Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بيت بلا نوافذ" مسرحية سورية تسترجع مأسوية نساء لوركا

المخرج ياسر دريباتي سار على خطى مسرح المضطهدين للبرازيلي أوغستو بوال

يقتحم الموكب المسرحي لـ 30 فتاة وسيدة الممر الواصل من الجبل إلى متنزهات غابة "جوفين" في بلدة الدالي بريف اللاذقية. نساء متشحات بالسواد يرددن بنبرة جنائزية أقرب إلى نبرة الجوقة اليونانية القديمة "في هذا الليل المسربل بالحيرة، في زمن الفوضى المنظمة والتعسف المدبر، والإنسانية التي فقدت إنسانيتها، في هذا العالم الشبيه بمسلخ كبير، نريد أن نوقد جذوة الحب، أصبح مجده باهتاً، واسمه مشبوهاً. لهذا قررنا أن نقرع لمجده الطبول، كي تمتد جذوره في حارات البؤس، ويدوي صوته في أعماقنا".

هكذا بدأ المخرج ياسر دريباتي ثالث عروضه في المسرح التفاعلي مع المنظمة الدولية UNDP (الجهة المنتجة للعرض) ضمن مشروع دعم المرأة اجتماعياً وثقافياً في المناطق الريفية. فبعد تقديمه عرضين في هذا السياق هما "امرأة... نساء" 2017 و"تانغو" 2019، يعود المخرج السوري هذه المرة بعرض "بيت بلا نوافذ"، ولكن تحت عنوان أوسع هو التنمية البشرية. ولدت فكرة العرض من واقع اجتماعي تعيشه المرأة في سورية بفعل تداعيات الحرب والأثمان الفادحة التي تدفعها. سواء كانت أماً أو وزوجة أو أختاً أو صديقة. فالمرأة هي الشهيدة الحية للحرب السورية، كما يخبرنا الفنان دريباتي. ويضيف "بعد وفاة الزوج تعيش نساء كثيرات هنا على هامش الحياة. تعد الأيام والسنوات انتظاراً للفراغ وللعدم، إذ يترتب عليهن أن ينتظرن بصمت، ويقبلن التمييز الذي يلاحقهن حتى في الموت، فحتى خروجهن في جنازة من يحببن مكروه إلى حد التحريم".

مسرح المقهورين

 

في خوض تجربة كهذه اعتمد دريباتي منهج البرازيلي أوغستو بوال (1931-2009) في المسرح التفاعلي، أو ما بات يسمى مسرح المقهورين والمستضعفين، عبر تحريض مجموعة من النساء على قول حكاياتهن وتوريط معظمهن في الفعل المسرحي، وخوض تجربة التمثيل أمام جمهور لأول مرة. تجربة فنية اجتماعية ثقافية حاولت تقديم الصوت الفردي، وأسهمت في تطوير أدوات التواصل التعبيرية الإبداعية للنساء المشاركات، مما جعل مخرج "بيت بلا نوافذ" يقوم بخلق علاقة جديدة للتلقي في مسرحه، معتبراً الجمهور عنصراً من عناصر العرض المسرحي. اعتمد دريباتي على مشاهد قصيرة تعرض حادثة عن مشكلة ما، لتشكل هذه المشاهد نقطة انطلاق عرض يتطور مع تفاعل الجمهور معه. فالجمهور في ما يسمى "مسرح المضطهدين"، هذا هو من يقرر كيفية تطور الأحداث، فيسهم في خلق عدة اقتراحات لنهاية المشهد. ومن ثم يتم تنظيم هذه اللعبة المسرحية من قبل شخصية تدعى "مدير اللعبة" الذي يقود تفاعل الجمهور مع المشاهد من نقاشات وحوارات واقتراحات لإعادة إنتاج العرض ضمن المفاهيم المطروحة.

نص "بيت برناردا ألبا" لفيديريكو غارثيا لوركا (1898-1936) كان هو المدخل الدرامي لهذه اللعبة، والأداة الفنية لتعرية ما سماه القائمون على العرض "النفاق الاجتماعي" الذي يخنق صوت عديد من النساء السوريات اليوم تحت لافتات احترام التقاليد والأعراف الاجتماعية، والغرق في الحداد الأبدي. فإذا أراد المسرحي الإسباني أن يكون "بيت برناردا ألبا" وثيقة فوتوغرافية عن نساء ريف إسبانيا عام 1936 في خاتمة ما يسمى ثلاثيته الفلاحية بعد نصيه "يرما" و"عرس الدم"، فإن "بيت بلا نوافذ" أراد بالاتكاء على نص الشاعر الإسباني لتقديم تجربة إنسانية فنية تحرر صوت النساء العميق والمكبوت ضمن فضاء درامي مفتوح، وتسهم في إنتاج ذهنية جديدة خارج مسارح العلب الإيطالية ومقاييس عمرانها الصارمة.

