ملخص
يرى باحثون أن الدولة الفرنسية بحاجة إلى تطبيق برامج دمج تهدف إلى تغيير وجهات نظر المجتمع الفرنسي تجاه المهاجرين، وأن الإعلام الفرنسي، وخصوصاً الذي يتبناه التيار اليميني المتطرف، يلعب دوراً سلباً للغاية في تشكيل صورة المهاجرين، مما يعزز المواقف السلبية تجاههم.
كثيراً ما كانت قضية الهجرة في فرنسا موضع جدل ونقاش، سواء في الأوساط السياسية أو داخل المجتمع المدني. التصور الفرنسي للمهاجرين، بخاصة القادمين من الدول العربية، يتشكل من خلال مجموعة من العوامل المؤثرة، أبرزها الخطاب الإعلامي السائد، والسياسات الحكومية، والصور النمطية التي تروج في المجتمع. في هذا السياق يصبح من الضروري فهم كيفية تأثير هذه التصورات في حياة المهاجرين، وفرصهم في الاندماج في المجتمع الفرنسي.
ومن هنا، تظهر التحديات التي تواجه الجالية العربية في فرنسا أثناء محاولتها الاندماج، إذ تبدأ من التفاعل مع قيم المجتمع الفرنسي الذي يعتمد العلمانية والفردية أساساً لهويته، وتتفاقم عندما يحاول أفراد هذه الجالية الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية. هذه التحديات تعكس الصراع المستمر بين الانتماء إلى الثقافة الفرنسية، وتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم الخاصة في مجتمع قد يراها أحياناً غريبة أو صعبة التكيف.
تجارب المهاجرين العرب
في حديثه عن تجربته الشخصية في التكيف مع المجتمع الفرنسي، يقول محمد، أحد المهاجرين العرب المقيمين في فرنسا وهو أب لثلاثة أطفال، "بصراحة، التكيف مع التقاليد الفرنسية كان تحدياً كبيراً في البداية. أنا نشأت في مجتمع يحترم التقاليد الأسرية بصورة كبيرة، وعندما جئت إلى هنا شعرت أن المجتمع الفرنسي يركز أكثر على الفردية والاستقلالية. كان هذا التناقض صعباً بعض الشيء، بخاصة في ما يتعلق بالتعامل مع الأطفال، الذين يتعلمون في المدرسة أفكاراً مختلفة عن تلك التي نحاول غرسها في المنزل".
أما بالنسبة إلى الهوية الثقافية والدينية، فيضيف محمد "أنا أحاول التوازن. مثلاً، أحتفل بالأعياد الدينية مثل رمضان مع عائلتي وأصدقائي، وفي الوقت نفسه أحترم المناسبات الفرنسية، مثل الاحتفال بالعام الجديد. لكن أحياناً أشعر بأنني مضطر إلى تفسير معتقداتي أو عاداتي للآخرين، لا سيما في مكان العمل".
وعن تجربتها كمهاجرة عربية في فرنسا، تقول رباب، التي عاشت في باريس لمدة 10 أعوام قبل أن تنتقل إلى دولة أخرى رأت أنها أفضل للعيش فيها، "عندما جئت إلى فرنسا، كان أكبر تحدٍّ بالنسبة إليَّ هو اللغة. لم أكن أتمكن من التواصل بصورة جيدة، وكان ذلك عائقاً في كثير من المواقف، سواء في العمل أو في التعامل مع الجيران".
أضافت رباب، "من جهة أخرى، التحدي الأكبر بالنسبة إليَّ كان التكيف مع القيم والمفاهيم التي يعتنقها المجتمع الفرنسي. على سبيل المثال، الاحترام الكبير للحرية الشخصية والاستقلالية كان مختلفاً تماماً عن الطريقة التي نشأت بها. في بلدنا، العائلة والمجتمع هما الأولوية. ومع ذلك، بعد فترة من التكيف، تعلمت كيف أوازن بين قيمتي الشخصية وقيم المجتمع الفرنسي".
أما عن نظرة المجتمع الفرنسي للمهاجرين العرب فقالت رباب، "للأسف، هناك بعض الصور النمطية التي تتبناها فئات معينة من المجتمع تجاه العرب والمسلمين. أحياناً أشعر أنني مضطرة إلى تبرير نفسي أو تصحيح المفاهيم الخاطئة، بخاصة كوني محجبة. ومع ذلك أعتقد أن الناس في فرنسا أكثر انفتاحاً من بعض المجتمعات الأخرى، لكن التحدي يبقى في تغيير التصورات السائدة".
تحديات الاندماج والتمييز
للتعمق أكثر في هذا الموضوع، أجرينا حواراً مع أستاذة علم الاجتماع في جامعة "السوربون" بباريس، شيرين بن عبدالله، التي قالت لـ"اندبندنت عربية" إن الوضع الراهن للجالية العربية في فرنسا يعكس تفاعلاً معقداً مع المجتمع الفرنسي، حيث تتشابك فيه قضايا محورية عدة، مثل الهوية والاندماج والتمييز. هذه التحديات لا يمكن فصلها عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية العامة التي يعانيها المجتمع الفرنسي ككل، وعلى رأسها أزمة التضخم الاقتصادي والتطلع المشترك إلى حياة كريمة.
