على رغم محاولات إنهاء حال الانسداد السياسي في السودان التي دامت على مدار عام، منذ أن أعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي جملة قرارات في انقلاب على شركائه المدنيين في الحكومة، إلا أن المسار لإزالة العقبات يفتقر إلى وحدة القوى السياسية، وصعوبة العودة لما قبل ذلك مع غياب سيادة القانون، وسيطرة الأجواء المشحونة بالانقسامات.
ومع إقرار البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بفشل الجميع في إدارة الفترة الانتقالية خلال المرحلة السابقة، لكن لا يزال هناك أمل في أن يتم التوصل إلى حل، والآن لا صوت يعلو فوق صوت اقتراب المكونين المدني والعسكري من تسوية سياسية جديدة، توافقت عليها أطراف سياسية واختلفت حولها أخرى.
ولم يكن هذا هو النداء الأول بتسوية سياسية تخرج البلاد من حال الاختناق السياسي، فقد مرت محاولات التسوية بين المدنيين والعسكريين بمطبات عدة، استمرت تحت رعاية الآلية الثلاثية المكونة من "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة" لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، ومنظمة "الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا" (الإيغاد)، والاتحاد الأفريقي.
ففي الثامن من يونيو (حزيران) الماضي انطلق الحوار الوطني لحل الأزمة السياسية برعاية الآلية الثلاثية، وفي 12 من الشهر ذاته علقت وساطتها في أعقاب انسحاب المكون العسكري من المفاوضات.
أصاب داء الانشقاق كل القوى السياسية من دون استثناء، ولم تكن "الجبهة الثورية" بمعزل عن الانقسام الذي ظهر جلياً بعد إجراءات 25 أكتوبر.
ويبدو أن "الجبهة الثورية" التي دخلت مع النظام السابق في حرب مفتوحة بعد تأسيسها بعيد انفصال جنوب السودان، ثم شاركته الحكم، وعادت إلى مواجهته حتى تاريخ مشاركتها بفاعلية في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، فقدت كثيراً من زخمها وقوتها بسبب ما تعرضت له من انقسامات واستقطاب وحملة واسعة لتصفية أعضائها سياسياً من قبل تيارات مناوئة بسبب اتهامات بدعمها للعسكريين، نسبة لمواقفها الضبابية ودخولها في صراعات مع بعض القوى السياسية.
مشاركة السلطة
تشكلت "الجبهة الثورية" بعد أشهر قليلة من انفصال جنوب السودان في يوليو (تموز) 2011، من أربع حركات مسلحة بهدف إسقاط حكومة الرئيس السابق عمر البشير. وقعت على إعلان سياسي "وثيقة كاودا" في الـ11 من نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام نسبة إلى منطقة كاودا في جبال النوبة، ثلاث حركات مسلحة دارفورية هي "حركة العدل والمساواة" بقيادة خليل إبراهيم، و"حركة تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي، و"حركة تحرير السودان" بقيادة عبدالواحد محمد نور، إضافة إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال" بقيادة مالك عقار إير.
وفي السادس من يناير (كانون الثاني) 2013 أعلنت "قوى الإجماع الوطني" المعارضة للنظام السابق عن توقيع "ميثاق الفجر الجديد" مع "الجبهة الثورية"، وشملت "حزب الأمة" و"الحزب الاتحادي الديمقراطي" و"المؤتمر الشعبي" وبعض التنظيمات الأخرى.
دخلت بعض هذه الحركات مع النظام السابق في اتفاقات سلام مختلفة، نالت على أثرها نصيباً من السلطة والثروة، فقد وقع مني أركو مناوي على اتفاق "أبوجا" للسلام في دارفور مع النظام السابق في عام 2006، وعين مساعداً للرئيس السابق البشير، لكنه عاد للمعارضة المسلحة عام 2010 بعد اتهامه للحكومة بعدم تطبيق الاتفاق، وعدم إعادة تعيينه في الحكومة التي شكلت بعد انتخابات أبريل (نيسان) 2010، وكانت الحكومة اتهمته بالتقاعس عن تطبيق الترتيبات الأمنية في الاتفاق.
أما "الحركة الشعبية - شمال" فقد وقعت ضمن "الحركة الشعبية لتحرير السودان" اتفاق السلام (نيفاشا) في عام 2005، الذي مهد لانفصال جنوب السودان، ثم وقعت اتفاق أديس أبابا الإطاري بين الحكومة السودانية بقيادة مساعد البشير نافع علي نافع، ورئيس الحركة مالك عقار في 28 يونيو (حزيران) 2011 بشأن المنطقتين (النيل الأزرق وجبال النوبة) بوساطة لجنة من "الاتحاد الأفريقي" كان يترأسها رئيس جنوب أفريقيا الأسبق ثابو أمبيكي، وتحت رعاية الرئيس الإثيوبي الأسبق ملس زيناوي.
