ملخص
في الأسبوع الأخير من أكتوبر 1994، التقى مسؤول بريطاني سراً مع أنور هدام، أحد ممثلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في فندق رويال هورس غاردز بلندن. اللقاء استمر أكثر من ساعة وجرى الحديث باللغة العربية، فماذا دار بين المسؤول البريطاني ورجل الجبهة الإسلامية؟
في ربيع 1994، بدأت تتبلور داخل أروقة وزارة الخارجية البريطانية نقاشات حسّاسة حول كيفية التعامل مع الحركات الإسلامية، لا سيما الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، التي كانت في ذلك الحين لاعباً رئيساً في المشهد السياسي بعد فوزها الساحق في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الجزائرية نهاية عام 1991، قبل أن تُلغى العملية الانتخابية وتدخل البلاد في دوامة من العنف والصراع السياسي.
"تشاتام هاوس" تدعو الجبهة الإسلامية
في هذا السياق، وجّهت مؤسسة تشاتام هاوس دعوة إلى ممثل عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ للمشاركة في ندوة عامة، وقد أثارت هذه الدعوة نقاشاً داخلياً بين المسؤولين البريطانيين حول ما إذا كان ينبغي لممثلين من وزارة الخارجية البريطانية حضور هذه الفعالية.
في مذكرة بتاريخ الـ25 من مايو (أيار) 1994، عبّر ر. د. ويلكنسون من قسم التخطيط السياسي عن استيائه من قرار عدم المشاركة، معتبراً أن قسم التخطيط، الذي يضطلع بمهمة الإشراف على الاتصالات غير الرسمية مع الأطراف الخارجية، يحتفظ بعلاقة وثيقة مع "تشاتام هاوس"، ومن ثمّ فإن وجود ممثلين في مثل هذه الفعالية لا ينبغي أن يُعدّ تجاوزاً سياسياً.
رأى ويلكنسون أن مجرد حضور موظفَين صغيرَي الرتبة لن يشكّل اعترافاً رسمياً بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكنه قد يوفر قناة اتصال محدودة ومدروسة قد تكون ذات فائدة، بخاصة في ضوء التوصيات السابقة التي ناقشها المجلس الاستشاري السياسي، التي شددت على أهمية عدم مقاطعة الحركات الإسلامية المتطرفة كقاعدة عامة، وتشجيع التيارات المعتدلة داخلها.
الخارجية البريطانية ترفض حضور الفعالية وتطلب تقريراً
من جهة أخرى، وفي اليوم ذاته، جاء رد من أحد كبار مسؤولي وزارة الخارجية، أكثر تحفظاً وتشدّداً. في مذكرة داخلية سريّة، شدد غرين على ضرورة التمييز بين نوعي الاتصالات: تلك التي تجريها السفارات مع مختلف الأطراف، التي يمكن أن تكون مرنة إلى حد ما، وتلك التي تجري على مستوى وزارة الخارجية، التي تُفهم عادة على أنها تحمل قدراً من الاعتراف الضمني من الحكومة البريطانية. وأوضح أن مثل هذا الحضور، حتى وإن بدا غير رسمي، قد يُستغل من قبل الجبهة كمؤشر إلى الدعم السياسي، بخاصة في نظر المتابعين الخارجيين الذين لا يفرّقون عادة بين مختلف أقسام الوزارة.
وعليه، أصر غرين على أن السياسة البريطانية في تلك المرحلة كانت تقوم على دعم الحكومة الجزائرية الحالية وجهودها في التوصل إلى تسوية سياسية، وأن أي تواصل مباشر مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ من شأنه أن يضعف موقف الحكومة، ويعزز من شرعية المعارضة الإسلامية، وهو أمر لا يصب في مصلحة بريطانيا، لا على المدى القريب ولا البعيد.
نتيجة لذلك، تقرر ألا يحضر أي ممثل من وزارة الخارجية فعالية "تشاتام هاوس"، مع طلب تقرير مفصل من المنظمين حول ما جرى فيها. غير أن المذكرة لم تخل من اعتراف ضمني بالحاجة إلى مراجعة السياسة الحالية، إذ أشار غرين إلى أن التوجه الأميركي نحو فتح حوار مع الجبهة يستدعي من بريطانيا إعادة تقييم موقفها، وجرت الموافقة على إعداد ورقة موجزة قد تشمل كذلك الموقف من جماعات المعارضة الإسلامية في المنطقة ككل.