وأوضحت شيرين بن عبدالله أن الجالية العربية والمسلمة في فرنسا تواجه مجموعة من التحديات الأساس التي تعوق اندماجها في المجتمع الفرنسي، وتتمثل هذه الإشكالات في العقبات البيروقراطية المعقدة، وضعف إتقان اللغة الفرنسية لدى بعض الأفراد، ونقص الفرص المهنية المتاحة، كلها تعرقل اندماج الأفراد في سوق العمل وفي المجتمع بصورة عامة.وأشارت أستاذة علم الاجتماع إلى أن وجود عدد كبير من العرب والمسلمين في الأحياء المعروفة بـ "الحساسة"، التي تعاني نقصاً حاداً في البنية التحتية التعليمية والاجتماعية، يعزز التفاوتات البنيوية ويفاقم التحديات أمام اندماجهم المهني. هذا الوضع يقلص فرصهم في تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن لهذا أن يشكل بيئة خصبة للتطرف بجميع صوره، ويزيد من شعور الأفراد بالعزلة. وفي هذا الإطار ترى شيرين بن عبدالله أن حادثة وفاة الشاب ناييل عام 2023 تعد صدمة وأزمة اجتماعية عميقة تؤثر بصورة خاصة في هذه الأحياء المهمشة.
وفي ما يتعلق بموضوع الحفاظ على الهوية، أشارت شيرين بن عبدالله إلى أن الجالية العربية في فرنسا تسعى جاهدة إلى الحفاظ على هويتها الثقافية والدينية في ظل تصاعد الخطابات المعادية للإسلام، إضافة إلى ممارسات مثل حظر الحجاب في بعض الأماكن. هذه السياسات والمواقف تسهم في تعزيز الإحساس بالعزلة لدى أفراد الجالية وتفاقم التحديات التي يواجهونها في المجتمع الفرنسي.
وغالباً ما يستغل السياسيون النقاش حول الرموز والممارسات الدينية، مثل ارتداء الحجاب وبناء المساجد، مما يزيد من تعميق التحديات التي يواجهها المواطنون الفرنسيون من أصول عربية ومسلمة، كما تقول شيرين بن عبدالله. كذلك فإنه لا يمكن تناول مسألة الهوية بمعزل عن السياق الحالي، إذ إن الحرب على غزة وتفاقم الأزمات في الشرق الأوسط قد تسهم في خلق انقسامات اجتماعية وسياسية هناك.
في اعتقاد أستاذة علم الاجتماع، تتأرجح السياسات الحكومية بين المبادرات التي تهدف إلى تعزيز الإدماج والتدابير التي يُنظر إليها على أنها تقييدية أو تمييزية، مثل قانون حظر الرموز الدينية الواضحة في المدارس. كذلك فإن صعود الأحزاب اليمينية في الأعوام الأخيرة أسهم في انتشار الخطاب العنيف الذي يربط بين الهجرة وانعدام الأمن، مما يعوق جهود الإدماج ويؤدي إلى تفاقم التوترات المجتمعية.
واعتبرت أن النقاش حول تنقيح قانون الهجرة والرغبة في جعله أكثر صرامة، تزامناً مع اندلاع الحروب في الشرق الأوسط، مثال للتحديات التي تهدد بالإضرار بالشعور بالانتماء وتعميق الوصم الاجتماعي لهذه الفئة، إضافة إلى تعزيز الحواجز الرمزية والمادية التي تحول دون اندماجهم في المجتمع الفرنسي.
وفي حديثها عن التمييز العنصري، دعمت بن عبدالله رأيها بإحصاءات "إيفوب" التي تشير إلى أن نحو 40 في المئة من المسلمين في فرنسا تعرضوا في الأقل مرة لتمييز بسبب دينهم، مما يؤثر سلباً في شعورهم بالانتماء والثقة بالمؤسسات. وأكدت أن دراسة سوسيولوجية صدرت في أبريل (نيسان) الماضي تحت عنوان "فرنسا نحبها ولكن نغادرها"، اعتمدت على عينة تضم أكثر من 1000 شخص من أصول عربية ومسلمة، وبعد إجراء 140 مقابلة معمقة مع شباب فرنسيين مسلمين قرروا مغادرة بلدهم، خلصت إلى أن الإسلاموفوبيا هي من بين الأسباب الرئيسة التي تدفعهم إلى البحث عن بيئة أكثر دعماً لتكافؤ الفرص خالية من التحيز وتعزز الحوار بين الثقافات.
بالنسبة إلى شيرين بن عبدالله، فإن تجاوز هذه التحديات يُعد مسؤولية مشتركة بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. وشددت على ضرورة اليقظة في تنفيذ التدابير من جانب مؤسسات الدولة، وضمان التواصل الفعال مع جميع المواطنين بصورة متكافئة، وذلك لتجنب اتساع نطاق التمييز على أساس العرق والدين. كما أكدت أن المواطنين من أصول عربية يجب أن يحترموا العقد الاجتماعي، ويغلبوا علوية القانون لضمان الاندماج الاجتماعي والاقتصادي.
