ملخص
مضى ترمب في مساعيه لطي صفحة الخلاف وعقد قمة ثنائية مع الرئيس الروسي، رغم الفوارق الأيديولوجية والسياسية والكراهية التي يكنها أقوى حلفاء واشنطن الغربيين تجاه بوتين باعتباره المسؤول عن نشوب الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
على مدى الأشهر السبعة الماضية تساءل كثر عن سر الرغبة الجارفة التي يبديها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في لقاء فلاديمير بوتين، فعلى رغم عزوف الأخير وغلقه كل أبواب الحوار مع الولايات المتحدة، بدا ترمب متحفزاً لإحياء علاقة كثيراً ما انتقد بسببها.
وعلى رغم الفوارق الأيديولوجية والسياسية والكراهية التي يكنها أقوى حلفاء واشنطن الغربيين تجاه بوتين باعتباره المسؤول عن نشوب الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فإن ترمب مضى في مساعيه لطي صفحة الخلاف، وعقد قمة ثنائية مع الرئيس الروسي.
وهكذا أصبح ستيف ويتكوف، صديق ترمب ومبعوثه للمهام الصعبة، زائراً دائماً للكرملين، حيث التقى بوتين خمس مرات، آخرها الأربعاء الماضي، وهو اللقاء الذي أثمر أخيراً اتفاقاً لعقد لقاء الزعيمين الجمعة، وتحدد موقع إقامته في ألاسكا بحسب الرئيس الأميركي.
حلم ترمب المؤجل
القمة المرتقبة لن تكون فحسب خطوة نحو إنهاء الحرب الأوكرانية، فالرئيس الأميركي يسعى أيضاً إلى تحقيق الهدف الذي وضعه منذ نحو 9 سنوات، وهو إعادة الدفء إلى العلاقات الروسية – الأميركية، وقد عبر عن ذلك في تجمع انتخابي عام 2016 قائلاً، "ألن يكون عظيماً لو كنا على وفاق مع روسيا".
لكن في 2017 استقر ترمب في واشنطن كضيف جديد وقليل الخبرة بأسرارها، وشكل إدارته الأولى من شخصيات سرعان ما اختلف معها، وكان ذلك سبباً في إعاقة خططه بالتقارب مع روسيا، إذ كان الصقور الجمهوريين أكثر تشككاً منه في شأن نيات سيد الكرملين.
أزمة التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات لمنع فوز هيلاري كلينتون كانت أيضاً سبباً في عرقلة التقارب، وفق المفكر الأميركي جون ميرشايمر، فالأزمة التي تحولت إلى قضية رأي عام، سلبت الرئيس الجمهوري فرصة التحرك بحرية تجاه موسكو، وبدا أن ترمب لم يتجاوز حنقه تجاه باراك أوباما، فحمله هذا العام مسؤولية الترويج لهذه "الأكذوبة"، واتهمه بـ"الخيانة" لأنه قاد محاولة للربط بينه وبين روسيا من دون وجه حق.
بوتين المحبوب بوتين المكروه
الرئيس الروسي، ابن الـ"كي جي بي" الذي يقر له الخصوم بذكائه، لم يكن دائماً مثار الخصومة في الغرب، فبعد عامين من انتخابه رسمياً للرئاسة عام 2000، نشأ "مجلس 'الناتو' وروسيا" وبدا بوتين مرتاحاً للغاية بين جيرانه الأوروبيين حتى إنه مازحهم في أحد الاجتماعات قائلاً إنه يقترح "تغيير اسم مقر 'الناتو' إلى بيت السوفيات".
استذكر الأمين السابق لحلف "الناتو" جورج روبرتسون تلك اللحظة قائلاً إن النكتة بثت الذعر في الوفد البولندي، لكنها كانت دلالة على الإشارات الإيجابية التي حرص الرئيس الروسي دائماً على إرسالها، ومنها قوله لأمين الحلف عام 2000 إنه يريد تحسين العلاقات بين موسكو و"الناتو" خطوة بخطوة.
بوتين أيضاً أقام علاقات ودية مع نظرائه الأميركيين، وكان أول الرؤساء الذين هاتفوا جورج دبليو بوش في أعقاب هجوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وما زال مشهد رقصه مع بوش محفوراً في الذاكرة، وأفضل مثال لإبراز التحول في العلاقات الأميركية – الروسية من الحفاوة إلى الخصومة.
يعبر بوش نفسه عن تلك المرحلة قائلاً، "لقد وجدت بوتين صريحاً وجديراً بالثقة. لقد استشعرت جوهره. ولم أكن لأدعوه إلى مزرعتي لو لم أثق به"، وغيره كثير من قادة دول "الناتو" الذين استبشروا بالزعيم الروسي ذي النبرة الهادئة قبل أن ينقلبوا عليه.
