تحت إشراف المرشد الأعلى ودعمه، المرشد الذي يبدو أنه وصل إلى قناعة بضرورة العودة إلى تفعيل مؤسسات الدولة التي تضمن بقاء واستمرار النظام.

الخطاب الأخير للمرشد الأعلى في أربعينية ضحايا الحرب الإسرائيلية التي وصفها بـ"المفروضة" على إيران من قبل إسرائيل وأميركا، كان واضحاً التغيير الماهوي والجوهري في خطابه الذي تخلى عن مفردة السلطة الدينية فيه، لمصلحة تعزيز مفهوم الدولة والإيرانية التي لا تتعارض مع الدين وتدين الشعب الإيراني، بل يتكاملان. وهذا التحول يأتي بعد ما لمسه المرشد من التفاف وتضامن شعبي من جميع شرائح المجتمع الإيراني وتنوعاتها في مواجهة العدوان، لذا فإن هذا الخطاب يشكل مؤشراً إلى أهمية العقلانية والواقعية مع مطالب وتوجهات هذا المجتمع الذي كان الضامن لصمود إيران وبقاء النظام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أن يؤكد المرشد محورية الشعب كأحد أهم مؤلفات ومكونات قوة إيران ونظامها وجمهوريتها يعني الابتعاد من الاتجاهات السابقة التي كانت تجرد الشعب من حقه في المشاركة، وترى أن دوره محصور في ترجمة أو كشف الإرادة الإلهية - القائد يكتشف ولا يعين - في تكوين السلطة التي من المفترض أن تتحول إلى حكومة دينية، كما نظر لها الزعيم الروحي للتيار الراديكالي المقرب من المرشد الشيخ محمد تقي مصباح يزدي، وعمل على تطبيقه الشيخ أحمد جنتي من خلال الدور الذي أداه في مجلس صيانة الدستور باستبعاد كل المرشحين الذين يختلفون مع هذه الرؤية.

قد تكون الرهانات على تغييرات جذرية في طبيعة السلطة في إيران مبكرة، إلا أن المؤشرات إلى وجودها تبدو واضحة، يعبر عنها منسوب العقلانية الذي يظهر في أداء الحكومة ومؤسسات النظام، والرغبة الكبيرة في ترميم العلاقات مع المجتمع الدولي وتأكيد مبدأ الحوار والتفاوض لحل جميع الأزمات، بخاصة مع الولايات المتحدة.

إلا أن السؤال الأبرز الذي تفرضه هذه التحولات والمؤشرات والتغييرات يرتبط بالموضوع الأكثر حساسية في المشهد السياسي الإيراني، ولدى جميع الأطراف السياسية والاجتماعية والعقائدية والأيديولوجية. والسؤال هو، هل يمكن اعتبار كل ما يحدث هو بمثابة جهود يبذلها المرشد الأعلى لترتيب المشهد السياسي ومساعدة الدولة لتفكيك حقول الألغام التي زرعتها كثير من القوى الداخلية المتطرفة والراديكالية على طريق الدولة وإيران في علاقاتها الداخلية والخارجية، ومن ثم التمهيد العملي لمرحلة ما بعد وجوده في هذا المشهد، أو بتعبير آخر لمرحلة لا يكون فيها في واجهة هذا المشهد والقيادة، بحيث تساعد هذه الإجراءات على إعطاء المؤسسات دورها الفاعل في آلية القرار وبالتنسيق في ما بينها ولا يكون محصوراً ومركزاً في يد خليفته أو المرشد الجديد الثالث للنظام والثورة؟ أسئلة ترجحها العلاقة المتوترة والتصعيدية بين مؤسسة القرار في النظام مع الجماعات الراديكالية التي لم تعد تراعي موقعية المرشد على رأس النظام في الدفاع عن مصالحها وسلطتها ونياتها في القبض على النظام والسلطة والدولة، التي عبر عنها بوضوح كلام سعيد جليلي الذي وصف الدولة والشعب الإيراني بأنهم مثل "عبدة العجل" من بني إسرائيل الذين سرعان ما انقلبوا على موسى، من دون أن يراعي أن قرار تعيين لاريجاني في المجلس الأعلى للأمن القومي لا يمكن أن يصدر عن رئيس الجمهورية منفرداً، بل لا بد من أن يكون بإرادة وقبول المرشد باعتبار أن صاحب هذا الموقع يمثله مباشرة في دائرة القرار.

المزيد من تحلیل