وهكذا، تعكس هذه المراسلات انقساماً دقيقاً داخل وزارة الخارجية البريطانية بين من يرى ضرورة فتح قنوات تواصل محسوبة مع بعض الأطراف الإسلامية، ومن يتمسّك بالحذر والتشبث بالمواقف التقليدية الداعمة للأنظمة القائمة. وقد مثّلت هذه النقاشات في جوهرها انعكاساً للتوتر القائم بين المبادئ الديمقراطية التي يرفعها الغرب، والمصالح الجيوسياسية التي كانت تحكم سياساته في المنطقة، في لحظة فارقة من التاريخ السياسي للجزائر والمنطقة الأوسع.
لقاء سري مع أنور هدام
في الأسبوع الأخير من أكتوبر (تشرين الأول) 1994، التقى مارتن نيناد من قسم الشرق الأوسط في إدارة البحث والتحليل بوزارة الخارجية البريطانية مع أنور هدام، أحد ممثلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في فندق رويال هورس غاردز في لندن.
كان اللقاء الذي استمر أكثر من ساعة، بحضور نيناد وهدام، وجرى معظمه باللغة العربية، وأكد نيناد في تقريره أن هدام وافق على أن يجري الإبقاء على اللقاء سرياً وعدم الإعلان عنه علناً.
كان هدام رجلاً في أواخر الثلاثينيات من عمره، يتسم بمظهر جاد وأسلوب هادئ، وهو عضو في الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد أن فرّ من الجزائر إثر الانقلاب العسكري في يناير (كانون الثاني) 1992. هدام، الذي كان قد عمل سابقاً أستاذاً في الفيزياء النووية قبل دخوله المنفى، تحدث في اللقاء عن أصول وتاريخ الحركة الإسلامية في الجزائر، موضحاً أن الجبهة تنحدر من جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ عبدالحميد بن باديس في ثلاثينيات القرن الماضي.
وشرح هدام كيف أن الصحوة الإسلامية، التي تشهدها الجزائر كما في باقي العالم الإسلامي، تمثل عودة إلى الجذور الثقافية. مشيراً إلى أن الجبهة تسعى إلى إقامة نظام سياسي جديد قائم على القيم الإسلامية التي لا تقتصر على مفهوم "الدولة الثيوقراطية"، بل تهدف إلى حكومة تلتزم منهج حياة إسلامياً.
أنور هدام ينتقد صمت الغرب تجاه القمع في الجزائر
كذلك عبّر هدام عن اعتقاده أن الانتخابات الديمقراطية التي جرت في الجزائر، في مقدمها انتخابات ديسمبر )كانون الأول( 1991، كانت تمثل تفويضاً شعبياً للجبهة. وعلى رغم ذلك، تعرّضت الجبهة للقمع من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة، التي أجبرت الجبهة على الخروج من الحياة السياسية بالقوة. وأكد هدام أن الجبهة لا تؤيد العنف كوسيلة لتحقيق التغيير، لكنها تفهم وتتعاطف مع أولئك الذين يلجأون إلى العنف، بسبب الظلم الذي وقع عليهم.
كما انتقد هدام الغرب لعدم تدخله ضد القمع في الجزائر، معتبراً أن صمت الغرب يشجع النظام الجزائري على استمرار سياسات القمع، وأضاف أن غياب الدعم الغربي قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية، ويعزز الانطباع في دول أخرى أن اللجوء إلى العنف هو البديل الوحيد للمعارضة السياسية.
كذلك تحدث هدام عن الوضع الداخلي للجبهة، مبيناً أن الهيكل التنظيمي للجبهة لا يزال قائماً على رغم المحاولات المتكررة لإضعافه، وعلى رغم الاعتقالات المتكررة لقيادات الجبهة، فإن الحركة تتمكن من إعادة تنظيم نفسها عبر قيادة مؤقتة تمحورت حول محمد سعيد، مشيراً إلى أن صحيفة "منبر الجمعة"، على رغم كونها ليست لسان حال رسمياً للجبهة، فإنها تمثل صوت القاعدة الشعبية وتستخدمها الجبهة لاختبار ردود الفعل العامة. كما تحدث عن الانقسام داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية، مشيراً إلى وجود طرفين: الأول يرغب في الحوار مع الجبهة، وآخر معارض بشدة.