نص لوركا

 

يروي "بيت بلا نوافذ" حكاية النص الإسباني ذاتها، ففي ظل غياب الرجل تنصب برناردا (نيرمين علي) نفسها بديلاً عنه في الحفاظ على العادات والموروث الاجتماعي السائد، فتحكم عائلتها المكونة من خمس فتيات (اختصرها العرض السوري إلى اثنتين هما براءة حسينية وحنان نعمان)، بقبضة من حديد، حفاظاً على شرف العائلة وسمعتها، لكن الشرف سيهدر، والسمعة ستلوكها الألسنة، وتظل الأم مستمرة في تحكمها كطاغية، حتى بعد انتحار أديلا صغرى بناتها. ففي النص الأصلي تعلن برناردا الحداد لمدة ثماني سنوات بعد موت الأب، وتغلق النوافذ والأبواب، ولا تسمح بمرور حتى نور الشمس إلى داخل ردهات البيت الأشبه بسجن.

 

يبدأ العرض بتقديم رقصة تعبيرية رافقها صوت غناء (هبة الأسعد) استقاها المخرج من رقصات الفلامكنو الإسبانية معشقة بروح عربية (أداء حلا حبيب ونور شحادة)، وجسدت هذه الرقصة حلم البنات بالانعتاق نحو الحرية، والهرب من سلطة السجن الاجتماعي (سلطة الأم برناردا) التي تمسك بزمام الأمور كديكتاتور، فارتجل مخرج العرض منصة تحفها ستائر بيضاء شفافة، إلى جوار مقام ديني معروف في جبل جوفين الذي يرتفع عن سطح البحر نحو 1000 متر، بينما اختار الموسيقى الحية (تأليف بيرج قسيس) كمرافق مباشر لأحداث المسرحية، عبر أداء كل من عازفتي التشيللو (جويل علي، وآنا عكاش) اللتين برعتا في مفصلة مقاطع العرض ولوحاته، وساهمتا في جعل الموسيقى عنصراً درامياً في العرض الذي أفاد من مسرح الحلبة اليوناني، وتقديمها كمكان مستوٍ شبه دائري أقرب إلى شكل حدوة حصان، وفيه قامت الجوقة (الكورس) برواية الأحداث عبر أناشيد ورقصات محلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يأتي عرض "بيت بلا نوافذ" ضمن تجربة طويلة خاضها الفنان ياسر دريباتي في المسرح المستقل، والذي كان قد بدأه مدير "البيت العربي للموسيقى والمسرح" عام 2005 بإقامة مهرجان دولي للمونودراما في مدينة اللاذقية، ليتوقف عام 2012، بعد انعقاد لثماني دورات. وعن هذا يشرح دريباتي لـ "اندبندنت عربية"، "يصعب الحديث عن مسرح مستقل أو مسرح خاص في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد اليوم، إذ يصبح العمل المسرحي نوعاً من الترف الفكري والفني. ويمكن القول إن حال المسرح الخاص في أحسن حالاته، هو حال المسرح السوري الرسمي الذي لم يستطع بسنواته المديدة، بناء هوية واضحة له، بحيث بقي مجرد تجارب متناثرة. فازدهار المسرح وتطوره لا يكمنان في موهبة المشتغلين فيه، سواء كانوا كتاباً أو مخرجين أو ممثلين فقط، وإنما في وجود ريبرتوار مسرحي تقوده خطة فكرية عامة، وأساليب تكنيكية مشتركة".

بقيت تجربة المسرح الخاص أو المستقل في اللاذقية غير واعدة، وتعوزها الخبرة والجدية، كما يعوزها الطموح الأصيل في تحرير الذات من قيود التخلف بجميع أشكاله، والنهوض بالإنسان وتفعيل دوره في نشر قيم المعرفة والجمال. يوضح دريباتي مجدداً. ويضيف "المسرح الخاص في اللاذقية في السنوات العشر الأخيرة دخل طوراً جديداً في تعطيل الحركة المسرحية الجادة والأصيلة، عبر انتشار ما يسمى مراكز تدريب مسرحية هي أشبه بدكاكين تبيع الفن كبضاعة فاسدة، ويغلب على عروضها المجانية والاستسهال، وتكريس السائد باعتباره أمراً اعتيادياً".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة