على رغم إعلان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في الرابع من يوليو (تموز) انسحاب المؤسسة العسكرية من الحوار الذي ابتدرته الآلية الثلاثية الممثلة في بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد في الثامن من يونيو (حزيران)، لإفساح المجال للمدنيين للتوافق حول تشكيل حكومة من كفاءات مدنية مستقلة، لكن كثيراً بمن فيهم غالبية القوى السياسية شككوا آنذاك في هذه الخطوة ووصفوا قول البرهان في هذا الشأن بأنه "مجرد تكتيك لأنه من الصعب حدوث توافق شامل بين الساسة المدنيين"، إلا أنه سرعان ما تواترت الأنباء خلال هذه الأيام بقرب التوصل إلى اتفاق سياسي ينهي الأزمة السياسية التي فجرها انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي على أثره تعطلت الشراكة بين المكونين العسكري والمدني وألغيت الوثيقة الدستورية التي كانت تحكم البلاد.
فما مدى صدقية البرهان في تسليم السلطة للمدنيين، وهل خروج الجيش من المشهد السياسي سيحقق الاستقرار المنشود للسودان؟
واقع لا مفر منه
يقول الكاتب السوداني، الجميل الفاضل "مسألة تسليم السلطة للمدنيين من قبل العسكريين أصبح حقيقة لا مفر منها لأن الانقلاب فقد مقومات الوجود والبقاء، ووجد المكون العسكري نفسه بأنه سيدفع ثمناً فادحاً سواء من ناحية القتل الذي حدث للمتظاهرين (118 قتيلاً)، أو بسبب انهيار الوضع الاقتصادي لدرجة بات المواطن غير قادر على توفير قوت يومه بأقل من الحد الأدنى، فضلاً عن العزلة الخارجية التي ضربت البلاد بوقف المساعدات من قبل مؤسسات التمويل الدولية والدول الصديقة. العسكريون بدأوا يستشعرون الخطر بخاصة جنرالات الانقلاب الذين يواجهون تحركات ضدهم باتجاه المحكمة الدولية الجنائية في لاهاي".
وتابع "هناك جملة أشياء دفعت العسكريين لقبول فكرة إنهاء انقلاب 25 أكتوبر، وقد صرح سابقاً عدد من السياسيين بأن المكون العسكري ليس لديه أي مانع في تسليم السلطة، بل تلقوا دعوة منه لتسلمها، فالسلطة أصبحت نقمة لدى العسكريين الذين يبحثون الآن عن خروج آمن فيه نوع من الضمانات، لكنهم أصبحوا في موقف حرج تجاه الحلفاء الذين ساندوهم في الانقلاب، لذلك تجدهم يتلجلجون في الحديث والقول إن المدنيين قدموا تنازلات، ما دفعهم إلى السير قدماً لحل الأزمة في وقت أن المدنيين ليس لديهم سلطة حتى يقدموا تنازلات، فالطبيعي أن من في يده السلطة هو الذي يتنازل".
أبواب مغلقة
ومضى الفاضل قائلاً "الصيغة المطروحة حالياً لحل الأزمة السودانية لا تقوم على الشراكة بين المكونين العسكري والمدني كما كان في السابق، فالعملية في شكلها الكلي عبارة عن تسوية سياسية تحفظ ماء وجه الجنرالات من خلال ضمانات تجنبهم المحاسبة، واعتقد أن المجتمع الدولي أفلح في الوصول لهذه التسوية التي لم يقدم فيها المكون المدني تنازلاً غير القبول بمبدأ التفاوض، وباختصار، إن البرهان ذهب لهذه التسوية مجبراً لا بطلاً وهو الوصف الحقيقي الدقيق، لأن الأبواب أغلقت أمامه بتراجع الدول التي كانت مناصرة له عن مواقفها، بالتالي أصبحت فرص استمرار الانقلاب شبه معدومة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وواصل "القضية أن هذا الانقلاب كان في غرفة الإنعاش ويعمل بواسطة الأجهزة الاصطناعية وكل مرة ينزع منه أحد الأجهزة، وقد اختار قائده في آخر لحظة القبول بالعملية السياسية ولكان وصل إلى النقطة النهائية، لكن نجد أن هناك مخاطر تحف هذه التسوية فالإخوان في الجيش يمارسون الضغط على البرهان حتى لا يقدم على التوقيع على اتفاق مع المدنيين، إضافة إلى الحالة العدائية بين قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وحركات الكفاح المسلح، فضلاً عن بعض الناس الذين أتيحت لهم فرصة ممارسة التهريب والنهب والفساد فمؤكد أن مصالحهم ستزول، لكن خيار التسوية منطقي وعقلاني، وهو الخيار الوحيد المتوفر أمام البرهان الآن لأن انقلابه بني على تقديرات خاطئة".
ورأى الكاتب السوداني أنه على رغم المحاولات الجارية لإحداث استقرار في البلاد وفق العملية السياسية، لكن الوضع سيكون مفتوحاً لكل الاحتمالات، فهناك تيار التغيير الجذري ولجان المقاومة التي وقعت على ميثاق سلطة الشعب وتجمع المهنيين وربما حركات مسلحة أخرى، فضلاً عن عناصر النظام السابق والمكونات المتحالفة معه، يقفون في الضفة الأخرى ضد ما يجري من تسوية، إلا أن تحسن المشهد العام يرتبط بالوضع الاقتصادي، فإذا تحسن فسيكون هناك استقرار نسبي ومعقول نوعاً ما، أما إذا تردت الأوضاع فلن يكون هناك استقرار وتكون قوى الحرية والتغيير قد دخلت في ورطة جديدة.
مخاطر واستفزازات
من جهته يوضح أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم، الزمزمي بشير بقوله "تسليم المكون العسكري السلطة كاملة للمدنيين عملية غير واقعية وتحفها مخاطر لأسباب عدة، منها أن القيادات العسكرية ليس لديها ثقة في القوى المدنية، فضلاً عما حدث من تراشق وتحريض من قبل بعض السياسيين ضد العسكر ما يجعل السلطة المدنية مهددة من قبل ضباط الجيش لأنهم لا يحتملون استفزازات المدنيين، كما أن المنطقة التي حول البلاد تحكم بواسطة جنرالات، أي دول الجوار كمصر وتشاد وإثيوبيا وأريتريا، بالتالي من الصعب أن يخالف السودان هذا النهج المتبع في الحكم على رغم أن بلادنا تعد أول دولة أفريقية شهدت انتخابات في 1958، لكنها كتجربة لم تنجح".
وأضاف "كذلك خروج الجيش من المشهد السياسي مسألة ملغومة تعني عدم الاستقرار، فوجود الجيش داخل السلطة يحميها من المغامرات والانزلاقات، وقد أكدت على ذلك دراسات عدة لمراكز دولية، من بينها مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن التي أشارت إلى أن استقرار حكم السودان خلال الفترة الانتقالية يقوم على وجود المؤسسة العسكرية في السلطة لحمايتها من الانقلابات، كما نلحظ أن القوى السياسية غير متوافقة في ما بينها، ومنهم من يقف مع العسكريين سواء على قناعة أو لشأن آخر، لكن عموماً، إن البلاد فقدت خلال الفترة الماضية قيادات تاريخية مؤثرة أمثال الصادق المهدي وحسن الترابي ومحمد إبراهيم نقد، فقد كانت لديهم القدرة على الصبر على بعضهم من أجل الوطن، والآن الفرق شاسع بينهم ومن خلفهم من قيادات".
تهدئة الشارع
وأردف بشير بالقول "هناك أقاويل كثيرة حول ما يدور هذه الأيام من أحاديث بأن العسكريين وبعض القوى المدنية ممثلة في تحالف الحرية والتغيير يتجهان لعقد تسوية سياسية يتم من خلالها تسليم العسكر السلطة للمكون المدني، لكن فئة من المحللين ترى أن هذه الخطوة لا تعدو أن تكون مجرد تكتيك من المكون العسكري لتهدئة الشارع في شهر أكتوبر الحالي الذي يمثل رمز الثورة السودانية، إذ شهد اندلاع أول انتفاضة شعبية ضد الرئيس السابق الجنرال ابراهيم عبود في 21 أكتوبر 1964، وبشكل عام هناك تحديات كثيرة وتعقيدات للوصول إلى اتفاق من ناحية أن حركات الكفاح المسلح ومكونات شرق السودان بخاصة المجلس الأعلى لنظارات البجا ضد هذه التسوية، فضلاً عن عدم توحد الأحزاب وتشرذمها وانقساماتها نتيجة ما وصلت إليه من ضعف".
ولفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن البرهان عندما ذكر بأن المؤسسة العسكرية ستنسحب من الحوار لإتاحة الفرصة للمدنيين للاتفاق على تشكيل حكومة مدنية كان يدرك تماماً بأن القوى السياسية لن تتفق، وأن أي اتفاق لا يتضمن الشراكة مع العسكريين سيعيد الأزمة من جديد، ولن تستقر الأوضاع بأي حال من الأحوال.