وبعد مواجهات عنيفة بين القوات المسلحة السودانية ومقاتلين كانوا ينتمون للجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان، اتهم البشير عقار بعدم تنفيذ اتفاق السلام الشامل الذي يلزم حركته بالترتيبات الأمنية، وعزله من منصب والي ولاية النيل الأزرق.
تاريخ مكبل
أما "حركة العدل والمساواة" فقد اتخذت موقفاً مع الحكومة السابقة وضدها في آن معاً، وقعت الحركة "اتفاق الدوحة" الإطاري لتسوية أزمة دارفور في فبراير (شباط) 2009، لكن لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بينهما، وكانت قوات خليل إبراهيم قبل ذلك قد غزت العاصمة الخرطوم من مدخل مدينة أم درمان في العاشر من مايو (أيار) 2008 سميت بعملية "الذراع الطويل".
وبعد انهيار "اتفاق الدوحة" تكتلت "حركة العدل والمساواة" مع حركة عبدالواحد محمد نور الرافضة للتفاوض مع الحكومة، وكانت الحركتان رفضتا "اتفاق أبوجا"، ليكونا "الجبهة الوطنية للخلاص" المناهضة للخرطوم، وتابعت "العدل والمساواة" مناهضتها للنظام من ليبيا، وبعد قيام ثورة 17 نوفمبر غادر زعيمها إلى السودان، حيث قتل بغارة جوية في ولاية شمال كردفان في 25 نوفمبر 2011، وتولى قيادة الحركة شقيقه جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ظل تاريخ هذه الحركات المسلحة في مواءمتها للنظام السابق، باستثناء "حركة تحرير السودان" بقيادة عبدالواحد محمد نور، مكبلاً لأدائها السياسي الحالي، إذ تعود التيارات السياسية إلى ذلك التاريخ في كثير من الأحيان لتفسير مواقف الحركات المتباينة إزاء حكومة الفترة الانتقالية واتهامها بالتقرب إلى المكون العسكري.
بعد توقيع "الجبهة الثورية" اتفاق السلام بجوبا في الثالث من أكتوبر 2020، مع حكومة الفترة الانتقالية، قدمت أطراف من الجبهة ما عدا "حركة العدل والمساواة" و"حركة تحرير السودان- جناح مناوي" مبادرة دعت فيها إلى إنهاء الأزمة السياسية عبر مصفوفة للحوار يتكون من مرحلتين، الأولى بين شركاء الفترة الانتقالية بحسب الوثيقة الدستورية بهدف التوصل إلى تشكيل حكومة تدير الفترة الانتقالية.
أما المرحلة الثانية فتكون بين كل القوى السياسية للوصول إلى صياغة نظام الحكم والدستور والانتخابات، وبينما اشترطت عدم المساس باتفاق جوبا، بما في ذلك مسار شرق السودان الذي تدور حوله خلافات كبيرة، عند إجراء أي تعديلات على "الوثيقة الدستورية"، أكدت أن "المكون العسكري شريك في نجاح ثورة ديسمبر، وشريك في إدارة الفترة الانتقالية بحكم الوثيقة الدستورية، وأن استمرار الشراكة معه يشكل ضمانة أساسية لاستكمال الفترة الانتقالية وإنجاز التحول الديمقراطي".
انسحاب التنظيمات
انتقدت القوى السياسية ترحيب "الجبهة الثورية" التي أصبحت تضم فصائل مسلحة أبرزها "الحركة الشعبية" و"حركة العدل والمساواة" وسياسية بقيادة الهادي إدريس وكيانات أخرى، التصريحات التي أطلقها البرهان بشأن إجراءات تهيئة المناخ لانطلاق الحوار لحل الأزمة الراهنة.
وأكدت "الجبهة" أن المبادرة التي طرحتها لتفضي إلى تسوية سياسية شاملة تضمنت "خريطة طريق تبدأ باتخاذ إجراءات لبناء الثقة وتهيئة المناخ عبر إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف التصعيد، والقبول بالحل السياسي عبر الحوار بين شركاء المرحلة الانتقالية المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية".
بعد انشقاق "حركة تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي وتأسيسها "جبهة ثورية" أخرى مع بعض الحركات المسلحة المنشقة، حاولت الجبهة الأم التقليل من تأثير انسحاب مناوي، لكن الأخير الذي أصبح حاكماً لإقليم دارفور استطاع استقطاب حركات مسلحة أخرى منشقة هي الأخرى عن حركات "الجبهة الثورية" ومؤيدة لإجراءات 25 أكتوبر، مما ولد تحديات تنظيمية تواجهها ممثلة في كيفية تفعيل وتسيير أدائها السياسي.
كما أدت النزاعات القيادية بين زعماء الحركات واصطدامهم مع المدنيين في مرحلة من مراحل الفترة الانتقالية بدأت باختلاف الرؤى بين حركات الجبهة الثورية بشأن الاتفاقات السياسية الموقعة قبل قرارات أكتوبر إلى التمهيد لحال الانقسام الحالية، ونتج منها تشتيت تلك القوى وفقدانها للشروط المطلوبة لاستمرارها، هذا فضلاً عن عدم إيفاء حكومة الفترة الانتقالية بوعود قطعتها لإرضاء هذه الحركات وتهدئتها لمرحلة مقبلة.