الرؤساء الديمقراطيون كانوا أيضاً على وفاق مع بوتين، كان مشهد أوباما وهو يتبادل الضحكات مع بوتين العلامة الفارقة في قمة مجموعة الـ20 التي احتضنتها المكسيك في 2012. وقبله بيل كلينتون صرح بأن الولايات المتحدة قادرة على التعامل تجارياً مع بوتين.
لكن عندما ترشح ترمب إلى الرئاسة عام 2016، كان الحرس الجمهوري القديم متشدداً تجاه بوتين، بل إن الجمهوريين كانوا ينتقدون بشدة إدارة أوباما لرفضها تزويد الحكومة الأوكرانية بالأسلحة الفتاكة رداً على الهجمات التي دعمتها موسكو على شرق أوكرانيا.
وآخر مرشحين جمهوريين للرئاسة، وهما جون ماكين وميت رومني، وضعا روسيا على رأس قائمة خصوم الولايات المتحدة، بل وشتما بوتين علناً، لكن ترمب خالف التقاليد، ورحب بفتح صفحة جديدة مع الرئيس الروسي، وكان يتخيل عالماً تكون في أميركا وروسيا على وفاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تغير المزاج الغربي
وصل ترمب إلى الحكم بعد نحو عقد من تغير المزاج الغربي تجاه بوتين، وتغير خطاب بوتين نفسه تجاه الغرب، ففي 2007 تحدث الرئيس الروسي أمام "مؤتمر ميونيخ للأمن" عن أفكاره بوضوح، وقال، "دولة واحدة، وهي الولايات المتحدة، تجاوزت حدودها الوطنية، بكل الطرق".
كان بوتين وقتها مستاءً من توسع "الناتو"، وقال في سياق انتقاده الخطط الأميركية لإنشاء نظام دفاع صاروخي في أوروبا الوسطى، "لقد وزعت أحجار جدار برلين منذ فترة طويلة كتذكارات، والآن يحاولون أن يفرضوا علينا خطوط تقسيم وجدران جديدة".
ولم يمر وقت طويل حتى أظهر بوتين استعداده لاستخدام القوة العسكرية لزعزعة الأنظمة الموالية للغرب في دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، وتجلت جرأته عندما ضم شبه جزيرة القرم في 2014، مما مهد إلى الحرب الشاملة ضد أوكرانيا في 2022، التي يرى بوتين أنها ضرورية للدفاع عن روسيا من أطماع "الناتو".
ومع إلقاء الرئيس بايدن بثقل الولايات المتحدة خلف أوكرانيا، بالسلاح والكلمات، تدهورت العلاقات الأميركية – الروسية إلى أدنى مستوياتها، وانقطع الخط الساخن للطوارئ بين الكرملين والبيت الأبيض الذي يعود تاريخ لأزمة الصواريخ الكوبية 1962، في حين لوحت روسيا بإمكان استخدام الأسلحة النووية.
الحذر من "فخاخ بوتين"
فشل ترمب في تحقيق هدفه الطموح بإنهاء الحرب الأوكرانية بغضون 24 ساعة من ولايته الثانية، ومن خلال القمة المرتقبة مع بوتين، يحاول الرئيس الأميركي تحقيق اختراق في المفاوضات واستعادة توازن العلاقات مع روسيا. وفي هذا المسعى، لم يخف ترمب ضيقه من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إذ انتقده علناً، وأوقف مساعدات عسكرية مراراً، متذرعاً برغبته في "دفع الطرفين نحو السلام".
لكن بالنسبة إلى الغرب لم يظهر بوتين حتى الآن استعداداً حقيقياً للتفاوض، على رغم الضغوط والعقوبات والرسائل الأميركية المتكررة. ولم يعلق الروس على إمكان عقد لقاء ثلاثي يضم أيضاً الرئيس الأوكراني، مما يعكس هشاشة خطوط التواصل في شأن أوكرانيا.
وفيما يتحدث ترمب عن "محادثات بناءة" مع بوتين، فإن مسؤولين في البيت الأبيض يلمحون إلى تعقيدات التفاوض، بخاصة حول وقف إطلاق النار، وما إذا كانت روسيا ستقدم تنازلات حقيقية مقابل تخفيف العقوبات.
وتخشى أوكرانيا أن يستغل بوتين حرص ترمب على الظهور بمظهر صانع السلام لإحراج واشنطن، ودفعها نحو فرض شروط مجحفة على كييف، وهو ما حذر منه زيلينسكي صراحة، قائلاً في مقابلة تلفزيونية إن روسيا تبدو الآن أكثر التزاماً بوقف إطلاق النار. الضغط يجدي نفعاً، لكن الأهم ألا يخدعوننا والولايات المتحدة".