هل تورطت الجبهة في تفجير المطار؟
تناول هدام أيضاً قضية تفجير المطار، إذ أكد أن الاعترافات التي أدلى بها حسين عبدالرحيم حول تورط الجبهة في الحادثة كانت منتزعة تحت التعذيب، واعتبر أن الحادثة قد تكون مدبرة من قبل النظام لتشويه سمعة الجبهة، وفي هذا السياق، دعا هدام إلى تحقيق دولي في القضية.
أما بالنسبة إلى العلاقات الخارجية، فطلب هدام من وزارة الخارجية البريطانية تسهيل حصوله على تأشيرات دخول عدة، إذ كان يمتلك تأشيرة دخول للولايات المتحدة، وأكد أنه بحاجة إلى زيارة بريطانيا بشكل دوري، مشيراً إلى أنه كان قد أجرى مقابلة صحافية مع صحيفة "الاندبندنت" في مايو 1994. وترك هدام لدى نيناد مجموعة من الوثائق المهمة، شملت سرداً زمنياً لخيانة الديمقراطية في الجزائر ونسخاً من بيانات الجبهة وبعض قصاصات الصحف.
وفي ختام اللقاء أشار نيناد إلى أنه سيحتفظ بهذه الوثائق في قسم البحث والتحليل (RAD)، وأنه سيرتّب مع السفارة البريطانية في واشنطن، لتيسير الحصول على التأشيرات المطلوبة.
هذا اللقاء يمثل نقطة مهمة في التواصل بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبعض الجهات الغربية، ويعكس التحديات السياسية التي كانت الجزائر تواجهها في تلك الفترة في مواجهة نظام عسكري قمعي، مع سعي الجبهة إلى توسيع دائرة اعترافها الدولي.
ازدواجية التعامل مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة
كتب مارك روش، وهو مراسل صحيفة "ذا ليموند" الفرنسية في لندن تقريراً بتاريخ التاسع من أغسطس (آب) 1994 ما نصه: "عُقد المؤتمر الذي نظمته الأحد السابع من أغسطس في ويمبلي، قرب لندن، جمعية (الخلافة الإسلامية) وهي منظمة إسلامية متشددة أسسها سوري يدعى عمر بكري محمد، مقيم في لندن منذ 1985، مما أثار مجدداً الانتقادات على الموقف المتساهل للسلطات البريطانية تجاه الحركات الإسلامية، وقد تعرض هذا الموقف أخيراً لانتقادات من قبل شارل باسكوا.
على رغم المطالبات المحلية والاحتجاجات من الجالية اليهودية لحظر المؤتمر بدعوى (التحريض على الكراهية العنصرية)، رفضت السلطات البريطانية التدخل، متذرعة بحرية التعبير، بينما كان واضحاً أن المؤتمر مثّل منصة لجمع شخصيات وتنظيمات إسلامية لها باع طويل في بث الكراهية والترويج للعنف. كان من بين المشاركين ممثلون عن جماعة الإخوان المسلمين، التنظيم العالمي الذي يتخذ من الإسلام غطاءً لأجندات سياسية متطرفة، وعن "حزب الله" اللبناني، المعروف بدوره في زعزعة الأمن الإقليمي من خلال تحالفاته الطائفية وسلاحه الخارج عن سيطرة الدولة اللبنانية.
إلى جانب هؤلاء، حضر المؤتمر أيضاً أعضاء من حزب التحرير، و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، وشخصيات معروفة بخطابها المتشدد، مثل راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، ومحمد دنيدني، رئيس تحرير سابق لجريدة ناطقة باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية. ما جمع هؤلاء لم يكن فقط التقارب الفكري، بل أيضاً العلاقات المباشرة وغير المباشرة بتنظيمات إرهابية عدة تنشط في الشرق الأوسط، وأبرزها "الإخوان" و"حزب الله"، الذين كثيراً ما أدوا دوراً محورياً في تغذية الصراعات الطائفية، سواء في سوريا أو العراق أو لبنان.