وباتت "الجبهة الثورية" تواجه السخط من المكونين العسكري الذي لم يعد بحاجة إلى استمالتها بعد تشتتها، والمدني الذي يرى أنها تنازلت عن كثير من المبادئ التي وحدت المعارضة بشقيها المسلح والمدني قبل إسقاط البشير.
اتساع الفجوة
في يوليو (تموز) الماضي انسحبت "الجبهة الثورية" من حوار الآلية الثلاثية احتجاجاً على انسحاب المكون العسكري منه، مبررة ذلك بأن غيابه يخل بالعملية السياسية. ورفضت المشاركة في حوار يقتصر على القوى المدنية فقط، "لأنه لن يثمر ولن يكون ذا فائدة في ظل غياب أحد أطراف الأزمة".
كانت "الجبهة الثورية" حريصة على تنفيذ "اتفاق جوبا للسلام"، لكن بات الاتفاق مهدداً لأن القوى المدنية والمسلحة التي وقع الاتفاق تحت ضغطها لم يبق منها إلا اسمها وانشقت إلى كيانين باسم "الجبهة الثورية".
الكيان الأول وقع مع "المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير" على "الإعلان السياسي" في سبتمبر (أيلول) الماضي، وانضم إليه 40 من القوى السياسية شملت فصائل من "الجبهة الثورية" باستثناء "حركة العدل والمساواة" و"حركة تحرير السودان جناح مناوي".
إضافة إلى أحزاب أبرزها "الأمة القومي" و"المؤتمر السوداني" و"التجمع الاتحادي" و"التحالف السوداني" و"البعث العربي الاشتراكي" و"الاتحادي الديمقراطي" و"تجمع المهنيين السودانيين" وبعض منظمات المجتمع المدني.
وتعهدت تلك القوى بإنشاء هيكل تنظيمي لتوحيد قوى ثورة ديسمبر، وتأكيد إجراء الانتخابات العامة في موعدها، والالتزام بتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة عقب نهاية الفترة الانتقالية.
أما الكيان الآخر فوقع مع أحزاب منشقة من "قوى الحرية والتغيير" على "الميثاق الوطني لوحدة قوى الحرية والتغيير" في أكتوبر الحالي، ويضم حركتي "جيش تحرير السودان جناح مناوي" و"العدل والمساواة"، وأحزاب في مقدمتها حزب "البعث السوداني".
وعليه ستعمل هذه الفجوة الواسعة في المواقف السياسية على عرقلة الاتفاق مع المجلس العسكري في بنود مهمة على رأسها تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، مما قد ينتج منه عودة الصراع بأكثر مما كان عليه في دارفور، ومنطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة.
أما التأثير الآخر فسيكون على التسوية السياسية المطروحة، إذ دعت "الحركة الشعبية لتحرير السودان - التيار الثوري الديمقراطي"، بقيادة ياسر عرمان إلى الاستمرار في الاحتجاجات وتعزيز المقاومة الشعبية لإسقاط الانقلاب، وأنها "الحركة" ليست طرفاً في أية تسوية وتسعى لوحدة قوى الحرية والتغيير وبناء جبهة مدنية بعيداً من مجموعات المصالح التي تحاول استيعاب الفلول (أعضاء النظام السابق).
خلل بائن
تثبت هذه الاختلافات وجود خلل بائن في مراحل الفترة الانتقالية التي بدأت بوضع وثيقة دستورية لم تستطع إكمال المسيرة السياسية، وعندما ألغيت تحول التفاوض والمحادثات من علنية إلى سرية لكيلا يوصم المدنيون بموالاة العسكريين بعد إجراءات 25 أكتوبر.
ومما يبدو أن هذه اللقاءات في مجملها ليست نتيجة لإرادة سياسية حقيقية، لكن نتيجة لضغوط "الآلية الثلاثية" التي بدت أخيراً مرحبة بما سمته "الزخم" نحو التوصل بالأزمة السودانية إلى حل، استشفته من التصريحات الأخيرة للفريق البرهان ووصفتها أيضاً بأنها "مشجعة"، تبدأ بتشكيل حكومة مدنية ذات صدقية لتوجيه السودان عبر الانتقال إلى الديمقراطية والسلام.
وبهذا تكون "الآلية الثلاثية" وضعت الكرة في ملعب المؤسسة العسكرية، وقطعت بأن دعم المجتمع الدولي سيكون لتسيير مفاوضات عسكرية - مدنية، إن تم التوصل إلى تسوية مستدامة كما هو مقرر له، يصدق القول إن الأطراف التي اختارت الانقسام بما فيهم المنشقون عن "الجبهة الثورية" راهنت على الحصان الخاسر، وهي عادة تلازم أغلب القوى السياسية السودانية ناتجة من تضخيم للدور السياسي، وضعف القراءة الصحيحة لوقائع الأحوال.