وقال المتخصص في مجال السياسة الروسية في جامعة كينغز كوليج بلندن سام غرين إن بوتين "أخرج نفسه من موقف ضعف كبير وحول هذه العملية برمتها إلى وضع يتوافق تماماً مع ما يحتاج إليه تقريباً".
وصرح زيلينسكي أمس السبت أن الدستور الأوكراني لا يسمح لكييف بالتفاوض على التنازل عن أراضي البلاد، في حين أبلغ ترمب المسؤولين الأوروبيين أن الاجتماع مع بوتين سيعقبه قمة ثلاثية تضم بين بوتين وزيلينسكي، لكن الكرملين سارع إلى نفي أي وعد من هذا القبيل.
التقارير تشير إلى أن الكرملين يدرس وقفاً جزئياً للهجمات، تحديداً الصواريخ والطائرات المسيرة، لكن دون التزامات طويلة الأمد. ووثقت الأمم المتحدة مقتل أكثر من 6700 مدني أوكراني في النصف الأول من هذا العام، فيما وصف ترمب القصف الروسي بأنه "مقزز" و"عار".
وعلى رغم كثافة اللقاءات بين المبعوث الأميركي ويتكوف وبوتين، لم تنجح واشنطن حتى الآن في الحصول على تنازلات حقيقية، إذ لا يزال بوتين متمسكاً بشروطه، وعلى رأسها بقاء أوكرانيا خارج "الناتو"، والاعتراف بالسيطرة الروسية على الأراضي المحتلة. ويرى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن "الضغط بدأ يؤتي ثماره"، مشيراً إلى أن روسيا ربما للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، بدأت تعرض "شروطاً ملموسة"، حتى وإن كانت غير مقبولة بالكامل من قبل أوكرانيا أو حلفائها.
ويريد بوتين تعهداً رسمياً بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي أو أي تحالفات عسكرية غربية أخرى، ومنعها من استضافة قوات غربية على أراضيها، أو بناء جيش يهدد روسيا.
وأوضح مدير مركز كارنيغي لروسيا وأوراسيا ألكسندر غابوييف أن بوتين سيدخل القمة المقررة الجمعة في ألاسكا وأمامه سيناريوهات عدة، تشمل التوصل إلى اتفاق مرض مع ترمب ينجح الرئيس الأميركي في فرضه على أوكرانيا، أو اتفاق مُرضٍ مع ترمب يرفضه زيلينسكي، مما يدفع الولايات المتحدة إلى التخلي عن أوكرانيا. أما الخيار الثالث، بحسب غابوييف، فهو أن يواصل الرئيس الروسي الحرب لمدة تراوح ما بين 12 و18 شهراً، على أمل استنزاف القوات الأوكرانية قبل أن تفقد آلة الحرب الروسية زخمها.
بعد إقليمي لقمة ترمب - بوتين
على رغم أن الحرب في أوكرانيا تتصدر أولويات القمة المرتقبة، فإن عودة الحوار رفيع المستوى بين واشنطن وموسكو قد تحمل في طياتها تأثيرات إقليمية، لا سيما في ما يخص إيران، التي تسعى الولايات المتحدة إلى إبقائها في موقف تفاوضي ضعيف قبيل استئناف المحادثات النووية.
ويرى مراقبون أن الانفتاح الأميركي – الروسي يمكن توظيفه في ملفات أخرى شديدة الحساسية في الشرق الأوسط، وفي مقدمها الملف الإيراني، فالولايات المتحدة تدرك أن أي تباين بين موسكو وطهران يمكن أن يشكل ورقة ضغط دبلوماسية فعالة، بخاصة بعد ضعف الدعم الروسي لإيران في حربها مع إسرائيل.
ولفت غرانت روملي وآنا بورشفسكايا الباحثان في "معهد واشنطن" إلى أن المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل، التي دامت 12 يوماً، كشفت عن حدود العلاقات بين طهران وكل من موسكو وبكين، فبينما ترتبط الدول الثلاث بشراكات استراتيجية وتعاون دبلوماسي، إلا أن الأزمة الأخيرة أظهرت أن هذا التحالف ليس متماسكاً كما يصور.
ويرى الباحثان أن هذا الموقف المتحفظ يعد مؤشراً إلى خطوط صدع بدأت تتشكل داخل ما يفترض أنه محور ثلاثي، وهذا يضع أمام الولايات المتحدة فرصة دبلوماسية ثمينة ينبغي استغلالها عبر تعميق الفجوة بين طهران وموسكو من جهة، وبين طهران وبكين من جهة أخرى بهدف إبقاء إيران في وضع استراتيجي هش، لا يمكنها من فرض شروط قوية في أي مفاوضات نووية مقبلة.