تأثير الإعلام والسياسة
في ما يخص تأثير النقاشات المتعلقة بالهجرة في الإعلام والسياسة الفرنسية في نظرة المجتمع تجاه المهاجرين، أشارت الباحثة والمتخصصة في قضايا الهجرة، نور فاضل، إلى أن الإعلام الفرنسي، وخصوصاً الذي يتبناه التيار اليميني المتطرف، يلعب دوراً سلباً للغاية في تشكيل صورة المهاجرين، مما يعزز المواقف السلبية تجاههم. ولفتت الانتباه إلى وجود خلط واضح بين مفاهيم عدة، مثل الهجرة وطالبي اللجوء، والهجرة والحاصلين على صفة الحماية الدولية بموجب اتفاق جنيف، مما يؤدي إلى تشويه النقاش العام وإضعاف التفاهم حول حقوق الإنسان المرتبطة بهذه القضايا.ولفتت فاضل إلى أن هناك نوعاً من التعميم السلبي تجاه المهاجرين في فرنسا، بغض النظر عن اختلاف أوضاعهم القانونية، سواء كانوا طلاباً أو باحثين أو عمالاً أو حاملي إقامة عائلية. هذه النظرة العامة والموحدة تُضفي صورة سلبية غير عادلة على جميع المهاجرين.
ورأت الباحثة أن أحد الأسباب الرئيسة وراء هذا الوضع هو سياسات الهجرة واستقبال اللاجئين، التي تتسم بالإجراءات البيروقراطية الطويلة وعدم التزام القوانين التي تنص، على سبيل المثال، على إيواء طالبي اللجوء في مراكز استقبال وتسريع معالجة طلباتهم. وتشير إلى أن نحو 50 في المئة من طالبي اللجوء لا توفر لهم الدولة أماكن إيواء، فتضطر نسبة كبيرة منهم إلى العيش في ظروف قاسية، مثل المخيمات العشوائية المنتشرة في مناطق كالشمال الباريسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق تعزيز التكامل بين المهاجرين والمجتمع الفرنسي، أوصت الباحثة بضرورة إعادة النظر في طريقة تعامل المجتمع الفرنسي مع قضية الهجرةن وأشارت إلى أن الهجرة كانت على مدى التاريخ جزءاً طبيعياً من تطور المجتمعات، بل استفادت منها الدول الاستعمارية لعقود طويلة. ومع ذلك تفاقمت المشكلات مع ظهور الهويات وجوازات السفر التي أصبحت أداة لتمييز المواطن عن غيره.
أضافت الباحثة أن الدولة بحاجة إلى تطبيق برامج دمج تهدف إلى تغيير وجهات نظر المجتمع الفرنسي تجاه المهاجرين. فالمهاجرون غالباً ما يُقدمون من قبل بعض السياسيين، وخصوصاً من اليمين المتطرف، كتهديد للهوية والثقافة الفرنسية، لذا من الضروري أن يكون هناك جهد موجه من جانب الفرنسيين أنفسهم لفهم واقع المهاجرين، والتفاعل معهم بصورة إيجابية.وأكدت نور فاضل أن عملية الاندماج ليست مسؤولية المهاجر وحده، بل تتطلب جهداً متبادلاً من الطرفين، إذ ينبغي أن يشارك المجتمع المضيف في خلق بيئة تتيح للمهاجرين الشعور بالقبول والمساواة.
وفي ما يتعلق بتحسين سياسات الهجرة واللجوء في فرنسا لدعم الجاليات العربية، شددت فاضل على أهمية تنفيذ توصيات إعلان نيويورك، الذي يدعو إلى إنشاء قنوات آمنة للهجرة، بهدف الحد من الوفيات المأسوية على موانئ أوروبا وغيرها من النقاط الحدودية. كما أكدت على ضرورة تعزيز إدماج المهاجرين واللاجئين في المجتمع، من خلال الاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم، وتسهيل دخولهم إلى سوق العمل. وترى أن توفير فرص حقيقية للتدريب والتأهيل المهني يمكن أن يسهم بصورة كبيرة في دعمهم، مما يعود بالنفع على المجتمع الفرنسي ككل. ودعت إلى مقاربة إنسانية أكثر شمولاً في سياسات الهجرة، تأخذ في الاعتبار حقوق الإنسان والكرامة، مع التركيز على تحقيق التوازن بين الأمن وحاجات هذه الفئة.
ختاماً تواجه الجالية العربية في فرنسا تحديات كبيرة في التكيف مع القيم الثقافية والمجتمعية، إضافة إلى الصور النمطية السلبية التي قد تعوق اندماجهم الفعلي. لكن، يبقى السؤال: هل يمكن للمجتمع الفرنسي أن يتبنى سياسات أكثر مرونة تدعم التنوع الثقافي وتفتح المجال أمام فرص متساوية للجميع؟